المعلم إبراهيم صبيح: براعة صهر الرياضيات

بسام الكعبي | فلسطين

 

لم يكن صعباً على إبراهيم مرة طالب الهندسة في جامعة بلغراد اليوغسلافية أواسط الستينات، حل المعادلات المركبة في الرياضيات، وأثار تفوقه بمادة علمية جافة إنتباه المحاضرين في كلية هندسة الميكانيك؛ ويعود الفضل بتميّزه إلى المعلم إبراهيم صبيح.

خرّج الأستاذ صبيح طوال عشر سنوات (1960- 1970) عشرة أجيال مدرسية من طلبة كفر مالك شرقي مدينة رام الله، وقد لَمعَ بعضهم في مادة الرياضيات، ونافسوا زملاءهم في الهاشمية الثانوية (البيرة) والكليات المتخصصة التي تفوقوا فيها، وعثروا على قواعد منطقية وطرق سهلة في التعامل مع معادلات علمية جافة؛ تعلموها بمنطق من مدرس بَرَع في صهر الرياضيات، وتحويلها إلى مادة سائلة تتسرب بسهولة إلى عقول نخبة جيدة من طلبة مدرسة كفر مالك الاعدادية.

ولد ابراهيم حمدان علي صبيح في جبل المكبر (القدس) سنة 1938، وتميّز منذ طفولته بذكائه وقدراته الذهنية، وتفوق على زملائه في مدارس السواحرة، صور باهر والرشيدية. التحق طالباً في قسم الرياضيات بدار المعلمين في بلدة بيت حنينا شمال القدس، وقد أنشأها عبد الحميد شومان، مؤسس البنك العربي، إسهاماً بتوفير فرص لتعليم أبناء فلسطين بعد المرحلة الثانوية.

أشرف أستاذ الرياضيات النابلسي المرموق عبد الملك عرفات (1925- 2016) على تعليم الطالب إبراهيم في دار المعلمين أواخر الخمسينات؛ وبخاصة أن الأستاذ عرفات لمَع بوضع منهاج المدارس في المملكة الأردنية؛ واعتمدت وزارة التربية والتعليم، منذ أواسط الخمسينات، انجازاته العلمية في المنهاج، وطبعتها بكتب مدرسية، بعد أن أثبت جدارته في أسلوب تعليم الرياضيات بالمدارس الثانوية والكليات العليا.

فور تخرجه من دار المعلمين، تسلم إبراهيم صبيح سنة 1960 قراراً من وزارة التربية والتعليم بتعيينه معلماً للرياضيات في مدرسة كفر مالك الاعدادية، وقد أقام منفرداً في بيت متواضع بجوار المدرسة. اكتشف منذ اليوم الأول ضعف الطلبة في المساق، فأجبرهم طوال عشر سنوات على حضور حصة اضافية على السابعة من صباح كل يوم قبل بدء دوام المدرسة، وواصل تطوعه المنتظم بإعطاء دروس اضافية في الرياضيات والرياضة بعد الدوام، وواظب على هذا العطاء طوال سنوات وظيفته؛ دون استعراض أو انتظار تكريم أو رسالة شكر وتقدير.

انتمائه الحقيقي للوطن، ولأفكاره التقدمية، واخلاصه لمدرسته، وتنوير طلبته بالمعرفة والأفكار اليسارية، وحبه لأهالي بلدة كفر مالك واقامته الطويلة بينهم؛ وعلاقته المتينة برفيقه عبدالله البياع: مناضل صلب قضى ثماني سنوات في سجن الجفر الأردني وأربعة أعوام في الاعتقال الإداري في سجون الاحتلال أواسط السبعينات خلال قيام الجبهة الوطنية؛ كل ذلك دفع الأستاذ صبيح إلى العطاء دون حدود في حقل تخصصه العلمي، وتوظيف موهبته في الدبكة الشعبية، وتفعيل قدراته في التربية الرياضية باشرافه على تشكيل فرق لكرة القدم والطائرة والطاولة، وشاركتْ الفرق في عدة مسابقات رياضية على مستوى محافظة رام الله، ونافستْ بقوة، ونال عدد من الطلبة جوائز تقديرية في المسابقات الرياضية، وساهم بإبراز طاقات شبابية في الدبكة والعزف على الناي.

ساهم أواسط الستينات بتعليم شقيقه الأصغر محمود صبيح (1942) في جامعة الاسكندرية بجمهورية مصر العربية، وتخرج من كلية التجارة وإدارة الأعمال سنة 1967. لم يتمكن الخريج محمود من العودة إلى الوطن بسبب الاحتلال، وأقام في الأردن حيث تسلم مناصب إدارية رفيعة في مصانع الورق والكرتون والاسمنت، قبل مغادرته إلى السعودية لتسلم منصب المدير العام لشركة الاسمنت، وأقام بعد تقاعده منذ سنوات في كندا.

أهمل إبراهيم صبيح قبوله بكلية العلوم في جامعة دمشق، وقرر الالتحاق بمعهد بيت حنينا للمعلمين لضمان وظيفة في سلك التدريس للمساعدة في تعليم شقيقه بجمهورية مصر العربية، والاسهام في دفع تكاليف معيشة أشقائه وشقيقاته، وكذلك أسرته عقب زواجه من إحدى قريباته سنة 1962 وانجابه لنجله البكر عادل سنة 1965.

تعرض الأستاذ إبراهيم سنة 1970 للاعتقال في سجون الاحتلال بذريعة العلاقة مع خلية سرية للمقاومة الفلسطينية، وقضى تسعة أشهر في سجون الاحتلال قبل إبعاده سنة 1971 إلى الأردن. فَقَدَ وظيفته كمعلم فذ للرياضيات، ولم يتمكن من اعادة الالتحاق بسلك التربية والتعليم الأردني، وخسرتْ مدارس المملكة معلماً بارعاً في تعليم الرياضيات ومتمكناً في تشكيل فرق رياضية.

استعاد فريد مرة (1956) أحد الطلبة المتفوقين بمادة الرياضيات في المدرسة الهاشمية (حالياً مركز بلدنا الثقافي) ونال بكالوريوس في التخصص العلمي من جامعة بيرزيت أواخر السبعينات؛ دور أستاذه في تعليمه وزملائه: “استقبلت (الهاشمية) طوال عشر سنوات طلبة متميزين في الفرع العلمي من طلبة مدارس شرق رام الله، لكن أكثرية كانت من طلبة  كفر مالك الذين لمعوا بحقل تخصصهم العلمي. كنتُ من بين ستة طلاب تنافسوا مطلع السبعينات على بطولة تنس الطاولة على مستوى محافظة رام الله ؛ ويعود الفضل لبلوغهم مرحلة التصفيات النهائية إلى الأستاذ صبيح، وقد أسهم بتأسيس طلاب مدرسة كفر مالك رياضياً وعلمياً بمنتهى الاخلاص والتفاني، وأنشأ فريقاً لكرة القدم من شباب البلدة”.

عقب الابعاد عن الوطن، عمل الأستاذ صبيح إلى جانب أحد أشقائه في شركة لبيع الملابس في أسواق عمان.

أقام مبعداً في الأردن حتى عاد بتصريح زيارة إلى القدس المحتلة مطلع التسعينات، وتقدم بأوراق جمع شمل مع أسرته، واستعاد بطاقته المقدسية عقب توقيع اتفاقيات أوسلو أواسط أيلول 1993 بين منظمة التحرير وسلطات الاحتلال. هاجر أحد اولاده للاقامة في السويد وأنهى فيها دراسته العليا، وأكمل أبناؤه دراستهم الجامعية ونجحوا في أشغالهم.

اشتغل أربع سنوات عاملاً داخل “الخط الأخضر” لتغطية تكاليف معيشته في جبل المكبر، قبل أن يتمكن النائب عبد الفتاح حمايل، من تقديم وثائق تثبت خدمة أستاذه صبيح في سلك التعليم الفلسطيني ومدارس الضفة الغربية، ونجح بتوفير حق المعلم براتب تقاعدي يغطي احتياجاته الشخصية البسيطة.

رحل المعلم صباح الأربعاء 5 كانون أول 2018 عن عمر تجاوز الثمانين، وقد استدعى رحيله الأحزان في نفوس طلبته المتفوقين، وأبدى الدكتور ابراهيم مرة  وأشقاؤه: التربوي فريد، المهندس محمد والطبيب نزار، وطلبته المتفوقين الدكتور عفيف حسن، الدكتور حمد الله بعيرات، والأساتذة زكي طرشان، سعيد عبد الهادي وجهاد راجح وغيرهم مما  نالوا نجاحاً كبيراً بفضل تفاني المعلم  صبيح؛ استعدادهم للبحث عن أفضل طريقة لتكريم أستاذ رياضيات ورياضة بنى العقل والجسم معاً؛ وذلك وفاء لعطائه في مدرسة كفر مالك، وتفانيه في خدمة أهالي البلدة؛ لعل سيرته الطيبة تظل مرجعاً للسلوك الأخلاقي، والقيم النبيلة، والالتزام بقضايا الوطن وهموم الناس؛ بعيداً عن الخطابات الفارغة، والاستعراضات المزيفة، والشعارات الصماء المجردة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى