قراءة في تجربة الشاعر الفلسطيني حسين مهنا

نبيل عودة

nabiloudeh@gmail.com

رصدت ابداعات الشاعر الرائع حسين مهنا، ابن قرية البقيعة – قرية الشعراء الجليلية، منذ بدأ ينشر قصصه باسم مستعار في مجلة “الغد”، كنت ارى في قصصه روحا تتجاوز النص الدرامي الى النص الشعري، لم يمض وقت طويل حتى كشف عن اسمه والتزم الشعر منهجا وطريقا، رغم اني كنت اتمنى لو طور ادواته القصصية ليظل معي في ساحتي التي أعشقها أكثر. مع ذلك وجدتني مغرما بنصوص حسين الشعرية،التي تتميز بالبساطة في اللغة والتعابير، القوة في البناء الشعري، الثراء في الصور الشعرية وهو الأهم في تركيبة القصيدة حسب مفاهيمي.

من هنا رؤيتي الأساسية بأن المكانة الشعرية والأدبية التي يتمتع بها الشاعر حسين مهنا، ابن بلدة البقيعة الجليلية، ليست وليدة الصدفة، ليست وليدة علاقات عامة أو ظروف سياسية أو غيرها دفعته نحو الطليعة. فهو لا يحسن تسويق نفسه، انما ما دفعه للطليعة الشعرية في ثقافتنا المحلية، جهد واتقان وعشق للكلمة والنغم واستقامة شخصية وموضوعيته الثقافية. هناك قول لطيف لعلي بن ابي طالب يقول فيه: ” لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فان الناس لا يسألون في كم فرغ من العمل  وانما يسألون عن جودة صنعته”.. وكأني بعلي بن ابي طالب يقصد أيضا حسين مهنا بهذا القول!

في الأيام الأخيرة من كانون أول 2007 صدر للشاعر حسين مهنا ديوانين شعريين.

 الديوان الأول: ” تضيق الخيمة… يتسع القلب ” ويشمل عشر قصائد وخمس منثورات.

يفتتحه بقصيدة يقول مطلعها:

كأني أراكم

كما قد رأتكم دمائي

على باب ( عاي)

 تشدون خيلا

وتعدون خلفي

ويوم صرختم بباب ( اريحا ):

– تموت… تموت

وراحاب تحيا..!!

حملت الحياة على راحتي

وسرت على مهل أنثر الحب والشعر

سرت.. سرت.. سرت..

انا استزيد الحياة حياة

 وانتم تشدون خيلا

وتبغون حتفي…

الديون الثاني: “الكتابان” – ويبدأ بالثاني وينتهي بالأول.

يقول في قصيدة: “تمرين أو لا تمرين..”

تمرّين أو لا تمرّين

قلبي تعود طول انتظارك

انت تعيدين للقلب

 ما قد تناثر،

فوق دروب الحياة

ليصبح شكل الحياة

 جميل التفاصيل،

كي لا تصير الدماء مدادا

وكي لا يظل الحبيب رهين القصيدة.

وفي قصيدة: “سموت بحبك..” يقول:

سموت بحبك العذري خلقا

وزدت حضارة وصفوت ذوقا

وطهرني غرامك من ذنوب

تحاصر مهجتي وتشد طوقا

واودع بي جمالا بعد ظرف

وشوقا للحياة فصار عشقا

وعلمني بأن الحب عدل

فلا أشقى ولا المحبوب يشقى

هذه مقاطع اخترتها عشوائيا، انا أؤمن ان القصيدة الجيدة لا تحتاج الى “مفسر أحلام”، بل تتسرب كالماء الى وجدان القارئ وتدمجه بأحاسيس الشاعر.

حسين مهنا يثبت ان الشاعر المتمكن من فنه وبصفته، مثقف موضوعي مرتبط بقضايا شعبه، الى جانب مهنيته الشعرية، قادر على الابداع حسب كل الأساليب الشعرية المعروفة… من الشعر الموزون والمقفى وشعر التفعيلة حتى الشعر المنثور. من الاسلوب الكلاسيكي حتى أحدث الأساليب الشعرية الجديدة.

حسين مهنا في ابداعه الجديد يشكل مدرسة ومقياسا للشعر الجيد وللشاعر المبدع  وللمثقف الحقيقي الذي يعيش ويتفاعل مع مجتمعه وعالمه. بهذه المناسبة المخصصة للشاعر حسين مهنا، يروقني ان اعود لديوان سابق له “انا هو الشاهد”، ما زلت اراه من الابداعات البارزة في شعرنا المحلي وقد شدني ذلك الديوان واعادني الى صفحاته مرات عديدة  ولعلي اعود الى ديوانيه الآخرين لاحقا.

ديوانه “أنا هو الشاهد” – صدر عن الأسوار – عكا (2001) – يشمل ( 14 ) قصيدة من نتاجه الشعري منذ عام ( 1997)، وهذا بحد ذاته يثبت ان حسين مهنا شاعر يعيش أجواء قصيدته، بحيث تتحول القصيدة الى مهمة يعيشها لمرحلة زمنية، تنمو “بوسائل طبيعية” دون استعمال مسرعات النمو، أو الانتاج “داخل دفيئة”، بحيث نغرق بمنتوجات شعرية قبل موسمها انتجت بوسائل غير طبيعية.  ربما هنا احدى مشاكل “البضاعة” الشعرية التي تملأ الأسواق، بعضها بلا طعم ولا نكهة، أو أدخلت علية “جينيات” أخرى  فصارت “الشيء وضده”.

حسين بديوانه “انا هو الشاهد” هو مدرسة، ليست شعرية فقط، انما حضارية خلقية، الى أن الشعر ليس للدنيا فقط، ليس للآخرة ايضا، انما هو صنعة للارتقاء بالانسان، تطوير فكره وحسه وفهمه وصقل ارادته. هذه مهمة لا يجوز الاستهتار بها، اذا اردنا حقا أن نسمي المولود باسمه.. لأنه لا أجمل من أن يكون الانسان شاعرا، أو مبدعا تبعث لمساته الحياة حتى بالجماد.

على غلاف ديوانه يؤكد حسين مهنا ما أرمي اليه، انما بلغته، لغة الشعر، الذي أثمر على شجرته، دون أن ترهق الشجرة بالمبيدات وتسريع النمو:

على هذه الأرض نبني

كما لا يحب الغزاة –

ونرعى على مهل مجد أجدادنا.

ويقتبس حسين من انجيل “يوحنا” في كتاب “العهد الجديد”، قوله: “وأيضا في ناموسكم مكتوب ان شهادة رجلين حق، أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الرب الذي ارسلني”، فهل يستطيع أحد بعد ذلك أن ينفي صفة الشاهد عن حسين مهنا؟

حقا حسين هو شاهد، شاهد على حكاية وطن تمزق شغاف القلب:

كانت هنا قرى تعبق بشذا فلسطين

قرى تفردت بعرائش سطوحها..

بكرومها..

بأهلها الطيبين.

هذا ما جاء في بداية قصيدته الاولى “في البدء” وانظروا الى العلاقة هنا بين “أنا هو الشاهد”، والمرافعة دفاعا عن كونه شاهد، مستندا لانجيل “يوحنا”  واسم القصيدة الاولى “في البدء”… و”في البدء كانت الكلمة” – افتتاحية التوراة – وصولا الى فلسطين، الكلمة الاولى في قاموس اهلها الباقين والصامدين والمقاومين، لكن بنفس الوقت نشعر في قصيدته هذه روح البكاء على الأطلال: “قرى بلادي وقصائدي”.

أما قصيدته الثانية “يورثون الحياة انتصارا” فهي نقلة نوعية من حالة حزن الى حالة فرح وغناء وحب يتدفق كالشلال. قرأت هذه القصيدة مرات ومرات.. بطرب حقيقي. ينجح حسين هنا بأخذ القارئ/ المتلقي الى رحلة في ذات محب:

وأذكر يوم وثبت لأقطف زهرة القرنفل

كيف نقزت – وكنت وراء الأصيص –

وصحت:

تلطف!!

فما هكذا يؤخذ الورد يا ذا؟!

انتبهوا هنا للطافة وملاءمة تعبير “نقزت” (جفلت) العامي، وأظن أن هذا الاستعمال فرضه نمو القصيدة واكتمالها – نضجها – الطبيعي وغير المصطنع.

ويواصل رحلته:

فوددت لو اني اقبل دارك…

هذه الجملة تذكرني بعنترة العبسي الذي خاطب حبيبته بقوله:

فوددت تقبيل السيوف لأنها / لمعت كبارق ثغرك المبتسم.

 ويواصل حسين:

ستأتيك امي قبل الغروب

لتقطع قول الوشاة

وليت أباك يقرّ بأني “شيخ الشباب”

واني جدير بزين الصبايا

ونفرح

نفرح

هذا الجليل يحب الزغاريد.

وهنا يكاد يقول انه لولا ان الجليل يحب الزغاريد  لما كان الحب..

ويقول:

هذا التراب الزكي شغوف

بمن يزرعون

ومن يحصدون

ومن يعشقون

ومن ينجبون

ومن يورثون الحياة انتصارا

لجيل جديد

هذا الحب يعيدنا الى انسانيتنا، الى الزمن الذي كان فيه الفتى يطوف حول بيت حبيبته عاما كاملا يفرح ان رأى وجهها، فاذا ظفر منها بمجلس، تشاكيا وتناشدا الأشعار. أما اليوم، وهذا يبرز في الكثير من شعرنا الحديث، فاذا التقاها، لا يشكو حبه أو ينشد الشعر، انما يطلب الوصل، بحيث تحول الحب في معظم شعرنا الى بضاعة، يقرر سعرها العرض والطلب، بينما الحب الذي يختلج بأعماق حسين لا يباع ولا يشترى.

قصيدته “أراك كما لا تراك العيون” هي قصيدة غزل في قريته البقيعة:

“البقيعة قريتي وكل قرية في بلادي بقيعة”

 ومع ذلك:

وآها لتلك السنين الخوالي العذاب

قريبا من القلب

نبض فلسطين كان

هذه القصيدة تركت لدي شعور انه في حبه الكبير لقريته، هناك نوع من الألم والمرارة أيضا، على تلك القرية التي تيتمت من “نبض فلسطين”  ومن آلام “جرح الجليل”.

يذكرني هنا بقصيدة الشاعر الراحل سالم جبران:

“كما تحب الأم

طفلها المشوه

احبها

حبيبتي بلادي”

ربما ليس بالصدفة ان سالم من البقيعة ايضا. في القصيدة جوانب أخرى، منها مثلا قدرة حسين أن ينقلنا من الحلم الشعري الى الواقع الشعري. من حلم البقيعة الى واقع البقيعة  وبكلمات بسيطة:

ترى أين غابت

بساتين خوخ وتين؟!

وجوز ولوز

ورمان عيد الصليب

في الشطرة الأخيرة يعرفنا على البقيعة، على أهلها، بحيث لا يبقي البقيعة حلما طائرا، بل حقيقة شعرية ملموسة. من المعروف ان الرمان في بلادنا يثمر في فترة عيد الصليب عند المسيحيين. وأي فلاح فلسطيني، مسلم، درزي او مسيحي، عندما يسال عن موعد قطف الرمان يقول يقطف مع حلول عيد الصليب!

الغنائية الحالمة تميز الكثير من قصائد الديوان، في قصيدة “ستر عاشق يظلل ليلنا الريفي”:

تحبني..؟!

اذن تعال كي نصالح القمر

أمس اشتكى

يا طول ما اشتكا!

 وأكاد أشعر في هذا المقطع أجواء فيروزية.

وينشد في “لنا فوق الجليل”:

لنا فوق هذا الجليل

تراب جليل

عليه نقيم

ومنه نبتنا كما ينبت العشب

والاقحوان.

وبين يديه تركنا طفولتنا

والشباب.

لنكبر فيه ويكبر فينا.

اذن هو ليس مجرد عشق لطبيعة ساحرة، انما هو عشق للمنزل، للمنبت، للأنتماء. وشاعرنا العربي يقول:

نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى / ما الحــب الا للحبيــب الأول

الحبيب الأول، على امتداد مساحة ديوان حسين  هو الجليل.. لم يكتشف حبيبا غيره.. حتى تلك التي “نقزت” هي جزء من الجليل. قصيدة “سأجلس ذات مساء” فيها الكثير من الايماء والتكثيف. يقول:

سأجلس ذات مساء بعيد

 وحيدا..

وأفتح قلبي

على شرفتين

وراء الغمام

لعل رفوف اليمام

تجيء

وتلقي السلام علي

وتغفو قليلا على راحتي

لأكتب أغنية

عن بلادي.

بعد قراءتي لقصيدة “تركنا على كل درب” اعتراني شعور أن حسين لا يكتب قصائد منفردة، انما قصيدة واحدة متواصلة، تكاد تكون هذه القصيدة هي مهمة حياته كشاعر، فها هو يقول مثلا ما يمت بصلة لقصائد سابقة:

وقد اورثونا

محبة هذا الجليل

وحب الحياة

وعشق قرانا

ونذكر اننا ولدنا هنا.

أما قصيدته “بي شوق لأحيا”، فهي نشيد لتجدد الحياة بعد أن رزق بحفيده محمد / وهي قصيدة لها مناسبتها، تكاد تكون استراحة وسط قصيدة / قضية شعرية متواصلة وواحدة.

وانا ورثنا الصباح الجميل

 وهذا الجليل

وفجرا تلفع بالياسمين.

 (قصيدة: وانا ورثنا الصباح الجميل)

في قصيدة “اسمعني صوتك”.. كتبها كما فهمت لحفيده في ميلاده الأول.. ونراه يورث حفيده ما يملكه الشاعر:

اسمعني صوتك

عربيا

لا يتلجلج في شفتيك

ويوصيه:

واخرج من جلبات الزمن المهزوم

جوادا عربيا

ينقل للريح

صهيل الفرح القادم

وأيضا:

اضرب جذرك يا ولدي

اسمعه كيف تدوزن صوتك

فوق مفاتيح اللغة العربية

ويصر على حفيده:

أسمعني صوتك

كي اسمع وطني

يتجدد لحنا عربيا

لا بد هنا من ملاحظة هامة.. في هذه القصيدة اصرار على عروبة ابناء الطائفة المعروفية (الدروز)، التي تحاول السلطات الاسرائيلية قطعهم عن جذورهم العربية وجعلهم فئة سكانية لا ترتبط بالهم الوطني العربي او الفلسطيني…

اذن كما قلت، حسين مهنا أخذ على نفسه ابداع قصيدة / قضية وطنية انسانية وجمالية ممتدة.في ديوانه هذا نراه يكتبها على مدى ثلاث أو اربع سنوات.ربما حقا على كل شاعر أن يأخذ موضوعا لشعره حتى يوفيه حقه.  حسين يثبت أن ذلك لا يعني الانغلاق داخل حدود مرسومة.ان البقيعة مثلا، ليست مكانا جغرافيا له حدوده الجغرافية. الشعر لا يعترف بالحدود الجغرافية، أو كما يقول حسين مهنا: ” كل قرية في بلادي بقيعة “.

حين أقرأ اسم حسين مهنا يجلس على راس قصيدة اعرف اني سأقرا شعرا حقيقيا واني سأتمتع بجماليات شعرية صارت من القلة.

هل يريد الشاعر أكثر من ذلك؟ ان يتدفق شعره كالماء بلا ضجيج ويتغلغل كالماء في وعي القارئ وأحاسيسه؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى