قراءة جمالية أسلوبية في قصائد الشاعرة السورية صفيّة الدغيم (1)

ثناء حاج صالح | ألمانيا
كلما قرأت قصيدة جديدة للشاعرة السورية الكبيرة صفيّة الدغيم ، وجدتني أردّد في نفسي تلك العبارة الجميلة لأنسي الحاج ( الرسولة بشَعرها الطويـل حتى الينابيع ) وهي عنوان لأحد نصوصه النثرية الجميلة التي تسمى بـ(الشعر المنثور)، وما هي بالشعر. (وهي عنوان الكتاب الذي يحويها أيضا)>> ومناسبة ترديدي لهذه العبارة هي أن الشيء بالشيء يُذكر . فصفية الدغيم شلال شعر صافٍ عذب يسير بعكس قانون اتجاه التدفق فتسحبك مياهه المنسكبة في مسامعك قسراً إلى ينابيعها، ولا بد.
.
وما إخال أنسي الحاج قد قال عبارته المفصَّلة على مقاس صفيّة، إلا لأستخدمها أنا، وبعد عشرات السنين، في وصف الرسولة، بشِعرها ( مع كسر الشين ) الجميل، طويــــلِ النَفَس الإبداعي صفيّة الدغيم .
.
هذي الشآمُ وحينَ يَحضرُ ذكرُها
ترتدُّ أنفاسٌ وتُبعثُ روحُ
لا تسألي البحَّار عن شطآنها
مرفا السفينةِ بدلتهُ الريحُ
.
صفيّة الدغيم تدرك ما تقول، وتعي كيف ينبغي عليها أن تقول ، ويستطيع القارئ ملاحظة مستوى الصحو المنسوج في أجواء شعرها. عبر تتبع خيوط أفكارها الناصعة ، وعبر صورها الشعرية الناضجة اليانعة .
فهي شاعرة محترفة ، تمارس مهنتها الإبداعية بتمكن وخبرة ومع تصوّر مسبق لجميع الآليات التي تتيحها لها العملية الإبداعية في حرفة الشعر >> ولهذا السبب فإن قراءتي الجمالية والأسلوبية لشعرها ستكون فرصة رائعة لي لأبراز أساليبها الفنية الإبداعية التي يتخلَق فيها وعبرها هذا الشعر الأنثوي القوي ( بوصفها شاعرة امرأة ومعاصرة ).
.
كانت هذه مجرد مقدمة لقراءتي الشعرية القادمة التي سأبدأ بنشرها غدا -إن شاء الله – وإليكم هذا النص البلوري الصافي من شعر صفيّة الدغيم .
.
بَدا مُحيَّاه أحلى ما يكونُ فإن
ناشدتَ عينيكَ ألا تَنظُرَا أبَتا
.
يمشي يجرجرُ أذيالَ الغرورِ فلو
أردفتَ من خلفهِ الطوفانَ ما التفَتا
.
عيناهُ تقنعُ من شكّوا بِسطوَتهِ
إذا تكلَّمَ مزهوّاً وإن سَكَتا
.
ينأى ويسأل بعد النأيِ فاقدَهُ :
كيفَ الضياءُ بعينيكَ انطفا ومتى؟
.
ولو همَت مُقلَتَا عينيهِ من حَزَنٍ
بعدَ الدموعِ على خَدَّيهِ ما كفَتا
.
فكيفَ ينسى الذي يسري هواهُ دماً
في أبهريهِ ومن في قلبهِ نَبَتا
يطيب لي الآن مزج المنهج الجمالي مع منهج الأسلوبية في قراءتي النقدية هذه ؛ كي يكمل كل منهما نقص الآخر. فليس تطبيق التحليل الجمالي كافيا لقراءة شعر صفيّة الدغيم؛ لأنها ليست بالشاعرة الشكلانية؛ فهي لا تشكّل صورها الشعرية بهدف التصوير نفسه، وإنما يهمها بالدرجة الأولى إحداث الأثر في المتلقي، من خلال السياق الواضح، الذي يتضمن التصوير ويستوعبه.
.
لذا كان لا بد من اللجوء إلى القراءة الأسلوبية بمستوياتها المختلفة، وأخص منها المستويين الدلالي والبلاغي، لأنهما في الحقيقة يحققان أهم غايات الشعر في التأثير.
,
ولإعطاء لمحة مسبقة وسريعة عن الأغراض الأسلوبية التي يمكننا تقصّيها في هذه القراءة ، لا بد لنا من الوقوف عند مفهوم الانزياح اللغوي بشقيه (الدلالي والتركيبي)، لأنه يمثل في الحقيقة جوهر الشعرية، وسوف يكون تقصّينا إياه في مكامنه في شعر صفية الدغيم هو الغاية الاساسية ، والتي سيتاح لنا فقط عند تحقيقها، أن نرد ينابيع الثراء الشعري والشاعري، والتي ينبثق منها كل جمال في التصوير البياني متساوقا مع التدفق العاطفي، ومَجدُولا مع النظم اللغوي للتراكيب النحوية .
.
مفهوم الانزياح اللغوي تجاذبته وارتبطت به مصطلحات كثيرة جدا ، قدَم منها على سبيل المثال د. أحمد ويس في كتابه الانزياح ما يقارب 40 مصطلحا . لكن كتلخيص عام للفكرة هو كل استعمال للغة يخرج به الشاعر عن المألوف والمعتاد، ويخترق ما هو متوقع في ذهن المتلقي من خلال اختيار المفردات أو بناء التراكيب أو إنشاء الصور.
.
وهذا يعني أن كل تفرُّد وإبداع وقوة جذب إنما تكمن في الانزياح اللغوي . لذا فهو ملعب الشعراء وميدانهم الحقيقي للتنافس على الابتكار الشعري والشاعري.
.
وهو وإن كان ينتمي إلى مصطلحات النقد الحديث، إلا أن شقه الأول ( الانزياح الدلالي أو الاستبدالي) إنما يستوعبه مفهوم ( المجاز) في النقد العربي القديم .
إذن، فهدفنا الأول هو تتبع واكتشاف مصادر الانزياحات اللغوية في شعر صفيَّة الدغيم، وتحليلها على المستوى الأسلوبي الملائم لها ( صوتيا أو صرفيا أو نحويا أو دلاليا) ، ولكننا خلال سعينا لتحقيق هذا الهدف سنمر على الكثير من جماليات التفاصيل البلاغية والبيانية في شعرها ، فنشير إليها ونحللها ونتابع المسير إلى الينابيع المقصودة .
.
ملاحظة أولى أقف عندها قليلا قبل البدء بقراءة إحدى القصائد : هي أن الشاعرة صفية الدغيم لا تضع لنصوصها أية عناوين، على الإطلاق ، وهذا ما آخذه عليها، ولا أجد له تفسيرا مقنعا. خاصة مع وضوح اهتمامها بالسياق وتركيزها عليه.
.
فالعنوان مفتاح النص ، وهو جزء أساسي عضوي ووظيفي من سياق النص، ولا ينبغي إهماله؛ كي لا تتعطّل وظائفه التي تزيد من تبلور النص، وتزيد من تماسك وتكامل وحدته الموضوعيه.
تقول الشاعرة:
.
لا دمعَ يُسعفني وقلبي مُتلَفُ
أقسى الدموعِ هيَ التي لا تُذرَفُ
.
غاضت حروفي كيفَ أجمعُ ماءَها؟
ومُثقَّبٌ دَلوي بماذا أغرفُ؟
.
وأنا الذي شاهدتُ زهرةَ حُلمِنا
من قبلِ أن تنوي التفتُّحَ تُقطَفُ
.
ونلتقط في هذه الأبيات رؤوس الخيوط لثلاثة انزياحات دلالية:
الأول في قولها (أقسى الدموع هي التي لا تُذرَفُ)، والثاني في قولها (ومُثقَّبٌ دَلوي بماذا أغرفُ؟ )، والثالث في قولها ( من قبلِ أن تنوي التفتُّحَ تُقطَفُ) .
.
وفي الانزياحات الثلاثة اتبعت الشاعرة الأسلوب نفسه في اختراق المتوقَع من المعنى، عبرأسلوب (إحداث المفاجأة).
.
ففي البيت الأول تُحدِث الشاعرة مفاجأتها عبر خرق المتوقع في الانزياح الدلالي عند ممارسة الإسناد؛ كونها تسند المبتدأ ( أقسى الدموع) إلى خبر غير متوقع (هي التي لا تذرف).
.
الدموع (التي لا تُذرَف) غير ممكنة الرؤية، ولا يمكن لمسها ، فهي ظاهريا في حكم (غير الموجود)؛ لعدم تمثلها بالمادة. ومع ذلك فإن الشاعرة تقنعنا تماما بأنها موجودة ، بل وهي ( أقسى الدموع ).
.
فالدموع التي لا تُذرَف: لغة إشارية مجازية، يستطيع المتلقي من خلالها تكوين صورة واضحة عن الحالة النفسية، التي تتحدث عنها الشاعرة، عندما يكون الإنسان محتاجا للبكاء، ومع ذلك تحتبس دموعه، فلا يستطيع ذرفها، فيتعذب بانحباسها وتكون هي أقسى الدموع، حقا .
.
عنصر المفاجأة يلتقطه القارئ هنا من المفارقة، التي تتمثل بعدم التناسب بين الموصوف( الدموع ) والصفة (لا تُذرَف) والتي مكّنته الشاعرة من الاتصاف بها مجازا، وعلى الرغم من تعارضها معه منطقيا.
لا دمعَ يُسعفني وقلبي مُتلَفُ
أقسى الدموعِ هيَ التي لا تُذرَفُ
وعدم التناسب بين الموصوف والصفة يحدث مفاجأة ثانية في البيت الثاني أيضا ومرة أخرى، لكن ليس بسبب التناقض المنطقي بينهما ( الصفة والموصوف )، وإنما بسبب التناقض وعدم التلاؤم الشكلي والوظيفي هذه المرة. فالشاعرة تقول
غاضت حروفي كيفَ أجمعُ ماءَها؟
ومُثقَّبٌ دَلوي بماذا أغرفُ؟
.
والقارئ يقبل أن يكون الدلو مثقّبا، وغير ذي فائدة عند استخدامه لغرف الماء. على أن المجاز لعب دوره في بناء المفارقة، من خلال الصورة البيانية في الاستعارة المكنية، والتي شبّهت فيه الشاعرة حروفها بالماء، ثم إن هذا الماء قد غاض في (البئر)، وهي تحاول غرفَه واستخراجه منه بدلوها المثقَّب .
.
وعلى سبيل الاستعارة المكنية حذفت الشاعرة المشبّه به (وهو الماء) في عملية غرف الحروف بالدلو، وأبقت شيئين من لوازمه وهما الغيض والدلو.
.
.
والمفاجأة تتمثل في المفارقة بين محاولة غرف ماء الحروف الغائض في البئر وكون الدلو مثقّبا، ولا يصلح لغرف الماء .
.
وأشير هنا وعلى المستوى الصرفي، إلى حسن اختيار لفظة ( مثَقَّب ) كصيغة مبالغة ، والتي تعني بأن الدلو كثير الثقوب، وهو ما يجعله كالمنخل ، ويبطل وظيفته، وهذه أفضل من لفظة (مثقوب) التي تعني أن هناك ثقبا واحدا في الدلو، ما يسمح له بأداء وظيفته جزئيا. وهذا من بدائع توافق وانسجام حسن اختيار الألفاظ مع الإيقاع والوزن، عند الشاعرة المطبوعة صفيّة الدغيم.
.
ولن أقف طويلا عند المفاجأة الجميلة الناجمة عن المفارقة الكامنة في الإسراع باقتطاف زهرة الحلم قبل أن تنوي التفتح .
.
وأنا الذي شاهدتُ زهرةَ حُلمِنا
من قبلِ أن تنوي التفتُّحَ تُقطَفُ
.
فقد نسجت الشاعرة في هذا النص قصة ذات حبكة وحوار، والأبيات التي قرأناها أعلاه تدخل في سياق قصة المغترب الذي يترك خلفه الحبيبة، لا دمعَ يسعفها وقلبها متلف، ويهاجر. ثم يدور بينهما حوار عن تكلفة هذه الهجرة، فتسأله : هاجرت ؟ ويجيبها : إي هاجرت . فتنصحه بتضميد جراحه بجراحه، وتنصحه بالصراخ ، ولو لم يرد على صراخه إلا الصدى. وتأمره بالصبر الجميل، وعدم التراجع والاستسلام ؛ لأن الحياة هي هذا الموقف الذي عليه أن يتمسك به ويثبت عليه.
.
هاجرتَ؟ اي هاجرتُ لكن لم أكن
أدري بأن البُعدَ جدا مُكلِفُ
.
ضَمِّد جِراحكَ بالجراحِ إذن وقُم
و اصرخ و لو عادَ الصدى : لامُسعِفُ
.
وإذا بدا أن الجراحَ حداةُ من
ضلَّ الطريقَ فدع عروقكَ تنزفُ
.
وتأسَّ بالصبر الجميلِ وقل لِنفـ
سِكَ :لا تليني إن عَيشكِ مَوقِفُ
.
كالطيرِ مذبوحاً يناديهِ المَدى
فَيُرى لآخرِ ريشتينِ يُرَفرِفُ
.
يتضمن البيت الأخير في هذا النص أحد المحسنات البديعية الجميلة والنادرة، وهو حسن التعليل .فالشاعرة تنفي فيه ضمنيا سبب رفرفة الجناحين الحقيقي للطير الذبيح ، (وهو الاختلاج بسبب التقلصات العضلية بعد الذبح).
.
وتقدم إلينا تعليلا أخر أجمل من الأصلي بكثير، وهو: أن المدى ما يزال ينادي الطير الذبيح، فيحاول تلبية النداء ويرفرف حتى آخر ريشتين .
.
وقد أخترقت الشاعرة باختيار لفظة (الريشتين) ما هو متوقع في ذهن القارئ الذي قد يخطر على باله في حالة رفرفة الطير الذبيح أنه سيرفرف حتى ( آخر أنفاسه أو آخر قطرات دمه ) . فاستبدلت الريش بالأنفاس. وكأنه يتنفس برفرفة ريشتيه / جناحيه ، أو كأن عملية الطيران عنده هي عملية التنفس ذاتها.
.
وهذا هو الانزياح الاستبدالي( الدلالي ) المبتكر الذي أضاف للصورة الشعرية معنى عميقا، كان من شأنه أن يتحول معه ذلك المغترب إلى طير ذبيح يرفرف بريشتيه/ جناحيه ليتنفس هواء الحرية ( حرية الطيران في المدى ) حتى في لحظات الموت .
.
يتبع بإذن الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى