يوميات كورنيش الاسكندرية.. الخطيئة! (١٨)

محمود عبد المقصود | نائب رئيس تحرير الأهرام

صرخت أمى وصكت وجه شقيقتى وانزوت بأبى فى حجرتهما بمجرد عودته من عمله.. وسمعناها وهى تصرخ وتقول له: (شوف لك حل فى البنت دي .. احنا لو سكتنا لها ممكن تعمل كده تانى وتالت) .. وراحت أمى تحكى  بحدّة رافعة لصوتها حينا وهامسة به حينا آخر .. ولم نسمع من أبى سوى عبارة واحدة يرددها بأسى: (لا حول ولا قوة إلا بالله )..(لا حول ولا قوة إلا بالله).

.. بعدها استدعى أبى  شقيقتنا الكبرى لغرفته وأخذ يعنفّها بكلمات جارحة لم نسمعها منه من قبل بينما تئن  هى ألما وتصرخ قهرا.. حتى خرجت من عنده تلاحقها كلماته لها بالتهديد والوعيد والتلويح لها بعدم استكمال دراستها الجامعية وحبسها فى المنزل حال تكرار ما فعلت!

وتلقفنا شقيقتنا نربت ونحنو عليها ونواسيها بكلمات منزوعة الأثر عندها بينما غلبها هى حالة هيسترية من البكاء المتواصل  تتمتم من بينه بكلمات مبتسرة المعنى: (حرام عليكم) .. (مش كده) .. (هو إحنا فين)  .. (تعالوا شوفوا البنات بتعمل إيه) .. (هو إيه ..  هو أنا كفرت)! وفشلت محاولاتنا لمعرفة ما حدث  لها وقالت لنا بغيظ: اسألوهم  (تقصد والدينا)!

يومها انتابنا الذعر والخوف على شقيقتنا وتزاحمت أمامنا الكثير من علامات الاستفهام واجتهد كل منا  فى تخيل سيناريو يصيغ به ما يحدث.. وكان أفظع ما تخيلناه  أن غضب والدينا منها تخاذلها عن احتلال مركز من العشر الأوائل  فىى دفعتها كما كانت فى أعوامها السابقة.. أو ربما لرفضها لكل من يتقدم لخطبتها.. أو أو أو أو..

تصورات عديدة جميعها لم ترتق للإجابة القاطعة عن السؤال: ماذا فعلت نموذج العفاف والالتزام التى يشهد لها القاصى والدانى وتتخذها الأمهات ذريعة لدفع بناتهن للاقتداء بها؟!

أوى أبى إلى فراشه على غير عادته دون أن يتناول غذاءه، وخرجت أمى من عنده تندب حظها فينا  دون أن تكشف لنا أى الذنوب ارتكبنا!  وحل الصمت والوجوم  بأرجاء منزلنا البسيط، بعد إن عجزت حيلتنا بسقوط كل السيناريوهات التى تفتق لها ذهننا الواعي لتفسير ما يحدث!

وبعد نحو يومين رأت أمى أن تقص لنا ما حدث ليس استجابه لرغبتنا فى ذلك وإنما لنعتبر نحن  مما حدث لشقيقتنا.. وبدأت كلامها بمقدمة نعت فيها القيم والأخلاق والأدب والحياء، وكيف أننا فى زمن  التفريط والمسخرة؛ فكان الله لنا هو أهون الناظرين (من وجهة نظرها)، وكيف أننا حصاد سييء لتربيتها بخروجنا عن النص الاجتماعى التى طالما بذلت فيه الغالي والرخيص دون جدوى و.و.و.و. وقالت الهانم اختكم ذهبت مع زمايلها لمنزل زميلة لهن بعد خروجهن من الكلية ليحتفلوا معها بعيد ميلادها!

وصمتت أمى

فسألناه وبعدين

فنظرت  فى غيظ.. وقالت يعني إيه وبعدين؟!!

حصل لها حاجة هناك يا أمى؟!

قالت متهكمة هو دخولها بيت غريب مش حاجة يا رداله (يا رجاله )؟!

يا أمى دي راحت  مع زميلاتها وفى بيت فيه أم زميلاتها وأسرتها يعني صُحبة آمنه

قالت ساخرة: صُحبة آمنة ليه.. كانت رايحة تحج يعني؟

واستطردت قائلة: هو أنتم إيه معندكمش دم!

يا أمى زميلتها إحنا عارفينها كويس بنت زي الفل؛ أدب وعلم وأخلاق .. ثم إنها بتيجى لها هنا فى بيتنا .. فيها إيه لو شقيقتنا راحت لها فى بيتها

قالت وايش ضمنكم إن ملهاش أخوات شباب؟!!

وليكن ثم إنها بتتعامل مع زمايلها فى الكلية شباب وبنات

قالت: الله يلعنكم ويلعن  التلفزيون اللى خرب عقولكم  وقتل فيكم النخوة وعلمكم تبقوا دلاديل .. أخس عليكم ..

أنا حقول لأبوكم يشيل الزفت ده من هنا.. ده عادي وده عادي  وده عادي لما الحكاية بقت كلها قلة أدب ومسخرة

يا أمى الدنيا اتغيرت

قالت العيب عيب فى كل وقت يا ولاد بطنى .. كفاكم بدع ماسخة تأخر ومتقدمش …

وغادرت مجلسنا والحسرة تنتابها علينا وعلى انفتاحنا وفجورنا واستهانتنا بالأصول وإطاحتنا بالأخلاق والقيم

وعلى الرغم من هدوء روعتنا على شقيقتنا بأنه لم يصبها مكروه(على الأقل من وجهة نظرنا) إلا أننا أصيبنا جميعا بشييء من الإحباط والاستنكار من ردود فعل والدينا إلا أن أحد منا لم يجرؤ على الجهر بهذه المشاعر والتعبير عنها  خشية الردع الأسري الذى يمكن أن يعصف بنا حال حدوث ذلك.

هكذا كانت تنشئتنا الاجتماعية ترى أن الاحتفال بيوم الميلاد باطل والتفكير فيه مذموم وممارسته خطيئة.. فأسقطناه وأشقائى بدورنا من قاموس حياتنا.. ومحورنا إسقاطنا هذا فيما بعد لفلسفة ساخرة للمحتفلين به.. وتراكمت علينا السنون ونحن نعزز ما اعتقدنا فيه ويشاء المولى أن يجمعني بزوجة تشاركني عقيدتي وعقيدة أبائي الأولين لنتربص سويا بأبنائنا ليعتقدوا قهرا  فيما اعتقدنا نحن به !

وأذكر أن أحد أبنائي أراد يوما أن يكيد بشقيقه لخلاف بينهما فوشى به عندي وقال إنه عقد النية  مع أصدقائه ليحتفلوا بعيد ميلاد صديق لهم! وإنه بالفعل بدأ يقتصد من مصروفه لهذا الغرض..

وظن ابني الشرير أن ثورتي  ستشتعل عليه، وفاته أن علمي ودراستي وعملي جعلونى أكثر تحضرا فكان ردي صادما له عندما قلت له: فى هدوء ادعو لأخيك ربنا يهديه..وليغفر الله له خطيئته!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى