عبثية فن الممكن في الحالة الفلسطينية

يونس العموري | فلسطين

ما بين فن الممكن وفن المستحيل تكمن الحكاية الفلسطينية بكل فصولها، حيث باتت عبارة فن الممكن وتحقيق الممكن من خلال المسيرة التسووية هي الشغل الشاغل للقيادة الرسمية ولقادة الرأي والموقف الفلسطيني في الوطن المقسوم والمسلوب الإرادة، وإنجاز وتواصل التهدئة بالشطر الأخر من الوطن من خلال الممكن لترسيخ الحكم العقائدي بقطاع غزة أساس فعل القادة هناك، وسياسات الممكن قد اصبحت هي الأساس في النهج القيادي الفلسطيني على مختلف توجهاتها وكأنهم قادة لأحزاب في دولة ذات سيادة يحترفون العمل السياسي.

ومن خلال رصد وقائع الحركة السياسية المعاصرة بكافة مراحلها في الأراضي الفلسطينية المحتلة نلاحظ ان العمل السياسي بكافة دهاليزه وأطره قد أصبح سياسة لفن الممكن حفاظا على مصالح مراكز القوى المتنفذة على مختلف مستوياتها واشكالها، بل إن العمل السياسي قد تحول وفي معظم الدوائر لفن تحقيق الوصول عبر الموقع التنفيذي أو التشريعي، إلى أعلى المرتبات، وتأمين وظائف للأبناء والأقارب، وتحقيق المصالح ذات الطابع الشخصي والفردي، وحتى المصالح التنظيمية الحزبية على أرضية الحسابات الفصائلية ومصالحها إولا. وإهمال القضايا ذات الاتصال المباشر بالجمهور والتي لها علاقة مباشرة بنبض وجوده واستمراره وتوفير مقومات الصمود والانتقال من حالة ردة الفعل إلى حالة الفعل والمبادرة على طريق تحقيق تطلعات وطموحات الجماهير الرابضة في ظل الاحتلال.

وهنا لابد من إجراء مراجعة فكرية سياسية لماهية الواقع المعاش بالظرف الراهن، وهل أصبحت سياسات فن الممكن هي حجر الزاوية الاساسي التي تتحكم بمسار العمل الوطني؟  أعتقد أننا بحاجة لإعادة صياغة مفاهيم العمل السياسي الفلسطيني من جديد على قاعدة إعادة توصيف طبيعة المرحلة ذاتها حيث مقولة إن السياسة فن الممكن قد باتت تتردد على ألسنة الكثير من الأكاديميين العرب الذين يحترفون دراسة العلوم السياسية وفقا لنظريات سياسية غربية لها أهداف تطبيقية بعيدة المدى على مستوى المنطقة ككل، تصب في خانة استعمار الشعوب والسيطرة على مقدراتها عن طريق فعل التدجين والتهجين للجماهير وإحالتها إلى حالة شعبوية مستهلكة لكل ما من شأنه أن يخدم أهداف ما وراء هذه النظريات في إطار سياسات فن الممكن، ومحاولة الإيحاء بأن إنجاز التغيير المطلوب وإنجاز أهداف عملية التحرير وتحقيق سيادة الشعوب على أرضها وتقرير مصائرها واحدة من المستحيلات وبالتالي يتم دقع الشعوب بكافة قواها وفعالياتها الحية نحو العمل السياسي ضمن هوامش فن الممكن تحقيقه من خلال هكذا نظريات مصممة على مقاسات أنظمة الحكم المتناغمة ومصالح رعاة المنطقة وبالتالي مشاريعها.

إلا أن الحالة الفلسطينية من المفروض أنها مختلفة ولا أساس لنظريات سياسات فن الممكن في أجندة التعاطي السياسي والقضية الفلسطينية ذاتها، على اعتبار أنها قضية تخضع لمنطق الصراع بين الظالم والمظلوم، ما بين الاحتلال والجماهير الفلسطينية التي أبدعت وابتدعت كل أشكال الفعل والفعل المقاوم، وكانت إن أطرت ذاتها في بوتقة الفعل الكفاحي من خلال إنجاز الإطار الثوري الذي اعتمد النظرية الثورية ذات الطابع النضالي كأسلوب للتصدي لسياسات الاحتلال ومحاولته طمس هوية الحضارية العروبية، وبالتالي اعتمد على فنون العمل الثوري والذي ما كان يوصف بفن المستحيل.

وما بين فن الممكن وفن المستحيل خضعت فصول الحكاية الفلسطينية للشد والجذب. والمستحيل هنا ليس المقصود به استحالة تحقيق أهداف الشعوب بل إنها عملية تغيير شاقة للواقع السيء المُعاش، حيث إن انطلاق العمل الثوري وإعلان حالة العصيان وبكافة السبل والوسائل الممكنة والمتاحة في وجه الاحتلال وسياساته يعتبر الطريق الوحيد التي على الشعوب السير فيه ومن خلاله، وإلا فإن مصيره سيكون ضياع هويته وطمس معالم وجوده الإنسانية والحضارية.

وغالبا ما يكون الظالم (الاحتلال) ذا قوة مادية جبارة وغالبا ما يكون المظلوم (المُحتل) ضعيف الحال المادي وحيث ذلك فإن عبارة السياسة فن الممكن تعطي المظلوم جرعة من الجبن والتخاذل كي يكسر إرادته للظالم ويستسلم له، لكن إذا ما حسبنا الإمكانيات الروحية للمظلوم فنجد أنها هائلة لأن إحساسه بالظلم له رد فعل عكسي حسب القانون الثالث لنيوتن (لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه) أي أن المظلوم يملك بحسب القانون المذكور طاقة روحية (تتحول إلى طاقة مادية) تعادل طاقة الظالم القوي الجبار.

إن عبارة السياسة فن الممكن!!؟؟ قامت عليها كل الاتفاقيات السياسية للأمة من اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل واتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل إلى اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وأخيرا صناعة وصياغة التهدئة بقطاع غزة. وما خفي لربما يكون الأعظم ….

وبالعودة لسياسة الحسابات الدقيقة في مفاهيم فن الممكن وتحقيق الانجازات من وراءها وفن المستحيل وتحقيق المُراد من خلاله نلاحظ ان حزب الله مثلا واجه إسرائيل في الحرب السادسة 2006 وخاض معها حربا مدتها ثلاث وثلاثين يوما كسر فيها شوكة الجيش الدفاع الذي لا يقهر الذي كان يدوس على بطون عشرين جيشا عربيا متخصصين في قمع مواطنيهم بالأساس.

حينها لم يحسب حزب الله فن الممكن ولو حسبها لاستسلم ولن يلمه أحد، وكذلك عبد الناصر عام 1956 لو حسب فن الممكن لما أمم قناة السويس وواجه بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وسطر ملحمة تاريخية بدماء أبطال بورسعيد وأبطال الشعب المصري، كذلك لم يحسب ياسر عرفات فن الممكن عندما واجه الجيش الإسرائيلي المنتصر قبل عام في معركة الكرامة عام 1968 حيث انهزم الجيش الإسرائيلي. ولم يحسب كذلك فن الممكن في مفاوضات كامب ديفيد حينما قال اللا بحضرة سيد البيت الأبيض ورفض اطروحات التسوية السياسية.

مرة أخرى أعتقد أن الحالة فلسطينية بحاجة إلى ثورة على وقائع وتفاصيل سياسات فن الممكن الراهنة التي باتت مسيطرة على العقل القيادي الفلسطيني وفلسفته اتجاه مختلف قضايانا الأساسية والجوهرية وبهذا السياق لابد من إعادة تموضع جديدة لفن الثورة والمقاومة ونبذ قوانين احتراف العمل السياسي ودهاليزه التي أصبحت تثقل كاهل قضيتنا وتحملها ما لا يمكن احتماله كالالتزام بقوانين العمل السياسي الدبلوماسي واصوله.

إن عبارة (السياسة فن الممكن) هي جزء من سياسات القوى الاستعمارية لضمان الخنوع والاستكانة لأجندتها في سبيل إنجاز التخاذل والاستسلام وإطفاء جذوة المقاومة بكافة أشكالها…

ومن خلال فن الممكن يكون الممكن مستحيل في بعض الأحيان ويكون التأويل ومحاولات التسويف لإحداث المطلوب وفقا لأجندات القوى ومراكزها لخدمة الخدمات التي قد تكون مشبوهة، ومن خلال الممكن أيضا تكون الانتخابات الممكنة لممارسة الديمقراطية التي قد طال انتظارها لتجديد النظام الرسمي ومحاولة اختراق القائم بقوة الأمر الواقع وإيقاف التشظي والتلظي في جدران الوقائع الفلسطينية.

وهنا لابد من التوقف ومحاولة فهم ما يسمى بفن الممكن في ادارة الصراع مع كل التحديات القائمة والفارضة لذاتها على الساحة الفلسطينية عموما جراء فرض وتطويع قوانين المرحلة، وهل من الممكن أن تكون الانتخابات أسلوبا قادرا على الانتقال بالحالة الفلسطينية إلى ما يجب ان تكون عليه؟  والشك هنا هو سيد الموقف على اعتبار أن الانتخابات ما هي إلا محاولة لإعادة ترسيم النظام وترسيخ منهج السلطة القائمة بقوانين أوسلو وعباءة ضياع المرحلة، وأيضا على أسس فن الممكن، حيث إن فن الممكن هذا يتمظهر الأن عشية انتظار الكل لإصدار المراسيم الرئاسية الخاصة بالانتخابات لتتجلى نظريات فن الممكن لإدارة الأزمة الراهنة الفلسطينية وإدارة وقائعها وتداعياتها، تلك الأزمة الفارضة نفسها على كل حيثيات الحالة الوطنية، والممكن هنا يتمثل في إدراك طرفي معادلة الانقسام والتشظي الوطني بضرورة تقاسم الممكن واللعب على التناقضات الممكنة وذر الرماد بالعيون، فالكل غارق في الأزمة ولا يبدو أن ثمة مخارج متبلورة لديهم لطالما أن التعامل قائم على أساس النظريات السياسية الحاكمة لمنطق الفعل التسووي الممكنة وفقا لأطرحاوتهم بصرف النظر عن فعل التسويق لأطروحة هذا الطرف أو ذاك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى