من إشكالات الترجمة الدينية.. الترجمة في سياق المدح بما يشبه الذم (36)

أ. د. عنتر صلحي عبد اللاه | أكاديمي مصري

مسعر حرب لو كان له رجال

هذا جزء من حديث شريف يحكي ما وقع بعد توقيع صلح الحديبية مع كاتب قريش سهيل بن عمرو وبعد موافقة النبي صلى الله عليه وسلم للشروط التي وضعتها قريش – والتي كانت تبدو للصحابة مجحفة. ومنها شرط أن من أسلم من أهل مكة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده إلى قريش، وإن حدث العكس؛ يعني كفر أحد المسلمين وأرتد إلى قريش فقريش ليست ملزمة برده للمسلمين.

و بعدما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة من الحديبية، اشتد العذاب على الضعفاء في مكة حتى لم يطيقوا له احتمالاً، واستطاع أبو بصير أن يهرب من حبسه، فمضى من ساعته إلى المدينة يحمله الشوق ويحدوه الأمل في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فمضى يطوي قفار الصحراء، وتحترق قدماه على الرمضاء حتى وصل المدينة فتوجه إلى مسجدها، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه، إذ دخل عليهم أبو بصير عليه أثر العذاب وعناء السّفر، وما كاد أبو بصير يلتقط أنفاسه حتى أقبل رجلان من كفار قريش فدخلا المسجد، فلما رآهما أبو بصير فزع واضطرب، وعادت إليه صورة العذاب، فإذا هما يصيحان: «يا محمد رده إلينا بالعهد الذي جعلت لنا»، فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة. فدعا أبا بصير فقال له: «يا أبا بصير، إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد علمت، وإنا لا نغدر، فالحق بقومك.» فقال: «يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اصبر يا أبا بصير واحتسب لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين فرجاً ومخرجاً». فخرج معهما أبو بصير فلما جاوزا المدينة نزلا لطعام، وجلس أحدهما عند أبي بصير وغاب الآخر ليقضي حاجته. فأخرج القاعد عند أبي بصير سيفه ثم أخذ يهزه ويقول مستهزئاً بأبي بصير: «لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوماً إلى الليل». فقال له أبو بصير: «والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً». فقال: «أجل والله إنه لجيد لقد جربت به .. ثم جربت». فقال أبو بصير: «أرني أنظر إليه». فناوله إياه .. فما كاد السيف يستقر في يده .. حتى رفعه ثم هوى به على رقبة الرجل فأطار رأسه. فلما رجع الآخر من حاجته، رأى جسد صاحبه ممزقاً مجندلاً، ففزع وفرّ حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو. فلما رآه صلى الله عليه وسلم مقبلاً فزعاً قال: «لقد رأى هذا ذعراً». فلما وقف بين يديه صلى الله عليه وسلم صاح من شدة الفزع قائلاً: «قُتل والله صاحبي، وإني لمقتول.» فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير تلتمع عيناه شرراً والسيف في يده يقطر دماً. فقال: «يا نبي الله، قد أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فضمني إليكم». قال صلى الله عليه وسلم: «لا». فصاح أبو بصير بأعلى صوته: «يا رسول الله، أعطني رجالاً أفتح لك مكة». فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: «ويل أمه مسعر حرب، لو كان معه رجال». ثم تذكر عهده مع قريش فأمر أبا بصير بالخروج من المدينة، فسمع أبو بصير وأطاع.

والان نقف مع تعبير النبي صلى الله عليه وسلم “ويل أمه – وفي بعض النسخ تكتب ويلمه- مسعر (بفتح الميم وتسكين السين وفتح العين والراء) حرب لو كان له رجال”. والسؤال الآن هل هذه الجملة تعني المدح أم الذم؟ إن السياق يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم معجب بشجاعة أبي بصير وبقدرته على الإفلات من أسره بل وتفزيع آسره حتى يفر من أمامه يعلوه الفزع ويتقاطر منه الذعر. إن مثل هذه الصحابي الجليل الذي كان يمتلئ حماسة وحمية للدين ويريد أن يعجل بفتح مكة بما يمكنه من الرجال لا يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يذمه فيما يفعل. بل صار أبو بصير مركزا يأوي إليه الفارون بدينهم، ولا يركنون إلى الهروب، بل يقدمون بإيجابية على إيذاء من ألجئهم إلى الخروج فيقطعون الطريق على قوافل قريش، حتى تستغيث قريش وترسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الرحم أن يلغي هذا الشرط الذي فرضوه هم أنفسهم أثناء كتابة الصلح. فيرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى أبي بصير يدعوه ليلحق به في المدينة ومن معه من الرجال، لكن الكتاب يصل لأبي بصير في لحظاته الأخيرة فيقرأه ويضمه ويقبله ثم يسلم الروح في مكانه، ويقام له قبر – معرف حتى الآن- في العيص.

قد يظن من يغفل عن هذا السياق للأحداث أن تعبير “ويل أمه” به من السب – حاشاه صلى الله عليه وسلم- أو الذم، وقد يظن أن ما بعده “مسعر حرب” تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي مما قد يجلبه هذا الرجل من مشكلات على المسلمين هم ليسوا بحاجة لها في ذلك الوقت، والتعبير الأخير “لو كان له رجال” قد تعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى لو كان له رجال من عشيرته يمنعونه ويصدون عنه الأذى بدلا من أن يضطر لخوض هذه الفتن.

غير أن السياق يوحي بأن النبي صلى الله عليه وسلم معجب بالصحابي الجليل وروحه المتحمسة ونفسه المتوقدة، بل يشير – بشكل غير مباشر- إلى ما يقترحه عليه وهو أن يجمع معه رجال من مثل حاله، وبالتالي يمكنه حينئذ أن يسعر الحرب ضد قريش، ولا يكون المسلمون قد خالفوا شروطهم.

الآن، وبعد تقضي معاني العبارة النبوية نأتي إلى الترجمة الموجودة لصحيح البخاري والتي تترجم التعبير “ويل أمه مسعر حرب لو كان له رجال” إلى

“Woe to his mother, stirrer up of war! Would that he had some kinsfolk!”

 وهذه الترجمة بها من الإشكالات الكثير؛ فتعبير Woe  في الإنجليزية يعني الدعاء بالويل والثبور ويحمل من الحسرة الكثير، وهو مشتق من الإنجليزية القديمة Wa! التي تشبه الصعيدية (وهه) نطقا ودلالة أحيانا. ومنها في الكتاب المقدس

Woe to the one who says to a father, ‘What have you begotten?’ or to a mother, ‘What have you brought to birth?’

(Isaiah 45:10)

 وَيْلٌ لِلَّذِي يَقُولُ لأَبِيهِ: مَاذَا ولدت؟ وَلِلْمَرْأَةِ: مَاذَا ولدت؟».

ولا تستخدم Woe  للتعبير عن الدهشة إلا في تعبير  woe be me  أو  woe is me أحيانا.

وكان الأولى أن يترجم التعبير بما يناسب ذلك من أساليب الدهشة في الإنجليزية مثل Oh myأو  Goodnessحتى لا يظن به السب والذم.

المشكلة الثانية هي أن تعبير  stirrer تعني المحرك والمحفز، غير أن التعبير النبوي يناسبه  wager  أي الذي يشن الحرب، ويزكيها.

ثم أختار المترجم أن يكون تعبير “له رجال” بمعنى رجالا من أهله  kinsfolk والأولى أن يجعل الأمر فيه سعه فيكون المقصود المناصرين على العموم  supporters , followers وفي أحدى روايات الحديث “لو كان له أحد” وهذا يبين أن الأمر عام ولا يقتصر على أهله وحدهم.

وتبقى الإشكالية الثقافية التي تعكس خصوصية كل لغة؛ فتأكيد المدح بما يشبه الذم موجود بكثرة في اللغة العربية سواء الفصيحة أو العاميات، ويستخدم الناس هذه التعبيرات منعا للحسد أو درأ للعين، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن “يا لكع”، وكأن تقول لشخص أعجبك: قاتله الله ما أروعه”، وفي العامية “يخرب بيت فلان” للإعجاب الشديد ولا يعني حقيقة الخراب.

والله أعلم.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى