تهويمات في الساعة الهامدة من الليل: من سلة الذاكرة.. اليرموك ملح فوق الجرح

فايز حميدي |أديب فلسطيني مغترب

بينما كانت شمس الظهيرة ساطعة بالغة أوج قوتها ، سمح بالدخول الى المخيم ….طفق يمشي بخطا وئيدة ، عاقدا يديه خلف ظهره ، بينما كانت محركات سيارات التعفيش ، والدراجات النارية ، تتناهى الى مسامعه مثقلة بالوحشة … كانت تفعم الأنوف رائحة الغبار ، والعرق ، والزيت المحروق ، ودخان التنحيس …
إنها ذهنية التعفيش …
إنها أشبه بظل شبح يسيطر على المخيم ، إنها عقلية القرون الوسطى في زمن الكمبيوتر ، والانترنت ، والروبوت ، إنها عقلية مانحي صكوك الغفران ، إنها نفسها تلك العقلية التي يحتكم فيها إلى كتبه الصفراء البالية فلا يرى فيها عدوا سوى الفكر الحر ليغتاله .
كم من الأشخاص تحولوا إلى مهربين ، وسارقين ، وخاطفين ، وقتلة ، وجزارين …وكان بوسعهم أن يكونوا أفضل الأشخاص لو لم يتقوض مجتمعهم ….الحرب التي قتلت فينا أشياء كثيرة ، قتلت خوفنا من أشياء كثيرة أيضا .
كان ثمة عددا من النسوة متلفعات بالسواد ، يمشين على مبعدة يسيرة بين صفين من الأبنية المتهالكة حيث يمتد شارع اليرموك كجثة هامدة ، يبدو كحشد من الرجال السائرين خلف تابوت خشبي محمول على الأكتاف .
رجل طاعن في السن ، كئيب الوجه ، تهالك على حافة الرصيف ، يستجمع قواه ، ويسوي حطته على رأسه ، يرغب في الصراخ ، غير ان الدموع بللت وجهه المتجعد ، ولحيته الطويلة البيضاء ، ينفث نفسا عميقا ويتمتم :
– وماذا بعد…أما آن لهذا الليل أن ينجلي ..
شاب أغمض عينيه نصف إغماضة ، وزم شفتيه ….يصرخ بمرارة :
-أين بيتي ، وبيت أهلي ؟
وأوشك أن يقذف بجسده فوق بقايا بيت تحول الى ركام ، سارع أحدهم وأمسك به ، واقتاده بعيدا ، وأخذ يواسيه متمتما بكلمات العزاء والتشجيع …وامتلأ المكان بموجة من الضجيج الحزين ، يبوح برثاء أسود.
ظل الشاب واقفا وحده ، يتأمل كومة الإسمنت المرتفعة عن الأرض بنظرة إنكسار وذل ، بينما كانت حبات العرق تنساب على محياه ببطء ، والشمس فوقه حارة ومضيئة ، والحنق في شرايينه يلقي بانشودة خشنة .
عندما اقترب من منزله ، كان يبدو كتل صغير من الرماد ، حاصرته الكتل الاسمنتية المحطمة ، غرق في دوامة حنين لأبنية المخيم وأزقته …كان بعضها يئن ، ويهذي ، وبعضها الأخر يعاتب ويؤنب ..
لفه دوار بسيط ، حاول معه أن يتماسك …نجح في الدقيقة الأولى ، ولكنه وقع عندما زلت قدمه ، وابتلعته في الحال عتمة كثيفة ، أحس بأنه ذبابة ضائعة تبحث عن سطح صلب ، تتشبث به .
لعق الدم المنساب من كف يده …وتمتم :
سأبحث عن البحر … فالبحر وحده لا سيد له ، ولا أحد يستطيع شراءه ..
كان اليرموك مدينة غنية بالألوان ، نابضة بالحياة ، يرضيه قليل من الاستقرار ، قليل من الحرية ، قليل من المال …وفيه الكثير الكثير من الحب والكبرياء . من أجله تدور في أعماقنا ألف حرب وحرب ، ولم يكن في داخلنا سوى فراشة صغيرة ، تدور حول زهرة …لكن قل لي بالله عليك :
كيف تمكنت منا الى هذا الحد ؟
كيف أشعرتنا بلحظة أننا أعزاء ، وفي لحظة أخرى بأننا يتامى هذا العصر الماسوني الفاجر ؟
كم أكره علاقتنا هذه ! وكم أحب مغفرتنا لك ، وولعنا بك ، كيف حفرت في أعماقنا كل هذا الحزن ، وحرثت فيها مزارع الخوف ؟
كيف فعلت ذلك وأرض الرباط ، ما زالت هناك تستصرخ أهلها.
بالأمس القريب -أعني قبل عشرات السنين – لبسنا أحلامنا على قفاها ، وربما انتعلنا عقلنا بالمقلوب ، وخضنا صراعات لا مبرر لها ، ورقصنا على ايقاع حلم دنا قطافه ، وكان وهما .
الفقد ذاته ، الوجع ذاته ، الحزن ذاته ، تعددت المحطات في حياتنا …..كم هي قاسية تلك الذاكرة المختزلة بكل هذه الاحداث ….
في ذلك المساء الكارثي الحزين ، جنحت للأفول شمس غاضبة ، كانت تطلق صراخا ، حيث الجرح عميق ، والدمار واسع …بينما كانت سحب الجراد قد التهمت كل ما وجدته في طريقها …
أخذته الذاكرة بعيدا الى أيام الزمن الجميل ، الى الشاعر معين بسيسو :
الصمت موت
والقول موت
فقلها ومت
……………
(القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية )

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى