ضلالة هداية.. منبع الضلال (١٧)

رضا راشد | الأزهر الشريف

أربأ بك أيها القارئ الكريم أن تكون ممن يخدع بمن يطل عليه بباطله منتفشا بألقابه، مزهوا باسمه، مختالا فخورا بمنصبه وكرسيه، ممتطيا خيول شهرته، يتأبط دليلا أو أكثر على باطله؛ فما من أحد يقول باطلا وينطق لغوا إلا وله على باطله دليل. إذا لا مشكلة في عدم وجود الدليل ولكن المشكلة في صحة الدليل، واستقامة الفهم، مع سلامة النية وابتغاء الحق.

ومن هنا كان منبع كل ضلالة أمرين أحدهما أو كليهما:
(^) سوء الفهم جهلا..وهذا يشتفى منه بالعلم.
(^) سوء القصد هوى ..وهذا يشتفى منه بالإخلاص.

قال ابن القيم رحمه الله: “سوء الفهم عن الله ورسوله اصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد “.

وفي موضع آخر يقول: “وهل أوقع القدرية والمرجئة والهوارج والمعتزلة والجهمية والروافض وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله؟ “

وهذان الأمران – بكل أسف – يتجليان غاية التجلى في كلام محمد هداية واستدلالاته.

فأما سوء الفهم: فيتجلى في الاستدلال بالدليل على ما لا ينتجه ذلك الدليل أصلا، بل ربما على ما يدل الدليل على عكسه، كما رأينا في المقالة السابقة من الاستدلال بحديث النهي عن كتابة السنة على إنكار السنة أصلا (لا مجرد إنكار حجيتها)، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم انحصرت مهمته في البلاغ عن ربه، وأنه مستحيل ان يكون له كلام غير القرآن، مع أن النهي إنما كان عن مجرد الكتابة، وهذا يستلزم وجود شيء صالح لأن يكتب . فالحديث بلوازمه إنما يدل على عكس ما يستدل عليه .

وأما سوء القصد: فيتجلى ظاهرا في ليّ أعناق النصوص وصولا إلى مبتغاه، وفي عدم استقصاء النصوص والأدلة، ثم في عدم الاجتهاد في دفع التعارض الظاهري الموهوم بينها ..وهذا ما سأبينه بعد قليل إن شاء الله تعالى.

فإن قلت: سلمنا لك أن الحديث بلوازمه يدل على وجود السنة، ولكن ألست معي في أن النهي عن كتابة الحديث يمكن أن يكون ثغرة يتسلل منها إلى قلوبنا الشك في حجية السنة النبوية، من حيث إنها لم تحظ بما حظي به القرآن الكريم من عوامل التوثيق:حفظا في الصدور، وكتابة في السطور؛ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الآخرى كما قال العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله؟!

قلت: وهذا أيضا من سوءالفهم الناشئ عن فهم النصوص وفقا لظروفنا نحن وما نحن عليه من سوء الحفظ، بعكس ما يجب أن يكون من فهم النصوص وفقا للسياق التي قيلت فيه: زمانا، ومكانا، وأحوالا. فإن النهي عن كتابة السنة كان يمكن أن يكون دليلا على عدم حجيتها لو أن الحجية تثبت بالكتابة وحدها.أما وإن الحجية تثبت بوسائل كثيرة منها: التواتر، والحفظ، ونقل العدول الثقات، فلا ينتج الدليل ما استدل به عليه حنى من نفي حجية السنة.

وذلك أن النهي عن الكتابة لم يكن في قوم يعتمدون على الكتابة وحدها مصدرا للتوثيق، بل العكس هو الصحيح. لقد كان النهي عن الكتابة في قوم غلبت عليهم الأمية، فاعتمدوا في حفظ مآثرهم على المحفوظ في الصدور دون المكتوب في السطور، حتى أوتوا من قوة الحافظة ومتانة الذاكرة ما تقف أمامه العقول الآن حائرة: فكان منهم من يحفظ القصيدة الطويلة تقرأ عليه مرة واحدة في جلسة واحدة، ومنهم من كان يحفظ ما يلقى عليه من الحديث في المجلس الواحد، فيعيده لا يخرم منه حرفا واحدا، وكأنما كان قلبه مسجلا حديثا يسجل ما يتردد عليه من أي ذبذبات صوتية.

ولم تكن هذه الذاكرة القوية طارئة على العرب بعد الإسلام، فيسهلَ علينا الشك فيها، بل كانت أصيلة متجذرة فيهم منذ الجاهلية موغلة في أعماق التاريخ؛ أثرا لأميتهم من ناحية، ثم حبهم للشعر وحرصهم على الاحتفاظ به من ناحية أخرى، فلم يكن من بد أمامهم سوى الاعتماد على ذاكرتهم وسيلة للاحتفاظ بمعشوقهم الشعر، وكأنما كان هذا كله فيهم بقدر الله؛ تهيئةً لنزول القرآن فيهم قبل نزوله بمئات السنين، حتى إذا كان بعد حين ونزل عليهم القرآن وألقيت عليهم السنة كانت لهم من حوافظهم -التى طالما احتفظت بآلاف الأبيات من الشعر – خير وعاء للقرآن والسنة ..فحين نتجاهل هذه الظروف -التي قيل فيه الحديث- في فهم الحديث والاستدلال به لنسقط عليه عجزنا وضعف ذاكرتنا (الناشئ من الاعتماد على الكتابة في كل شيء حتى أصبح المرء فينا عاجزا عن تذكر رقم هاتفه)..حين نسقط ذلك على الحديث لنحاكم السابقين لعجزنا، فإنما هو سوء فهم، وأخشى أن يكون سوء قصد.

فإن قلتَ: سلمت لك بكل ما تقول، ولكن هذا لا ينفي أن يكون الشيء المعتمد في حفظه على الذاكرة وحدها أقل توثيقا مما اعتمد في توثيقه وحفظه على الحفظ والكتابة، وإلا ما حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على كتابة القرآن ولا كتفى بحفظ الصحابة له؟!

قلت: ذلك صحيح، ولكن هذا لو كان النهي الوارد في الحديث نهيا مطلقا غير مقيد بزمان ولا بأحوال معينة.ولكن .. أما وهذا النهي كان مقيدا بسياق زمني محدد فمن الخطأ المحض والباطل الصرف أن يستدل به على أمر مطلق.

فإن قلت:فما الدليل على ما تقول؟
قلت: جزاك الله خيرا؛ فقد أنصفت من نفسك..فاسمع إذن.

لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم بين قومه ثلاثا وعشرين سنة مجموع أيامها ٨٢٥٠ يوما تقريبا عدة ساعاتها ١٩٨ ألف ساعة تقريبا فلو افترضنا أن كل ساعة كانت تمر على النبي صلى الله عليه وسلم تتعدد فيها مواقف النبي مع الصحابة ما بين فعل يفعله، أو فعل يقره، أو قول يقوله: أمرا، أو نهيا، أو نصحا، أو إخبارا بغيب، أو تحذيرا من شيء..وغيرها مما لا يمكن أن يخلو منه مقام النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة ..فتدوين هذه المواقف كلها -على كثرتها- مما يقتضي وجود كتيبة كثيرة العدد من الكتبة والمدونين، وهذا لم يكن موجودا في الصحابة بحكم أميتهم الغالبة عليهم،كانت، ثم إن ذلك كان سيشغل الصحابة عن كتابة القرآن، ولا شك أن الحرص الأكبر كان على حفظ القرآن: باعتباره المصدر الرئيسي الأول للتشريع، ثم باعتباره المعجزة الخالدة الكبرى للرسول صلى الله عليه وسلم،ثم باعتباره متعبدا بتلاوته، بخلاف السنة التي يجوز روايتها بالمعنى . ثم إنه لا ينبغي أن نغفل عما ذكرناه قريبا من ذاكرة الأمة القوية، عمادا قويا لحفظ السنة التي قد يغيب بعضها عن بعض الصحابة لكن لا يغيب مجموعها عن كل الصحابة كما ذكر ذلك الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة.

وأيضا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خشي في بداية الوحي أن يختلط القرآن بالسنة في صحف الصحابة رضوان الله عليهم، باعتبار أن كليهما صادر عن رسول الله صلى الله عليه نابع من فيه الطاهر ..فكان النهي عن الكتابة أولا تفريقا بين القرآن والسنة…دون أن يعنى -إطلاقا- تضييعا للسنة.

هذا كله إذا افترضنا أن حديث النهي هو الوحيد في هذا الباب حتى يمكن أن نعتمد عليه وحده في الاستدلال.وإلا فإن هناك أحاديث أخرى تعارضه تدل على الإذن في كتابة السنة ..فما هذه الأحاديث؟وما صحتها؟ وهل هناك تعارض بينها وبين هذا الحديث؟ وكيف يمكن تفسير هذا التعارض الظاهر والجمع بين هذه النصوص التي ظاهرها التعارض؟
ذلك ما سيكون بمشيئة الله تعالى موضوع المقالة التالية.
يتبع إن شاء  الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى