صلاح.. قصة قصيرة

يسري ربيع داود | كاتب وناقد | مصر

كان قرص الشمس قد بدأ يلوح في الأفق، يغازل نسماتٍ باقيةً من نفحات الفجر القريب، فتتهافت تلك النسمات الرطبة تحت وطأة انبلاج الأشعة التي تتهادى في كسل لتعم كافة الأرجاء. كان ذلك عندما دخل وسط موجة من الشباب عبر البوابة الواسعة المفضية إلى ثكنات، مكونة جميعها من طابق واحد، بجوارها مظلات على مسافات متقاربة، توزعت على أرضها مجموعة من المقاعد الخشبية التي تسع أربعة من الأفراد . يسلك يده في جيبه فيمسك بين أطراف أصابعه بالكارت الذي أعطاه له والده ليلة أمس. كان قد أخبر والده بعد المغرب بأنه ذاهب في الصباح الباكر إلى منطقة التجنيد، فأخرج الوالد محفظته، وقلب في جنباتها، بين الأوراق والصور التي يحتفظ بها لكل ابن من أبنائه، دلق كل ذلك أمامه، وأخرج من بينها ( كارت) قد هفتت أطرافه، وقال له :
_ خذ هذا، واسأل على صاحبه، لا تيأس حتى يدُلُّوك عليه، لا تخف ولا توجل.
اطمأن لوجوده في جيبه، ودخل مع أقرانه، حتى إذا دنا من أحد العساكر، بشريطتين على عضده، يقف على بوابة إحدى الثكنات ، فابتسم له ابتسامة مصطنعة وهو يسأله عن العقيد محسن الخياط. رمقه بنظرة مستفسرة، وتذكر قول والده : عندما تسأل عنه، كن كمن يعرفه، ولو سألوك عن الصلة بينكما، قل لهم إنه خال أبي.
ذكر ذلك للعسكري الذي أشار له على المبنى الرئيسي لقيادة المنطقة. تقدم بخطوات واهنة، تدور في رأسه الظنون، فهل سيذكر الرجل هذا الكارت الذي وهنت أطرافه بفعل بقائه في المحفظة طيلة هذه الفترة الطويلة ؟
دخل إلى مكتبه، وأعطى الكارت للعسكري الواقف بالباب، رماه بنظره من أعلاه لأسفله، نظرة تستكثر عليه وهو بهذا الهندام المتواضع أن يكون على صلة باللواء، قائد المنطقة. تأخر العسكري عن الرجوع إليه، ولما رجع لم يذكر له شيئًا عن دخوله من عدمه، لكنه فقط أشار إليه بالجلوس إلى الكنبة الجلدية الفخمة في صالون الانتظار. لم يعرف كم مرّ عليه من الوقت، لكنه تذكر مجلسه ليلة أمس مع والده بعدما أعطاه الكارت، وقد لملم محتويات المحفظة، ثم أعادها إلى جيبه وهو يقول له :
_ في إحدى السنوات، كنت سائقًا لإحدى حافلات الحجاج من علية القوم، وكانت حافلتي مميزة بركابها رغم تشابهها من الخارج مع باقي الحافلات، صعدت سيدة على عصاتين وجلست على الكرسي الأول، لم تكن من ركاب الحافلة المميزة، ولا تشبههم، فأقبل عليها المَشرف على الرحلة ، وعلا صوته يأمرها بالنزول، فغلى الدم في عروقي وأقسمت بأنها لن تنزل ولو كلفني ذلك خروجي إلى بلدي في الحال، ولما رأى إصراري تراجع عن موقفه في الحال، وطيبت خاطرها ونزلت أبحث عن ابنها، وركب دون أن يعلم شيئًا، وفي أول استراحة أقبل علي بهيئته الجادة الوقورة ووجدته يشكرني، بعد أن حكى له الحجاج ما حدث، وأخرج من جيبه ذلك الكارت وقال لى : إذا احتجتني في أي وقت ستجدني في خدمتك، فلا تتردد أبدًا، وكتب خلفه: إلى صلاح ( الإنسان) ، لك جميل في عنقي.
أقبل العسكري، يشير إليه بالدخول، فدخل يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، ومن فرط أبهة المكان، وجمال السيفين المتقاطعين على كتفه فكر في الرجوع إلى الخلف، فكيف لهذا الرجل أن يبحث في ذاكرته عن حدث بسيط لسائق التقاه مرة واحدة في حياته؟ لكنه سعد عندما خرج الرجل من كرسيه الوثير ليحيى ذلك القروي البسيط، حياه بحرارة، أجلسه إلى كرسي الزائر، وجلس أمامه، نادى على العسكري، طلب منه كوبًا من الليمون بقطع الثلج الطافية ، حياه بحفاوة، وقال له :
_ أنت تعرف صلاح؟
رد عليه وقد انفرجت أساريره : نعم، إنه أبي!
تهلل الرجل، وحيّاه كما لم يكن قد حياه من قبل، وقال له :
_ ما حاجتك؟
أخبره بأنه جاء ليسمع سلاحه ويعرف كتيبته.
صمت الرجل لحظة وقد حكّ بسبابته أسفل شفته وهو يرمقه بنظرة كلها لطف، قال له :
_ أي سلاح تود؟
وقبل أن يجيبه، أكمل كلامه :
_ أم أنك لا تريد حضور مركز التدريب؟
حاول الفتى الكلام، وقبل أن ينطق، أكمل الرجل :
_ لوالدك دين في عنقي، لا يكفيه رد ، ، ما رأيك بأن تكون بجانبي هنا، وسأراعيك في الإجازات، وتكون فرصة طيبة لمقابلة الرجل الطيب، والدك؟
ابتسم الولد ابتسامة خجولة، لقد كان الرد مفاجئا!
نادى الرجل بصوت عميق وجليّ:
_ يا عسكري ، خد أبا صلاح، خلص له إجراءات البقاء معنا هنا، ولا يرجع إلا بعد شهر .
خرجت من عنده، لا أفكر إلا في شيء واحد، كيف ارد ذلك الجميل لأبي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى