شعريَّة الماءِ وتجلّياته الدّلاليّة في (امنحيني دفء المطر) للشاعر العراقي شلال عنوز

د.أمل سلمان حسان | ناقدة وأكاديمية عراقية
لا شكّ أن لطبيعة الماء الحيّة، وحاجة الإنسان المُلحة إليه، واكتنازه بالأبعاد الدينية والميثيولوجية والصوفية والمكانية، منحته مكانة أثيره في الخطاب الشعري قديما وحديثا، فهو عصب الحياة “وأهم مكون من مكوناتها، وارتبط استقرار الإنسان على وجه الأرض وأزدهار حضارته بالماء وارتبطت الحضارات القديمة بمواقع مائية عرف بعضها بالمسمى، مثل حضارة بين النهرين، وحضارة وادي النيل، ودبت الحياة في مكة المكرمة بعد أن تفجّر بئر زمزم استجابة لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم ع “١ وعلى هذا الأساس وجد الشعراء في ثيمة الماء، المخرج الوحيد القادر على أرواء تصحّر حياتهم وإطفاء الظمأ الروحي بحضرته، فتمكنوا من رسم لوحات مائية ومشاهد حيوية مفعمة بالحياة والديمومة، وهذا ما زخرت به اشعارهم على اختلاف العصور .
ومع تطور الحياة، انتقلت المفاهيم السيميائية للماء وتوسعت تجلياتها الدلالية وربُّما كان الجو المغاير والمختلف للحياة الطبيعية وهي تغص بالأحداث المتسارعة الناتجة عن الحروب وتبعاتها ،من هجرة وغربة وفقر وحرمان وفقدان أثرا في الركون إلى طقوس الماء مرة أخرى .
أسوق هذه المقدمة وبين يديّ مجموعة الشاعر العراقي شلال عنوز+ الموسومة بـ أمنحيني مطر الدفء الصادرة عن دار ليندا للطباعة والنشر والتوزيع في سوريا ٢٠١٨ م، إذ لفتت انتباهي طقوس الماء وتجلياته الدلالية المختلفة حاضرة بقوة في جميع قصائد المجموعة تقريبا فقد جاءت مشحونة _بدفق مائي _ إن صح التعبير ،متنوع الأشكال ومتعدد الدلالات المستمدة خصوبتها من ثيمة الماء ، مقيما بذلك كونا معماريا شعريا يصل إلى درجة البناء الجمالي المدهش ،فالتقى الماء والشَّعرية على أمر قدره الشاعر وتمكن منه أيّما تمكن .
وعلى هذا الأساس سنحاول اكتشاف مكامن الشَّعرية في هذه المجموعة على وفق محورين وعلى النحو الآتي:

أولا :شعرية النَّص الموازي
النّص الموازي على نحو ما هو متعارف عليه ،هو تلك العتبات النصيّة التي ترتبط مع المتن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ،ويشمل كلّ ما وردّ محيطا بالكتاب، من غلاف ومؤلّف وعنوان وإهداء ومقتبسات وهوامش ومقدمات وغير ذلك مما أشار إليه الناقد الفرنسي جيرار جنيت في كتابه ،عتبات ٢ ،وهو عند الناقد المغربي محمد بنيس يعني ،تلك النصوص المجاورة التي ترافق النص في شكل عتبات وملحقات قد تكون داخلية أو خارجية ولها عدد من الوظائف الجمالية والدلالية ٣ .
وإذا نظرنا بعين المتأمل في عتبات هذه المجموعة، نجدها جميعا تشير إلى تلك الخصيّصة الشّعرية المغرورقة بالماء التي اكسبتها طابعا مائزا ،بدءا باسم المؤلف وانتهاءً بالإهداء ، وربما كان من جميل المصادفات أن المؤلّف اسمه شلال ،والشلال مفرد كلمة شلالات تلك الظاهرة الطبيعية الجميلة التي تشير إلى تلك المياه المتدفقة من أعالي الجبال بقوة واستمرارية على مدى الفصول ،فهو يمثل إحدى تجليات الماء وأشكاله الدالة على العطاء والديمومة وبهذا مثل اسم المولّف علاقة انتماء بالقوة لمجموعته.
ولعل أوّل البدايات البصرية التي تواجهنا وتمارس علينا سلطة الإغراء والتشويق هو الغلاف ،الذي يقدم ثقافة تشكيلية للمتلقي ويمثل في الوقت نفسه قراءة فنية للكتاب من قبل المصمم ،وقد جاء في هذه المجموعة على شكل أيقونة يؤثثها الشكل والألوان والظلال لرأس امرأة وكأني بها امرأة سومرية برقبة طويلة وهي علامة تمثل الجمال السومري وبوجه لم يظهر منه سوى الأنف والفم وأذن واحدة وتظهر على إحدى صفحات خديها زهرة عباد الشمس تتناثر عليها قطرات النّدى ،وعلى الرغم من اختفاء العينين ، إلا أن هذا لا يشير إلى منقصة أو تشويه ،بل يشير إلى أننا أمام ذات انثوية تحمل سرا بداخلها وتتصف بالجاذبية والسحر والإثارة ،فالعينان مرأة للشكل والتقاط الصور وجس نبض العالم الخارجي ،ثم تدرجت الألوان ما بين اللون الأصفر الغامق والأسود والأبيض والرمادي وكلها تشير إلى عدم الاستقرار على حال واحدة فما بين الإشراق والذبول والتصحر تسير بنا عجلة الحياة .
وأما عنوان المجموعة “امنحيني دفء المطر ” وهو عنوان لإحدى قصائد المجموعة ،حمل دلالات رمزية وفنية خالصة أوجزت الرؤية العامة للمبدع، فمثّل بذلك الثريا التي تحتل بعدا مكانيا مرتفعا يمتزج بمركزية الإشعاع على النص ،على نحو ما وصفه جاك دريدا، فقد جاء على المستوى التركيبي ،جملة فعلية فعلها دال على الأمر الذي يشير إلى أن المبدع يستجدي من الحبيبة ويسألها أن تمنحه دفء المطر وكأني به لم يذق من المطر الذي يهطل على ربوع وطنه سوى البرد وافتقاد الأمن والطمأنينة ومقومات الوجود الإنساني الأخرى ،وما يثير الإنتباه هو توظيف الإضافة التي تلزمنا بعدم الفصل بين المضاف الشيء المعنوي وهو الدفء وبين المضاف إليه الشيء المرئي وهو المطر
،الأمر الذي أسهم في تعميق الدلالة وتنشيط المخيال ،وتكاد دلالة هذا العنوان تنضّم المجموعة الشَّعرية بأكملها فعلاقته هنا هي علاقة شمولية .
وإذا وجدنا المبدع يسأل الحبيبة أن تمطر عليه دفء المطر ،في العنوان فقد وجدناها في الإهداء هطلت عليه غيث نماء في خريف العمر إذ يقول فيه ” إلى التي هطلت غيث نماء ،على خريف عمري ،فأورق شجر الحب مدى أخضر “٤
والإهداء علامة لغوية دالة تجمع بين الكاتب والقارىء وهو يعطي إنطباعات مهمة ويكشف عن اغلب دلالات النص ،فهنا يتعمق الشاعر في عالم المعشوقة ويرسم كينونة الوجود للخروج من دائرة القسوة والتصحر الروحي، فنراه يرتمي في عوالم الماء ليجد فيه الخضرة والنماء .
تأسيسا على ما سبق نلحظ الوشائج الدلالية التي ربطت عناصر النّص الموازي وكلها تشير إلى جنوح المبدع نحو العالم المائي علّه يجد فيه ما نفتقده من مقومات الوجود الإنساني والحياة الكريمة .
ثانيا :شعرية النّص .
تنوعت تجليات الماء وأختلفت دلالاته في هذا المجموعة ،فالشاعر لا يستقر على حالة ثابته معينة إلا وينتقل بشكل ذكي إلى حالة أخرى ،ولذلك أرتبط شعره بمجموعة من المفاهيم الفكريّة والإنسانيّة والجماليّة ،استطاعت بالنتيجة أن تضفي على هذه المجموعة عددا من الخصائص المائية التي تحضر بقوة في قصائد المجموعة وتكاد تختفي في شعر غيره وهو ما اعنيه هنا بالشَّعرية ،بحيث نلحظ أنها بُنيت على مبدأ المحايثة لنصوصه ،فكانت طقوس الماء بمثابة المعادل الموضوعي لحياة اليباس والقهر والحرمان التي يعيشها الإنسان العراقي تحديدا في وطن حبّاه الله بالخيرات الكثيرة ،والنعم العظيمة التي ضاعت وتقاسمتها الأحزاب بصعود ما يسمّى بالإسلام السياسي وظهور ميلشيات الموت القاعدية والداعشية والطائفية عموما .
ومن هنا حاولت النظر في شعرية النص من جوانب ثلاث وعلى النحو الآتي :
أوّلا :الجانب الموضوعاتي
مثّل عددا من الموضوعات التي كشفت عن تشعرية الماء وتجلياته ومنها :
– التجلّي الروحي والعشق الألهي .
خصص المبدع لذاته العدد الأكبر من قصائده وهو يحاول أن يمنحها فرصة التأمل والاتحاد الروحي مع المعشوقة، إذ لحظنا أن هناك وشائج إندماجية بين الذات الشاعرة وبين النص ،تكشف عن ميول إشراقية وعرفانية تنحت في مجرى التوصيل والتلقي وهو يرسم أبجدية الإتحاد الروحي ويهيم في مدائنه المُبلّلة يقول في قصيدته يكتبني التوق:
انهمري معي
تساقطي شلالا على سبغ روحي
تراقصي كلمات صبّ ..بوح نجاه
…..
أُهيمُّ في مدائنك المُبلّلة
بشذى البنفسج ..رائحة القداح
يكتبُكِ المساء رقائق ماسيّة التجَّلي
يكتبني التّوق إنثيالات التياع
وازفك عروسا
تسبح بعبق زنابق الماء
شاهرة ابجدية الحب
في وجه المدى
وهو يعلن أن قلبه باسط ذراعيه في ملكوت التجلي ويناجي معشوقته ان تتحد معه يقول في قصيدته نافذة الحلم .
وهذا القلب الباسط ذراعيه
في ملكوت التجلي
لماذا تنامين على ذراعي غافية الهمس
هلا ترقصين في جب نشوتي
لنغرق نحن الإثنان
في إنهمارات فنارات الشروق
ونجد عددا من الأفعال الدالة على التجلي الروحي والاتحاد مع المحبوب من قبيل ،تساقطي ،وانهمري،وتراقصي ،واسبحي ،واغرقي ،واشربي في مناخات مائية تتسامى فيها النفس الشاعرة وتحاول الهروب من عالمها ومثل هذه االرؤى نجدها في قصائده أخرمن قبيل :لا أحلم إلا بك ،وحلم في المساء ،وهل من دورة آتية، وغيرها بشكل لا مجال لذكره.

– العشق الإنساني :
واحد من أبرز الموضوعات التي قصدها المبدع في مجموعته هذه فقد كان العشق بتجلياته المختلفة من عشق الحبيبة أو البنت أو المكان او الوطن او الأرض حاضرا بقوه ،إذ تمكّن معه الشاعر أن يهب الماء كينونة تفيض شاعرية وتفجّره عشقا وعطاء ،فنلمس إنكشافا مكثفا في مشاعر المبدع العاشق في حضرة المعشوق الذي يكون الظمأ إليه مستمر ولا يُروى أبدا ،هذه المعاني الإنسانية ضمّتها قصائد كثيرة من قبيل :سيدة الورد ،ولوحة نجاة ،وثورة الغرق ويداهمني الحنين ،وإلى ابنتي ريا ،وأنا وأنت وهذه السوسنة ،وأمنحيني دفء المطر وغيرها .
نقرا له في سيدة الورد، وهوفي حضرة الحبيبة المخلوقة من تسابيح الوجد يقول :
أنت يا سيّدة الورد
إليك تنهمر
مُزن التّهاليل يقتادها الشّعر
مبلّلة سرَّ لوعة الوَله
يشربها شغف التجلّي
فتمطر عرس النجوم
أنت يا امرأة من تسابيح
أضمك شغاف ظمأ
وفي قصيدته ،المدى يردد أسمك ،ينادي الحبيبة التي تسبح في تهجد البحر قائلا :
خذيني
فأنا نصف نبي
ونصف
يستبدُّ به الجنون
وهو يحاول أن يروي سكرة الظمأ من ريّان ريقها ،يقول في قصيدته ثورة الغرق :
من ضفافها ينهمر نبع القصيد
ويستفيق صباح القبل
أروي سكرة الظمأ
من ريّان ريقها
المشذى بتهاليل القداح
اتلاشى في رحيق خمرتها
الصوم في بحرها العميق
أن الحديث عن تجليات العشق في هذه المجموعة لا يرتبط بسياقات المرأة فحسب بل يمتد إلى المكان ،المتمثل بالوطن ،فالمرأة والوطن وجهان لعملة واحدة إذ يصعب علينا الفصل بينهما فيشحن وجوده بمفردات دالة على الحب والذوبان العاطفي في الوطن، فالوطن يستوطن مشاعر المبدع وكيانه كله فيحاول استعادته على وفق تأملات إنفعالية ونفسية ،وبذلك يخرجه عن دلالته المكانية الجغرافية إلى دلالات مائية متنوعة في نصوصه وهذا ما لحظناه في قصائده من قبيل : ،هذا الدوي اللعين ،ووطن تطلب راسه الأعراب ،ولوحة نجاه ،وهل من دورة آتية ،.يقول في قصيدته امنحيني دفء المطر :
سأوي إليك
لتعصمني من غرق تدفق
جوع الذبول ،
وتلمّينني قمح إنتماء
لحقول المجرات
……..
يمحق الجفاء
عندما تزغرد العنادل
يتراقص شجر الحناء على نجيع
ضفاف (الفاو)
إنثيالات مائية ومشاهد حيّة يرسمها الشاعر بحيث يصعب فصل مكوناتها تتوحد فيها الحبيبة والوطن.

– الموت والإنبعاث :
من الموضوعات التي اخذت مساحة لا بأس بها في مجموعة الشاعر وقد توزعت تجليات الماء في هذين الموضوعين على مستويين أحدهما حمل روح التشاؤم والعبثية ،والآخر ،حمل روح الأمل والتفاؤل والحلم وقد استعان المبدع باساطير الموت والخصب والبعث من قبيل أسطورة لوكال زاكيزي* و سيزيف وتموز وعشتار والعنقاء وغيرها ،فجاءت قصائده المائية مشحونة بالهم الحضاري والوطني وهو يرى أن الدنيا تزداد بهاء ونورا بالتقدم والعلم والثقافة بينما نحن نزداد موتا ودمارا وظلاما بسبب القومية والطائفية والدين السياسي وهذا ما لمسناه في قصائده ،قارعة الترقب، وفراديس السراب ،والشك يأكلني ،وتذكرته الآن ،واسرة القنوط ،ودورة لحياة آتية التي يقول فيها :
زمن تسيِّد فيه زعيق الفاشلين
وماتت سماحة الندى
فيتوسد (لوكال زاكيزي)عرجون مآساته
ليستمر مسلسل دموي الفوران .
وفي قصيدة الشك ياكلني يقول :
خيانة السماء ..نقاء الروح
مجنونة خطانا تبحث عن السقاة
في أودية السراب
ندم المنافي
تنفخ في قرب مثقوبة
بنتوءات الأسماك النتنة
قرب بكاء الهجير
وفي الجانب الآخر ،نجد الأمل والحلم والانبعاث من جديد نقرأ في قصيدته ،حلم في المساء :
لا تبتعدي عن سواحلي
فأنا بدونك سفينة نجاة
خذيني حيث واحاتك المشتعلة
إشتهاء وخضرة
لنغني معا أغنية السلام
على مرافىء الوطن
ونقرأ في قصيدته ،أنا وأنت وهذه السوسنة :
لم يمت فيك إخضلال النّدى
كل يوم يورق فيك فجر الخضرة
يحتفل بك النهار
دعي اشرعتي تسبح في زرقة موجك
فالشاعر في قصائده هذه يبحث عن عزاء جمالي و روحي ،وقد اثبت الشعر مواقفه أمام الموت عندما يصل ذروته إلى الفقد ،واثبت موقفه أمام الحياة عندما يصل ألى ذروته في الحب ،وهذا ما اكدته السياقات المائية التي ولدت من رحمها هذه القصائد الشَّلاليّة.

– الفقر والحزن والفرح والأمل والحلم 
ما أنفك الماء يجسد حمولة ثقيلة من الفقر والتصحّر والحزن ،فهو فال سيء لمن لا يحسن استغلاله والتمتع بخيراته الوفيرة ، فالشاعر في قصائده التي حملت هذا المضمون لا يمنكه أن يكون محايدا أو بعيدا عن واقعه الاجتماعي والبيئي والتأريخي بوصفه جزءا منه ولكونه يعيش التجربة بأحاسيسه ومشاعره وأفكاره إذ تناول في اكثر قصائد هذه المجموعة موضوعة الفقر والحزن وتداعياتهما على الإنسان العراقي تحديدا موظفا دلالة المطر ،يقول : في قصيدته قارعة الترقب :
يرحل السنونو ويعود
في كلّ عام
والجدّب يستبيح
بساتين الرجاء
قالت أمي :
ذات مساء
أخرس ،لا تكثر السؤال
عن موعد نزول المطر
هو يهطل بلا موعد
آه يا أمي ،منذ ذلك المساء القروي البعيد
المشحون بشجن الوّله
وأنا انتظر ،طيف المطر
فالخيرالذي يمثله المطر اكلته الحروب ولم يبقَ سوى مطر الدماء والسماء لم تزل عاقرا
ولا هطول سوى
مطر الدماء
ونقرأ في قصيده :تذكرته الآن :
تذكرته الآن ..
أكلته الحروب
في يوم شتائي ماطر
قبل اكثر من ربع قرن
ودعنا وهو يومىء
لطائر في السماء
مبتسما لزائره الأخير
وبالمقابل نجد المطر يمثل حالة الفرح والترقب والأمل إذ نقرأ في قصيده خذيني إليك :
أنت أغنية العصافير
في بساتين الزيزفون
فرح الحقول بعاصفة المطر
كلما تضحكين
تزغرد طيوف الضوء
ترقص المواسم
وفي قصيدة نافذه الحلم ،نقرا نوعا من التحدي والأمل بغد أحلى يقول :
ستولدين من جديد على نوافير توقي
ثم تغادرين كلّ عنت المواسم
المُتيبسة ..
ساشرب نخب رقي البنفسج
وأمسك عين الندى .
تأسيسا على ما سبق نلحظ أن الشاعر تناول ثيمة الماء في سياقات موضوعاتية مختلفة فتارة نجد الماء في نوع من التجلي الروحي والعشق الألهي وتارة أخرى نراه الخيمة التي تضم تجليات العشق الإنساني المتنوعة وتارة نرى فيه الموت والإنبعاث والحياة وتارة نجده يشير إلى الحزن والفقر والتصحّر وتارة أخرى نجده يغني للحياة والفرح والأمل.

ثانيا:الجانب التصويري
يمثّل التصوير جوهر الشّعر وأهم آليات المبدع في نقل تجربته والتعبير عن واقعه وهواجسه ،فهي إنعكاس لذات الشاعر وتأملاته الشخصية ،يكونها مخياله من معطيات متعددة يقف العالم المحسوس في مقدمتها ،وقد حاول الشاعر في مجموعته هذه ،تشكيل لوحات مشهدية ،تجتمع فيها عناصر اللون والحركة والصوت والأسطورة والرمز، مستمدة من ثيمة الماء وتجلياته الدلالية المتنوعة ،فيقف القارىء معها أمام حالة سردية ،يكثر فيها المجاز ،وتمتلىء بالدلالات فتأتي على شكل نفحات وجدانية وفيوضات شعرية محتشدة بالمعاني المتشابكة بين الحقيقة والمجاز،وقد اعتمد شلال عنوز في تشكيلاته الصورية على التقانات البلاغية من تشبيه واستعارة وكناية وكان مصدرها الماء وتجلياته نقرأ في قصيدته ،لوحة نجاة ،صورة مريبة للتطرف والطائفية التي زرعتها أحزاب ما بعد عام ٢٠٠٣ ،ولعل الظروف السياسية والدينية بشكل عام ومظاهر التخلف والقهر والحرمان والكبت التي يتنفسها المبدع ،هي التي حفزته على أن يوظف مفردة مائية من قبل الدم في هذه المشهدية التي يقول فيها :
ملوث بالدم
أُدون تأريخ ،مخاض يائس
بحبر أجنحة فراشات مسبيّة
أمسح ..
وشم مأساة عاهر ،بفرشاة انتظار
فجر مُبتلع ،لكن الزمن المُغادر
عاد تارة أخرى
بنكهة شيطانية
بسرابيل موت ،
مغيرا جلده بلون
داكن الحمرة ،بعدما
كان لونه القديم أحمر قاتم
عاد بقسوة كواسج
تماسيح ،أفاع
يقطع بسكين باترة
عنق شريان الصباح
مجنون عاد إلينا
يقص راس شمس الوئام
بمناجل تطرف أعمى
كي ينتحر صبح الندى
ويتسيّد ،أوار اليباس
الإنتاجية الشعرية في هذا النص تنبع من الفضاء المائي المشحون بالخيبات والإنكسارات ،فالتطرف ظاهرة قديمة وهذا ما يشهده التأريخ ،لكن لعن الله من أوقدها مرة أخرى بنكهة شيطانية وبقسوة كواسج وتماسيح وأفاع، تقطع بسكين باترة عنق شريان الصباح ،تقتل الحب وتدمر الحياة الوادعة ،واللون الأحمر هنا أحد تجليات الماء يثير إحساسات متباينة في ذات الشاعر وبحسب ما يتطلبه السياق الشعري وربما كانت قوة الموهبة التي يتمتع بها الشاعر جعلته يكرر مثل تلك الصور التي تسكن مخياله ،يقول في قصيدته فراديس السَّراب ،وهو يرسم صورة لما آل إليه وضع العراق بين لحيّة ومسبحة :
هناك ..
حيث تيتم صوت الله
ترمل النَّهر
وقيد الحادث ضد مجنون !!
شلّت يدُ الضوء
وبُرّزت أفانين الهاوية
وابتدأ المارثون ..
بين لحيّة كثة
تجيد إصطياد مشاعر البسطاء
ومسبحة ،أدمنت عد القصور .
ونجد الشاعر في مجموعة هذه شغوف بالصور التشبيهية والصور الرمزية والأسطورية المستمدة من الماء وتجلياته ، من قبيل ،الأمطار والثلوج والندى والأمواج والشطآن والشلالات بشكل يطول الحديث عنها.

ثالثا ،الجانب اللغوي
العمل الشَّعري ،بناء لغوي بالدرجة الاوّلى قائم على التصوير، يوظف فيه المبدع اكبر قدر ممكن من أساليب اللغة المتنوعة ،بشكل يُمكّنه من الخروج باللفظة من وضعها الطبيعي المعجمي إلى وضعها الشعري من خلال إدخالها في علاقات تفاعلية مع غيرها من الألفاظ وهذا ما سمّاه الدكتور محمد مفتاح ب “اللعب اللغوي “٦ فاللغة في النصوص الشَّعرية بشكل عام تتشكل على وفق مستويين ،أحدهما :معناها المعجمي الطبيعي وآخرهما :معناها الشعري الذي اكتسبته من خلال التجربة الشعورية للمبدع نفسه. 
الشاعر شلال عنوز في مجموعته هذه ،يفيض على لغته الشعرية من روحه ويسبكها بأنفاسه فتراه يخرجها من سباتها وجمودها إلى عالم الشعرية ويجعلها لغة تستفز القارىء وتحاوره وتضمن تفاعله وتواصله معها .فنجده يغرف من معين الماء وتجلياته الدلالية المختلفة لتصبح في حالة من السّيولة يشترك في إغنائها الحسي والمعنوي على حد سواء، وتكمن شعريتها في التشكيل المائز للنصوص بمختلف موضوعاتها ،الأمر الذي يجعل منها تفي بمتطلبات البنية الشعرية المائية فتبدو حيوية تفيض عذوبة ،وتنبض حياة، لما توحي به من مدلولات قادرة على العطاء والتوصيل للشعرية ومعانيها الواسعة ،مستعينا بالوسائل البلاغية من تشبيه واستعارة وكناية ،وإقامة علاقات تفاعلية فيما بينها.

إذ نلحظ المعجم المائي للمجموعة ضمَّ عددا كبيرا جدا من الماء وتجلياته في سياقات مائية _إن صح التعبير _ فنقرأ (نوافير الألم ،نتوءات الدموع ،سماحة الندى،شطآن سواحله ،مناسيب الفتنة ،تسابيح الحب ،رعاف حزنه ،ترمل النهر ،عطش الروح ،يبث بوحا ،شجن المغرورق ،موجة الأمل ،شربتها المسافات، عبث التصحّر ،فتنبجس منها أثنتا عشرة عينا من الوجع، جبُّ القحطِ،مياه التشظي ،خلجانا على وجه القمر ،المدائن المبلّلة ،شلالات سبغ روحي ،تهجد البحر ،يشربها شغف التجلّي ،ديم سحرك ،مُزن التهاليل ،زخات عسل الدفء ،موانيء الغناء، إنثيالات أحلامنا ،ظمأ اشتياقي ،كركرات الماء، غدران الدم ،نوافير إبادة ،خذيني ساقية ،مويجات الروح …الخ )
فالمعجم الشعري لهذه المجموعة تكاد تطغي عليه الفاظ الماء وتجلياته الدلالية المختلفة ،فتبدو حيوية قادرة على بعث وهج الحياة والديمومة فيها .
وقد حاول المبدع أن يخط لنفسه نهجا لغويا ،يزيد من قوة حضور النص ،من خلال توظيف البنى التكرارية بأنواعها المختلفة والجمل الطلبية من استفهام ونداء ونهي ودعاء وعرض وتحضيض ،وهي لم تأتِ اعتباطا ،بل قصد المبدع من وراء توظيفها البحث عن دلالات وأبعاد ومقاصد لأثارة المتلقي واستفزازه وحاول فيها تفريغ مشاعره المكبوته عبر عملية تعالق مستمرمع هذه البنى الأسلوبية لتحقيق شعرية النص وقد أسهمت هذه البنى في خلق جو عاطفي بمجرد الوقوف عليها ،فضلا عن ميل المبدع إلى توظيف تقانة الحوار داخل بنية القصيدة بشكل لافت للأنتباه ، جاءت على شكل جمل قصيرة واضحة المعنى نحو قوله في قصيدة ثورة الغرق :
قيل لي :هل تحبُّها
قلت :
كيف لا وهي ترسانة نجواي ؟
من ضفافها ينهمر نبع القصيد
ويستفيق صباح القُبل .
وقوله في قصيدة ،أسرة القنوط
قال :
لِمَ تسبح في نهم الأرق ؟
قلت :
وهل فارقتني يوما هذه الطُّبول
التي تشرب صحوي
وهناك عدد كبير جدا من الشواهد الشعرية تأتي في هذا المقام لا مجال لذكرها
ونلحظ ميل الشاعر إلى الإتكاء على الجمل الفعلية ذات الأفعال المضارعة والماضية والأمر وتوظيفها في سياقات مائية مناسبة لكل فعل ،بشكل مكّن المبدع من إثراء لغته الشعرية وفتح أفق الدلالة والتأويل.

مراجع الدراسة وهوامشها:
١: رمزية الماء في التراث الشَّعري العربي ،دراسة سيميائية ،دار الثَّقافة والإعلام ،الشارقة ،ضمن مجلة الروافد ،ع/٠٨٧،فبراير ،٢٠١٥ م.
:شلال عنوز ،شاعر وقاص عراقي من مواليد ١٩٥٠ ، حاصل على شهادة البكالوريوس في القانون ،وله حضور فاعل في المشهد الثقافي والعربي ،يكتب الشعر بأشكالة المختلفة ،العمودي وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر والقصة والرواية ،حاصل على عدد كبير من الجوائز التقديرية عراقيا وعربيا .له عدد من المجاميع الشعرية منها ،مرايا الزهور ١٩٩٩والشاعر وسفر الغريب ٢٠١٣ ،وبكى الماء ٢٠١٧ ،والسماء لم تزل زرقاء ٢٠١٧ وديوان حديث الياسمين، وهو مجموعة مشتركة مع شعراء عرب وعراقيين وصدى الفصول ،مجموعة مشتركة ايضا عام ٢٠١٨ .
٢ : أمنحيني مطر الدفء ،شلال عنوز ،مجموعة شعرية ،دار ليندا للطباعة والنشر والتوزيع ،سوريا ،ط١ ،٢٠١٨ م .
٣: عتبات ،من النص إلى المناص ،جيرار جينيت ،ترجمة : عبد الحق بلعابد ،منشورات دار الأختلاف ،الجزائر ،ط 1 ،١٤٢٩ ه .
٤:الشعر العربي الحديث ،بنياته وإبدالاتها التقليدية ،دار توبقال للنشر ،الدار البيضاء ،ط١ ،١٩٨٩ م .
لوكال زاكيزي ، ملك سومري مثّل رمزا يشير إلى بداية مقتل الرؤساء في العراق .

٥:أمنحيني مطر الدفء،سبق ذكره
٦: تحليل الخطاب الشَّعري ،ستراتيجية التناص ،محمد مفتاح ،دار التنوير للطباعة والنشر ،بيروت،لبنان،ط١ ،١٩٨٥م .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى