كيف تساهم الكتب وصناعة النشر في تطوير اللغة العربية؟

خالد بريش | كاتب وباحث باريس

منذ أن خصصت منظمة اليونيسكو الدولية يوما للاحتفاء باللغة العربية، والحديث في الندوات، والاحتفالات التي تعقد سنويا بهذه المناسبة، يدور حول تطور اللغة العربية عبر العصور، ومشاكلها المختلفة، ومناهج تدريسها وسبل تطويرها، وكناقل للثقافة والمعرفة، ووسيلة للتواصل بين أبناء المجتمعات الخ… وفي اعتقادي أنه بقدر أهمية هذه الموضوعات وما تطرحه، إلا أنه لم يتم التعرض للمشكلة الأساس، لأن مشكلة اللغة العربية اليوم، تكمن في « الكتاب »، الذي هو وسيلة التعلم والتعليم الأهم لأي لغة حية، وهو أيضا أداة نقل اللغة، والتعريف بمخزونها الثقافي والعلمي والمعرفي…
إن الجهد الذي تبذله مجامع اللغة العربية، ومراكز البحوث الخاصة باللغة العربية في جامعاتنا، من أجل تطوير برامج تعليم اللغة العربية ومناهجها، لا ينكره أحد. ولكنه يبقى محصورا بفئة محدودة، ومن أجل المتع الفكرية، طالما أن الكتاب في بلداننا يمر عبر خروم منخل الرقيب، فيمنعه من التحليق على رفوف المكتبات بحرية، فلا يؤدي دوره، كناقل أول للغة والثقافة والعلوم والمعارف على أنواعها. وبالتالي تصبح عملية الرقابة الصارمة التي يخضع لها الكتاب في ترحاله، وتنقله عبر الحدود بين الدول العربية، وكذلك مروره من بين براثن الرقيب، هي في حد ذاتها عملية إعدام للكتاب، ولما يحمله من فكر وثقافة ومعان سامية.
لقد لعب الكتاب الدور الأهم والفعال في انتشار اللغة العربية وتطورها عبر العصور، وليس المقصود بذلك « كتاب الله » فقط، بل الكتاب بصفة عامة، وأن العرب والمسلمين عبر العصور، لم يخفهم كتاب، ولم تخفهم مقالة هنا، أو هناك. بل كانوا إن وصل إلى أيديهم كتاب من أطراف العالم، انكبوا على قراءته، ودراسته، وتمحيصه. فإن رأوا فيه ما يتناقض مع معتقدهم وآرائهم الفكرية، والأهم، مع الحقائق العلمية التي طوروها وأخرجوها بحلتها الجديدة… فإنهم كانوا يُفَصِّصون الآراء الواردة فيه، ومن ثم يردون على كاتبه، مفندين آراءه. ونجد حتى يومنا هذا، آلاف المخطوطات في مكتباتنا وحول العالم، يرد فيها العلماء والمفكرون العرب والمسلمون على بعضهم، وعلى غيرهم من العلماء…
تشهد المجتمعات اليوم ثورة معلوماتية حقيقة، ونقلة حضارية، متمثلة في الإنترنيت، وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تعرض منصاتها كل أنواع الكتب بالمجان، أو مدفوعة الثمن، ومن الممكن تحميلها رغما عن أنف الأنظمة ومقص رقيبها… وأن شعوبنا اليوم، وبعد سنوات من تجربتها على وسائل التواصل الاجتماعي، هي بلا شك أكثر وعيا ونضوجا، وإن كانت لا تعبر عن ذلك علانية، خوفا من قمع الأنظمة ومحاكم التفتيش… ولكن في الأحاديث الجانبية على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال أسلوب تعليقات البعض، ندرك أنهم فعلا في عوالم أخرى، وأن كتاباتهم السطحية التي ينشرونها على صفحاتهم أحيانا، لا تعبر عنهم، ولا عما يجول في فكرهم.
إن اللغة العربية اليوم، بالرغم من إهمالها من بعض الأنظمة التي تنتمي إلى العروبة، وبالرغم من كل الحروب التي تشن عليها من قبل الغرب وبعض أبنائها، إلا أنها تبقى بألف خير، قياسا بلغات أخرى. ولكن يبقى أهم ما تعاني منه في اعتقادي، هو تدخل السياسة في الكتاب، وفي نِتاج المفكرين والعلماء والأدباء، ومحاسبتهم على كل كلمة يكتبونها، أو يتفوهون بها، خوفا من الكلمة نفسها… مما أثر ويؤثر بدوره على حركة نشر الكتاب، الذي تخلف وتراجع القهقري، وتراجعت معه لغتنا التي يتفق الجميع، وحتى أعداء العروبة المستعمرون القدامى والجدد، على وصفها بـ « الجميلة »… وتراجعت معها كذلك حركة الفكر والعلوم والمعارف التي كنا مصنعها.
وفي الواقع، فإن ما تقوم به الدول الغربية لنشر لغاتها، من خلال افتتاح المراكز الثقافية، وإعطاء المنح الدراسية، والتشجيع المادي والمعنوي لشراء كتبها ومنشوراتها الخ… فإننا كعرب مجتمعين لا نقوم بعشر معشاره، ولا أدري لذلك سببا مقنعا…! وفي هذا الصدد أتساءل كغيري:
لماذا لا يتم تفعيل المنظمة العربية للثقافة والعلوم، بعيدا عن التجاذبات السياسية، لكي تقوم بدورها في نشر اللغة العربية، والثقافة والكتاب في آن معا، كما تفعل منظمة الفرنكوفونية على سبيل المثال، والتي تلعب دورا مهما في نشر اللغة الفرنسية، وتشجيع الكتاب الفرنسي في عقر دارنا…؟
ولكن للأسف، تبقى المنظمة العربية، مغيبة عن الساحة، وعاجزة عن القيام بأي دور بدور فعال. إما بسبب عدم رصد الميزانيات الكافية والخاصة بذلك، أو بسبب التسييس، والتجاذبات السياسية، الأشبه بـ « كيد النساء »، والتي تعاني منها كل منظومة الجامعة العربية.
لقد أصبح من الضروري اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، اتخاذ إجراءات ضرورية، عبر قوانين واضحة، لا تقبل التأويل، تتيح للكتاب التنقل بحرية، ولا تسمح للرقيب ومقصه بالتصرف العشوائي والمزاجي، وتنظم في نفس الوقت علاقة المبدعين والباحثين والأدباء، مع دور النشر. وأن تكون هذه القوانين موحدة، تطبق في كل الوطن العربي على السواء، لكي لا يكون لكل بلد وقطر قوانينه الخاصة، فتضيع الحقوق، وندخل في متاهة التفسيرات القانونية لكل بلد. وكذلك لا بد من رفع عدد سنوات مشاركة الكتاب العربي، في معارض الكتب إلى ثلاث، أو أربع سنوات، مما يعطي الكتاب فرصة جديدة. خصوصا أن الكتاب في بلادنا يبقى حبيس أدراج دور النشر، ومكاتب الرقابة لشهور، وربما أحيانا لسنوات، تضيع من عمر الكاتب والكتاب…
إن أمتنا اليوم لا تشكو من قلة نتاج الباحثين والمفكرين والأدباء والشعراء باللغة العربية، ولكن تشكو من خوف دور النشر من نشر كتبهم، ومن مقص الرقيب، وبالتالي معاقبتها على ما تنشره. ومما لا شك فيه، أن تشجيع نشر الكتب العربية، وحرية تنقلها، هو المحرك الأهم في تطور اللغة العربية، واستعادتها لمركز الصدارة، وإعادة النظر في استخداماتها من قبل أبنائها في شتى مجالات الحياة الفكرية والعلمية والتقنية، كما كانت في سابق عهدها.
لقد آن لنا أن ندرك أن أمتنا لم تتدهور، وتتخلف أحوالها ومجتمعاتها، إلا عندما خافت من الكتاب، والكلمة الحرة، والقصيدة. ولا داعي للتذكير بأن الأمة التي تخاف من الكتاب، ومن الكلمة، هي أمة جبانة، تخاف من ضوء النهار، ومن الحقيقة والمعرفة، وتحكم على نفسها بالزوال… وعلينا أن نعي أيضا أن كل ما كتبه الاستعمار وأذرعته يوما من مستشرقين وغيرهم، وبعض أبناء جلدتنا، من تشكيك في أمتنا، لغة وتاريخا ودورا حضاريا، لم يكن له تأثيره، لا على عقائدنا، ولا تاريخنا ولا حضارتنا. فها هم ذا قد مضوا جميعا، وبقينا… فلماذا الخوف إذا من الكتاب والكلمة الحرة…؟ ولماذا تقوم الأجهزة بفلترة الكتب، وغربلة الأفكار والعبارات والكلمات، وتقدم للقارئ كتابا مُدَجَّنا لا يهمه شكلا وموضوعا، ومادة تفرض عليه لا يحبها أصلا، ولا تشفي غليله…
وختاما، إن تطور اللغة العربية، وانتشارها حتى بين أبنائها، مرهون اليوم بحرية تنقل الكتاب غبر الحدود، وأنه لا يمكن لأي لغة أن تتطور، وتفرض وجودها، بدون كتاب حر، على الرغم مما تقدمه شبكات التواصل الاجتماعي والإنترنيت هذه الأيام. وإن الواحد منا ليشعر بالحياء عندما يقرأ أننا وعلى طول بلادنا وعرضها، وقد اقترب تعداد الناطقين بلغة الضاد من عرب وغيرهم، أكثر من نصف مليار إنسان، لا نطبع إلا قرابة عشرة آلاف عنوان سنويا، أكثر من نصفها كتب تراثية، أعيد طباعتها مرات ومرات، أو أنها كتب للدعاية السياحية وللأنظمة…
لهذا السبب وغيره من الأسباب، فإن الحديث عن اللغة العربية، وتطويرها، كناقل للمعرفة والثقافة والعلوم، ودخولها المجالات الرقمية الخ… ستبقى أحاديث غير ذات أهمية، إن لم يطلق العنان لحرية النشر والكتابة، ولتنقل الكتاب عبر الحدود بحرية، مما يعيد له دوره في حياتنا، ومجتمعاتنا كعرب، وذلك طبقا لقواعد حقوق الإنسان، وحرية الكلمة. وهي أمور عرفتها مجتمعاتنا، من قبل أن يذكرنا بها الغرب، والمنظمات الدولية… وليتنا نعي ونتدارك، أن الكتاب سلاحا لنا، وليس علينا، وأن القارئ وحده من يحدد صلاحيته، من عدمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى