كلام في القدر.. فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك

د. خضر محجز | فلسطين

يتمنى الكثيرون من طيبي القلوب، أو لو كان بإمكانهم أن يقرروا حقيقة القدر، ليثبتوا حرية الإنسان في اختيار عمله. ولذا تراهم يحشدون في سبيل ذلك الآيات. وهذه بعضها:

1ـ “لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ” البقرة/256

2ـ “قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ” الأنعام/104

3ـ “مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً” النساء/79

4ـ “وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” الكهف/29

وفي المقابل ترى طيبين آخرين يرغبون، من صميم قلوبهم، أن يثبتوا أن الله يجبر العباد على أفعالهم ـ بل إن بعضهم يذهب إلى أنه ـ سبحانه ـ يخلق هذه الأفعال على أيديهم. ويحشدون لإثبات ذلك الكثير من الآيات، وهذه بعضها:

1ـ “وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً” النساء/78

2ـ “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ” الأنعام/35

3ـ “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ” الأنعام/112

4ـ “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ” يونس/99 ــ 100

5ـ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ” هود/118

6ـ “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ” الصافات/96

7ـ “وهديناه النجدين” البلد/10

وحتى في رواية السنة النبوية وتفسيرها وُجد من الفريقين، من يرغب في جعل الإنسان حراً يخلق أفعاله ـ في استقلال تام عن الإرادة الإلهية ـ كما وُجد من يجعل الإنسان مسلوب الإرادة عبداً، يدفع ثمن جرائم لم يرتكبها في الحقيقة… وسنعرض لذلك في حديثين صحيحين، رُويا ثم اختلط أحدهما بالآخر:

الحديث الأول:

عن عبْدِ اللَّهِ بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ”. متفق عليه (البخاري: 3208، 3332، 6594، 7454 ومسلم: 2643).

الحديث الثاني:

عَنْ سَهْلٍ بن سعد، قَالَ: “الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لَأَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ” متفق عليه (البخاري: 4209 ومسلم: 2651).

ولم يخرجه أصحاب السنن الأربع، بل أخرجه أحمد عن سهل نفسه، في مسنده، من رواية ضعيفة عنه، فيها عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار.

فدعوني الآن يا أصدقائي أستعين بالله، وأتبين ما يأتي:

1ـ قوله: “فيما يبدو للناس” ليس جزءاً من الكلام النبوي في حديث عبد الله بن مسعود، ولا هو من حديث أبي هريرة.

2ـ بل هو من حديث سهل بن سعد الساعدي، ينقله عن الرسول، لكن ليس في معرض الكلام عن كتابة قدر الجنين عند لحظة نفخ الروح فيه؛ بل في تفسير سبب دخول رجل منتحر للنار، فيما هو قد بدا في حياته مؤمناً.

3ـ إذن فالواضح أن بعض من يتكلمون في علم الحديث ـ ويدرجون في حديث القدر عبارة “فيما يبدو للناس” ـ قد وهموا فظنوها منه، ونقلوها إلى حديت ابن مسعود وأبي هريرة، من حديث سهل بن سعد، الوارد في موضوع الانتحار.

أو أن بعضهم أدرجها في نص ابن مسعود وأبي هريرة، مع أنها لم ترد إلا في رواية سهل في حديث الانتحار. بمعنى أنهم أوردوا رأيهم التفسيري لكلام النبي، مستشهدين على صحته بما قاله الرسول في موطن رأوه مشابهاً، وهو غير مشابه أبداً. فجاء من بعدهم من نقله، ظاناً أنه من كلام الرسول، فيما هو ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

4ـ يجب التذكير دائماً بأن عبارة: “فيما يبدو لناس” لم ترد من كلام النبي في تفسير القدر، في أي من الصحيحين والسنن الأربع ومسند أحمد. وقد رأيتها في شرح “الأربعين النووية” من كلام سيدي العلامة النووي، بهذه الدقة البالغة إذ قال في شرح حديث ابن مسعود ما نصه: “يدل عليه الحديث الآخر (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)”. فأكد ما ذهبتُ إليه من أنه يراها جزءاً من حديث آخر هو حديث سهل.

ونتيجة كل ما سبق واضحة:

القدر سر، وتفسيره لم يرد عن رسول الله، في أي نص صحيح من كلامه صلى الله عليه وسلم. خصوصاً وقد ذكّر موسى آدمَ ـ عليهما السلام ـ بمعصيته التي أخرجته من الجنة، فألزمه آدمُ الحجةَ وأسكته، مستدلاً على ذلك بأن الله قدر المعصية عليه قبل أن يخلقه. وهذا نص الحديث من الصحيحين:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “احتج آدم وموسى. فقال موسى: يا آدم! أنت أبونا. خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى. اصطفاك الله بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟” فقال النبي صلى الله عليه وسلم “فحج آدم موسى. فحج آدم موسى” متفق عليه (البخاري: 7515، ومسلم: 2652)

نتيجة النتائج:

لا يمكن القول بحرية الإنسان في اختيار مصيره وعمله، بنفس قوة أنه لا يمكن القول بأنه مجبر على ما يفعل. فالله وحده هو من يعلم حقيقة ذلك.

فالقدر سر الأسرار يا عباد الله. أتعلمون لم؟ لأنه فعل الله. وهيهات أن يحيط المخلوقون بفعل الله، لأنه صفة من صفاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى