علم النفس الإيجابي: مسارات واستراتيجيات الازدهار في الحياة

د. محمد السعيد أبو حلاوة | أستاذ الصحة النفسية المساعد، كلية التربية، جامعة دمنهور

أولاً- مقدمة:

بدون الدخول في تفاصيل نظرية لا لزوم لها يمكن التأكيد وبصورة مباشرة على أن “علم النفس الإيجابي” ومع التسليم بوجوده ككيان علمي قائم بذاته ما هو إلا تجسيد لأحد التوجهات الكبرى في مقاربة الظاهرة السيكولوجية وصفًا وتفسيرًا وتنبؤً وضبطًا ذاع صيغ وبلغت شهرته الآفاق بجهد علمي منهجي قائم على الإحكام النظري والتأكيد الإمبيريقي من قبل أنصار ما يعرف بحركة تيار دراسة الإيجابية في الشخصية والوجود الإنساني؛ ومن ثم فإن علم النفس الإيجابي مجرد فرعًا نظريًا وتطبيقيًا في إطار التيار الرئيسي العام لبقية منظومات فروع علم النفس قبل من قبل ورفض من رفض.

من جانب آخر يمكن ببساطة شديدة أيضًا وبدون الدخول في تعقيدات مفاهيمية تزيد من تعريف علم النفس الإيجابي غموضًا وإبهامًا فيما يتعلق بماهية تعبير “الإيجابية Positivity ” ببريقة وجاذبيته وربما طابعه الفلسفي يعرف علم النفس الإيجابي بصورة إجمالية عامة بأنه “الدراسة العلمية المنهجية لكل ما يمكن الأشخاص والجماعات والمنظمات والمجتمعات من الازدهار”؛ ومن ثم فإن الغاية المركزية التي يدور حولها علم النفس الإيجابي وجودًا وعدمًا بمفاهيمه ومنهجياته  وتطبيقاته “الازدهار الإنساني Human Flourishing Or Human Thriving“، ويمكن ببساطة شديدة جدًا كذلك التعبير عن معادلة الازدهار بصفة عامة على النحو التالي:

-الازدهار في الحياة = الشعور بحسن الحال وامتلاء التكوين النفسي للإنسان بالانفعالات الإيجابية وراحة البال × الأداء النفسي الوظيفي المثمر والمنتج في الحياة.
بما يعني أن:
Flourishing = Feeling good ×  Doing good.

ثانيًا- الأعمدة الثلاثة “المقومات” للازدهار الإنساني في الحياة:

ويؤكد في نفس السياق على أن “الازدهار الإنساني” يمكن مقاربته بما يعرف “الأعمدة أو المقومات الثلاثة” التي تجعل للحياة الإنسانية قيمة وغاية ومن ثم جديرة بأن تعاش وفقًا لارتفاع معامل الاندماج فيها والترحيب بها، فضلاً عن الإثمار والإنجاز الإيجابي فيها بما يفضي إلى تحسين نوعية الوجود الإنساني بصفة عامة.

ويرى أنصار حركة دراسة الإيجابية في الشخصية والوجود الإنساني أن الأعمدة الثلاثة للازدهار الإنسانية تمثل ما سموه “القضايا التأسيسية لعلم النفس الإيجابية”، والتي تتمثل ببساطة شديدة فيما يلي:

  • اتساع المنظور وتعددية الرؤية والانفتاح العقليPerspective:

ويتعلق هذا المقوم برؤيتنا وتوجهاتنا في الحياة، ومدى إدراكنا بوعي لأفكارنا وانفعالاتنا، ومدى قدرتنا على تعلم ملاحظة والاستمتاع بكل ما هو إيجابي ومشرق فيما يحيط بنا، فيما يمكن تسميته بالتوهج والألق النفسي باندماج ووعي ويقظة وتنبه وتذوق مظاهر التميز والسرور في كل ما يحيط بنا فضلاً عن الإبحار في الحياة بذهنية الحلم الإيجابي المضفر بنيته بمقولة نعم “أستطيع” بتعددية رؤية وتنوع مسارات وسبل ومن ثم تعزيز كل ما ينمي “التفاؤل”، و “الامتنان”، و “تقدير الحياة”.

  • الآخرون “الناس”People:

إقبالاً وترحيبًا وتوادً وتراحمًا وتوجهًا نحو الأنس بهم وإيناسهم والعيش دائمًا بحضرتهم، ويعد ذلك الأساس القوي للارتباطات والعلاقات الإيجابية مع الآخرين، وتؤكد نتائج دراسات عديد على أن نوعية علاقاتنا الاجتماعية مع الآخرين العامل الأساس في التنبؤ بالصحة الجسمية والنفسية؛ ومن ثم يركز أنصار تيار دراسة الإيجابية في الشخصية والوجود الإنساني تصميم برامج تعليمية وتدريبية وإرشادية تستهدف تمكن الشخص من مهارات تكوين علاقات بين شخصية ودية مع الآخرين بما يزيد من الشعور بالتعلق والارتباط بالآخرين بل وبكل ما هو مشرق وإيجابي مما يحيك به، فضلاً عن تنمية شعوره بالأمن النفسي والانتماء والتواد. 

  • القوةPower:

ويتعلق هذا المقوم بقدرة الشخص على الفعل والتأثير بفاعلية واقتدار في بيئته، ويتصف هذا الجانب من الازدهار الإنساني بالتركيز على: الاندماج في الحياة والترحيب بها والتدفق فيها، الصدق وحسن النية وامتلاء القلب بالشغف بالحياة حبها، فضلاً عن التوجه إراديًا نحو كل ما يحقق الارتقاء الشخصي في الحياة، وبما يستلزمه ذلك من تعلم حب الفضول والرغبة في الاستكشاف، وإدارة المشاق والضغوط، وتنمية ما يعرف بذهنية أو عقلية النماء والارتقاء، واكتساب العادات السوية للارتقاء وتحقيق الصحة، والسعي في الحياة وفقًا لبوصلة قيم شخصية أخلاقية إيجابية، والتفاعل في الحياة بذهنية السلوك الموجه بالهدف ونحو كل ما يزيد الحياة قيمة ومعنى وثراءً وإثمارًا. 

ثالثًا- المكونات الفرعية لأعمدة الازدهار النفسي في الحياة:

  • اتساع المنظور وتعددية الرؤية والانفتاح العقليPerspective:

اتساع المنظور والإقبال على الحياة بوعي يقظ وانفتاح وعي بالذات في الوجود وبالوجود في الذات تكوينًا نفسيًا متعدد الأبعاد يتضمن الأبعاد التالية:

  • الغرض Purpose:

يشير بعد “الغرض” إلى اختيار الشخص لمجموعة من الأهداف الحياتية التي توجه تفكيره وانفعالاته وأفعاله في الحياة وتضفي على حياته قيمة ومعنى. وينظر إلى بعد “الغرض” بوصفه ترياق التعافي من متاعب الحياة ومشاقها وقوام التحمل والجلد والمثابرة فيها وتأمينًا للذات في وسط عواصف الحياة وتقلباتها، ويمثل بوصلة التوجيه الذاتي الإرادي لكل ما له قيمة وأهمية بالنسبة للشخص.

وعلى ذلك فإن امتلاء التكوين النفسي للشخص “بالشعور بأن للحياة غرض وهدف وغاية” ملمحًا أساسيًا من ملامح أصالته في الوجود، ودافعًا له نحو استثمار وقته وتعريف وتحديد ذاته وصياغة صورتها المأمولة في المستقبل.

  • اليقظة الذهنية أو الوعي القصدي الآنيMindfulness:

يقصد باليقظة الذهنية كبعد من أبعاد الرؤية واتساع المنظور ذلك وعي الشخص السوي بأفكاره وانفعالاته ومشاعره وخبراته التي يمكن أن يستمرها كل يوم في سياق ظروف حياته الراهنة وفقًا لذهنية هنا والآن وتلمس كل ما يثري حياته الحاضرة ويزيد من إمكانية الاستمتاع فيها. وتظهر نتائج عديد من الدراسات في هذا الصدد أن “تنمية اليقظة الذهنية” بأبعادها ومكوناتها الفرعية وممارستها على نحو يومي يفضي إلى خفض المشاق والكروب والقلق والاكتئاب والألم والأرق وغير ذلك من متاعب الحياة.

والأكثر من ذلك أن اليقظة الذهنية ترقي من رؤية الشخص وتدفعه باتجاه الوعي بكل ما يحيط به تفهمًا وتحليلاً وليس نقدًا أو رفضًا فوريًا مباشرًا، فضلاً عن الشعور بالهدوء والاتزان والتقدير لكل ما ينعم به الله عليه.

ج- الاستمتاع والابتهاج بمذاق الحياة والخبرات الإيجابية Savoring:

أحد المصطلحات المركزية في بنية علم النفس الإيجابي يستفاد منه تعايش الإنسان مع حالة وجودية تتضمن مذاقًا إيجابيًا لمباهج الحياة، والاستمتاع بمذاق الخبرات الحياتية الإيجابية معًا Savoring the good times، ولا يقصد بالخبرات الإيجابية الخبرات الحياتية السارة بل كافة خبرات الحياة وظروفه، مع التوجه لاستثمار كافة فرص وأنشطة الحياة التي تجلب الراحة والاستمتاع المتبادل في جو من الألفة والتواد والتقبل.

وعادة ما يعبر عنه بمعادلة على النحو التالي:

التلذذ أو الاستمتاع والابتهاج = مثير إيجابي × مشاعر إيجابية × وعي بمذاق إيجابي للحياة.

ويتضمن مذاق الإيجابية في الحياة ما يعرف “بامتلاء الوعي العقلي بالخبرات الإيجابية” ومن ثم كما تتضمن حالة الابتهاج والتلذذ بمباهج الحياة تركيز الشخص على الخبرات الإيجابية في الماضي والحاضر والمستقبل، وترتبط بصورة مباشرة بحالتي التدفق كحالة وجود يندمج بموجبها الشخص بكامل منظومات شخصية فيما يؤديه من أعمال ببهجة وتلقائية ونسيان للشعور بالذات، واليقظة العقلية كحالة تركيز عن وعي وقصد بعطاء اللحظة الحاضرة بتقبل وبتوقف عن التقييم النقدي أو عن إسقاط الأحكام التقييمية.

وغريب أمر الإنسان غالبًا ما تتفلت من بين يديه وبسرعة شديدة اللحظات المبهجة والمفرحة في حياته دون استثمارها أو الاحتفاء بها أو ربما الغرق بهجة منضبطة أخلاقيًا بها: قد لا تسعد إذا أهدى إليك صديقك هدية ما! هل هذا أمر طبيعي؟ قد لا تبتهج إذا داعبك وأضحكك زميل لك! هل هذا أمر طبيعي؟ قد لا تبتهج برؤية ألوان الطيف تزين السماء! هل هذا أمر طبيعي؟ قد يرى البعض أن هذه لحظات صغيرة ولا قيمة لها، وأن الانفعالات الإيجابية التي ترتبط بها سرعان ما تتلاشى……. لكن واقع الحال على غير هذا التصور إذا أن «التعود على التنقيب عن هذه اللحظات وانتظارها وترقبها واستثمارها يجب أن يكون أسلوب حياة» يزداد به تذوقه لما يصح تسميته «مذاق الحياة». وعلى ذلك ما الذي نقصده بالضبط بمصطلح «تذوق حلاوة الحياة savoring»؟ وكيف يمكن أن يكون أداة رائعة لتعزيز الإيجابية وتقويتهاboosting positivity وبناء السعادة building happiness؟.

وعرف فريد براينت Fred Bryant وجوزيف فيروف Joseph Veroff (2007) مصطلح Savoring بأنه “ملاحظة الشخص وتقديره للجوانب الإيجابية في الحياة وبحثه عنها وعيشه فيها” وتمثل حالة التوجه الذهني القائم على الاستمتاع بمذاق الحياة النظير الإيجابي لحالة المواجهة coping فالمواجهة دائمًا مجابهة لشدائد وضغوط ومصاعب ومشاق وعنت وعثرات، أما الاستمتاع بمذاق الحياة فتلمس على الدوام لكل جوانب البهجة فيها ولكل مظاهر الجمال ولكل ما يوجب الفرحة والبهجة ومن ثم صناعته والغرق فيه والتعايش معه والتركيز عليه، وأشار فريد براينت Fred Bryant وجوزيف فيروف Joseph Veroff (2007) إلى أنّ الاستمتاع بمذاق رنين الإيجابية في الحياة لا يعني مجرد السرور واللذة، بل يركز فيه على “حالة الوعي العمدي واليقظة العقلية الآنية”، و “الانتباه الإراديللخبرات المبهجة وسعي متواصل للبحث عنها وتلمسها في كل شيء بل والاجتهاد في تكوينها حال افتقادها فيما يعرف بصناعة فرص وخبرات الابتهاج الإيجابي (Bryant &Veroff, 2007: 5)، فضلاً عن أن بإمكانك أن تتذوق الابتهاج بما يعرف بالعبرة أو الابتهاج البديل عندما تسعد وتحلق في السماء فرحًا بسعادة شخص آخر أو بنجاحه أو بإنجازاته، الأمر الذي يعبر عن دلالات أخلاقية بالغة الرقة تقترن بهذا المصطلح تتثمل في السعادة بسعادة الآخرين، الابتهاج ببهجة الآخرين والاندفاع في صناعتها لهم.

د- الامتنانGratitude:

ولا يقصد بالامتنان مجرد تذكر الشخص أن يقول “شكرًا لك”، بل الامتنان فضيلة وعادة للوعي المفعم بالاعتراف بالجميل وتقدير كل النعم التي يحوزها الشخص، إنه توجه في الحياة يرقي شعور الشخص بالرضا وحسن الحال وراحة البال والاعتراف بفضل وجميل كل من حوله.

ولا يرتبط الامتنان والتوجه للشكر لدى ذوي الشخصية المفعمة بالبهجة بما هم عليه ولا بما يملكون فقط، بل يغطي الامتنان كذلك كل المنح والعطايا والدروس التي تعلموها مهما كانت العثرات والشدائد والظروف، وينظر ذوو المستوى المرتفع من الامتنان إلى كل موقف وكل ظرف على أنه نعمة ومنحة وفرصة للارتقاء والتعلم والاغتنام للاستمتاع الإيجابي المرتكز على القيم الأخلاقية.

وعرف الاختصاصي النفسي روبرت إيمونز الرائد الأول لدراسات الامتنان من المنظور النفسي الامتنان Gratitude بأنه “امتلاء التكوين النفسي للإنسان بالرضا والارتياح نتيجة تقديره وشكره لكل النعم والمنح والعطايا التي تلقيها عليه الحياة من قبل الآخرين أو من قبل الله جل شأنه، وقوام الامتنان التوجه الإرادي للشكر والثناء والعرفان بالجميل للآخرين ولله والتعبير التلقائي عن هذا الشكر والثناء”. ولا حظ روربرتإيمونز أن الامتنان يتضمن خطوتين متكاملتين:

  • اعتراف الشخص بالخير الموجود في حياته.
  • إدراك الشخص أن مصدر النعم التي يحوزها يقع في جزء أساسي منها خارج نطاق ما يقوم به من أفعال.

وعلى ذلك يمكن أن يعبر عن الامتنان بسلوك خارجي قابل للملاحظة مثل تقديم الشكر والثناء والإطراء والمديح للآخرين، إلا أنه يتضمن أيضًا عملية داخلية شخصية وخاصة تتمثل في الاعتراف بأفضال الآخرين والعرفان بجميلهم والتدبر والتفكير في جوانب الخير والنعم في حياته الشخصية.

  • الامتنان ترياق الانفعالات السامة مثل: الحسد والحقد والاستياء والندم والاكتئاب، ومن المستحيل أن يجتمع في التكوين النفسي للإنسان الامتنان والحقد والحسد“.
  • يمكننا الامتنان من التنعم باللحظة الحاضرة والتركيز على ما هو بالفعل على ما هو متاح لنا وبين أيدينا ونمتلكه لا على ما نفتقده، يحررنا الامتنان من التحسر على الماضي، ومن الغرق في توهم مستقبل حالم قائم على التمني، ويقيننا من تغييب الذات في الحاضر والرضا بما فيه.
  • الامتنان والرضا يزيدان من هرمونات السعادة في تكوين الإنسان.

هـ- التفاؤلOptimism:

يختلف التفاؤل عن ما يعرف بالتفكير القائم على الرغبة أو “التفكير الراغب القائم على مجرد التمني”، كما لا تشي دلالة التفاؤل أن ينكر الشخص الجوانب السلبية في الحياة ولا أن يهيم فيها دون وعي بوهم أن كل شيء وردي ومشرق على الدوام وفي كل الأحوال، بل  التفاؤل تجسيد لقدرة الشخص على تقبل المتصل الإجمالي العام للحياة بكل ما فيها مع إيثار الاحتفاظ بالرجاء وتوقع الخير وتصور أن المستقبل سيكون مشرقًا؛ ومن ثم فإن التفاؤل امتلاك الشخص حالة إيجابية للعقل يتوقع بموجبها أنّ الأمور ستؤول إلى الأفضل”.

وللتفاؤل رؤية ثلاثية الأبعاد عندما يتم التوقف عند التعريف اللغوي لمصطلح “التفاؤل” ومفاده أن “التفاؤل استعداد أو ميل للنظر إلى الجوانب المشرقة والمفضلة في الأحداث أو الظروف، وتوقع أفضل النواتج في المستقبل”، يمكن تجزئة هذا التعريف إلى ثلاثة اختيارات يمكن أن تجعلك يومك وكل يوم أمثر إشراقًا وأكثر إيجابية في حياتك اليومية وفي عملك، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

  • التفاؤل في واقعك OPT IN to Your Reality: تتمثل الخطوة الأولى في الاندفاع باتجاه التفاؤل الارتباط بالواقع وتقبله، وواقع أي إنسان يتضمن ظروفًا جيدة وأخرى سيئة، وواقع الأمر أن المتفائلين لم تلقى عليهم الحياة بكل النعم وواقعهم الحياتي ليس أفضل من الآخرين فهم ليسوا من المصطفين الأخيار، بل يوجد منهم من تلقي عليهم الحياة بمشاق ومحن وكروب ومع ذلك لا يفقدون اعتقادهم أبدًا أن الحياة أيضًا منحتهم منح وعطايا ومزايا يجب التوقف عندها، كما أن المتفائلين لا تغرقهم مظاهر البؤس ولا الشدائد بل يختارون تحدي ظروفهم الحياتية عبر ما يعرف بالرؤى الإيجابية والتمسك بما يعرف البحث عن كل مصادر ومقومات “التفاؤل المتعلم“.
  • التفاؤل في استجاباتك OPT IN to Your Responses: لا يرتبط المتفائلون بالواقع ولا يتقبلونه فقط، بل يجتهدون في تشكيله، ويدركون في نفس الوقت أن الإنسان قادر على إدارة وضبط أحداث حياته مع اليقين أيضًا أنه ليس باستطاعتهم هكذا بتلقائية ضبط كل وقائع وأحداث الحياة بل كل ما في إمكانهم تنظيم ذاتهم وضبط استجاباتهم وامتلاك زمامها.
  • التفاؤل المتعلق بالنواتجOPT IN to Your Results: يؤمن المتفائلون بقوة التفكير الإيجابي، ولا يتصورن التفكير الإيجابي تصورًا سحريًا بل يعتبرونه واجهة ودافعية وقدرة ترشدهم وتنظم مساراتهم في الحياة.

وتأسيسًا على ذلك فالتفاؤل توليفه أو تكوينًا نفسيًا يتعلق برؤية الشخص للواقع وتصوراته عن استجاباته وتوقعاته للمستقبل وليس مجرد التفكير القائم على الأماني أو فيما يعرف بالتفكير الراغب الذي يتوهم الشخص بموجبه أن كل شيء سيؤول في نهاية الأمر إلى الأفضل.

  • الآخرون “الناس” People:

كتجسيد للعلاقات بين الشخصية الإيجابية Positive Interpersonal Relationships، والعلاقة بين الشخصية الإيجابية هي رابطة بين شخصين أو أكثر غالبًا ما ترتكز على الشغف والهوى والحب والتماسك أو التكافل، وقوامها التقبل والتواد والتوجه القائم على الالتزام الذاتي والتعهد الإرادي بالارتقاء بنوعية حياة الآخرين، وتتشكل مثل هذه النوعية من العلاقات بين الشخصية الإيجابية في سياق مؤثرات اجتماعية وثقافية تؤسس لروح التآلف الإنساني. وقوام هذه العلاقات ملمحين أساسيين يتمثلان فيما يلي:

  • العلاقات القائمة على المساندةSupportive Relationships:

وتعد العلاقات القائمة على المساندة المصدر الأساسي للشعور بالأمن النفسي والبهجة الحقيقية في الحياة، كما أن توجه الشخص نحو استثمار وقته وجهده في تحسين وترقية نوعية حياة الآخرين في إطار علاقات بين شخصية إيجابية معهم تزيد من شعوره بقيمته وأهميته في الحياة، بما يوفر له ظروفًا حياتية مثلى للازدهار في الحياة. 

وتجسد العلاقات القائمة على المساندة الأساس لما يعرف بفلسفة معًا في الحياة السوية togetherness philosophy

لا يوجد معنى للحياة بدون تواجدنا معًا we-ness، تفاعلنا معًا we-ness، ارتباطنا معًا we-ness، تكاتفنا معًا we-ness، توادنًا معًا we-ness، تراحمنًا معًا we-ness، كلنا في حاجة إلى الآخر، والدرس الحقيقي الذي تعلمنا إياه الحياة هو أن “الحياة فن التعايش معًا we-ness” فنحن على حد تعبير فولتير معجونون من ضعف وأخطاء، ولا يمكن تجاوز حالة الضعف إلا بأن نكون معًا we-ness، ولا يمكن أن نتعايش بالأخطاء إلا بالتسامح forgiveness”.

إذن نقطة البداية في الإبحار الإيجابي في الحياة إثمارًا وتجويدًا تتمثل في وعيك بهويتك وبتمايزك التكاملي مع الآخرين وليس التفاضلي عنهم، في يقينك بقدراتك وإمكانياتك، في قراءتك للواقع وفق فلسفة الممكن والمتاح، في تركيزك على إثبات خصوصية ذاتك وجدارتها وأصالتها في إطار سياقك الثقافي والاجتماعي المحيط بك انتماءً له واعتزازًا به محافظًا على أمنه واستقراره وسلامته ترقية له وارتقاءًا به، في إيمانك بالآخر وحقه في الإعراب عن أصالة ذاته وصور اقتداره وجدارته، في السعي للآخر طلبًا للمساندة والتدعيم، في مبادرتك لتقديم المساندة والتدعيم للآخر، وبالجملة في تعلم أن الحياة هي “فن التعايش معًا” بدرجات معتدلة من المعادلة التالية:

(التعايش الإيجابي معًا= درجة معتدلة من تبنى فلسفة نفسي × درجة معتدلة من تبنى فلسفة نحن × درجة معتدلة من تبنى فلسفة أنت).

  • الشفقةCompassion :

الشفقة خبرة انفعالية راقية ونبيلة وفضيلة أخلاقية تتضمن الشعور بمعاناة الآخرين والتوجه الإيجابي الذاتي والتلقائي والإرادي نحو التخفيف منها بمساندة وتفهم. والشفقة بهذا المعنى أساسًا مركزيًا في تمتين روابط التعلق مع الآخرين وله تأثيرات إيجابية على الصحة الجسمية والنفسية للشخص.

وتعددت التعريفات التي صيغت في أدبيات العلوم الإنسانية لمفهوم الشفقة، ويمكن تناول بعض من هذه التعريفات على النحو التالي:

  • تعريف كوسليماكويوساسلو (2010):

الاهتمام بترقية نوعية حياة الآخرين وتحسين طيب حياتهم wellbeing (Cosley, McCoy, &Saslow, 2010) .

  • تعريف ديستينووفالديسولو (2012):

الشفقة “هل الشفقة قوة أخلاقية”؟ تتمثل الإجابة وفقًا لما أشار إليه عديد من المتخصصين في القضايا الروحية بأنها “حالة من الرفق والتعاطف والعفو التي يبديها الشخص نحو الآخرين” (DeSteno&Valdesolo, 2012) .

  • فيلدمان كيوكين (2012):

تُعرَّف الشفقة Compassion بأنها القلب الذي يرتجف في وجه المعاناة، وتمثل الشفقة بالذات وفقًا لهذا المنحى فإن الشفقة بالذات أسمى صفات قلب الإنسان، والدافع الكامن وراء جميع المسارات التأملية للشفاء والتحرر من أضغان القلب وأحقاده.

والشفقة على ذلك استجابة للمعاناة وللشدائد التي يتعذر على أي إنسان تلافيها في حياته، سواء أكانت ألمًا أو محنًا أو عثرات وإخفاقات فهكذا هي طبيعة الحياة مثل: الشيخوخة، المرض، والفقدان أو الانجراحات النفسية والانفعالية المؤذية، وهي استجابة قوامها الاعتراف بالألم وتقبله واليقين بإمكانية تجاوزه وتصويب الذات في إطاره .

والشفقة استجابة متعددة الطرز للألم والحزن والكرب وتتضمن: اللطف والحنو والتعاطف والكرم والتقبل، فضلاً عن أن خيوط الشجاعة والتسامح والاتزان منسوجة بالتساوي في نسيج الشفقة بالآخرين وبالذات، والشفقة فوق كل ذلك قدرة المرء على الانفتاح على واقع المعاناة والتطلع للتعافي منها، وإذا أردت أن تعرف معنى الشفقة عليك أن تنظر في عيني أم أب وهم يهدئون طفلهم المريض (Feldman &Kuyken, 2011) .

  • تعريف جويتز ، كيلتنر، وسيمون توماس (2010):

الشفقة Compassion “شعور ينشأ داخل التكوين النفسي للشخص عندما يشاهد معاناة شخص آخر، بحيث ترتب هذه المشاهدة رغبة لاحقة في تقديم المساعدة له”، والشفقة وفقًا لهذا التعريف حالة وجدانية تجسدًا شعورًا ذاتيًا تختلف عن النظر إلى الشفقة كاتجاه compassion as an attitude، استجابة إحسان عام للآخرين بغض النظر عن المعاناة أو اللوم، وعلى ذلك تختلف الشفقة أيضًا وفقًا لهذا التعريف عن “التعاطف” الذي يشير إلى الخبرة البديلة بانفعالات شخص آخر (Goetz, Keltner, & Simon-Thomas, 2010) .

  • تعريف كانوفومايتليس وورلين وداتون وفورست وليليوس (2004):

الشفقة “عملية علاقية تتضمن ملاحظة ألم شخص آخرين، والشعور بنفس رد فعله أو خبرته الانفعالية، والتصرف بطريقة لمساعدته في الراحة أو إزالة هذا الألم” (Kanov, Maitlis, Worline, Dutton, Frost &Lilius, 2004) .

  • تعريف ليليوس ، كانوف، داتون ، وورلين، ومايتليس (2011):

جاء تعبير ” Compassion” إلى اللغة الإنجليزية عن طريق حذر لاتيني هو ” passion” ويعني “أن تتألم to suffer” واقترن به بادئة لاتينية هي ” co” وتعني “معًا” ليصبح المعنى “فلنعاني معًا“.

ولمفهوم “الشفقة” في ارتباطه ب “المعاناة” جذورًا فلسفية ودينية، على سبيل المثال لاحظ الفيلسوف اللاهوتي المسيحي توماس الأكويني Thomas Aquinas الاعتماد والتداخل المتبادل بين “المعاناة والشفقة”، وكتب “لا يمكن أن يصبح أي فرد شفوقًا ورحيمًا إلا إذا عانى وتألم هو شخصيًا” (Barasch, 2005, 13)، الأمر الذي ارتبط في الآونة المعاصرة بالامتداد بمفهوم الشفقة لتتضمن “العلاقات بين معاناة الفرد والشفقة الموجهة نحو الذات والشفقة بالآخرين” (Lilius, Kanov, Dutton, Worline, &Maitlis, 2011) .

  • تعريف كانوفومايتليس وورلين وداتون وفورست وليليوس (2003):

الشفقة Compassion استجابة تعاطف انفعالي تجاه معاناة وألم شخص آخر، يتحرك الناس بموجبها نحو القيام بفعل يفضي إلى التخفيف من معاناته وإزالة ألمه أو على الأقل جعله محتملاً”، وعلى ذلك فإن مكون الفعل action component هو ما يميز الشفقة عن التعاطف.

  • ليليوس، وورلين، وميتليس، وكانوف، وداتون, وفروست (2008):

-الشفقة عملية متعددة الأبعاد تتضمن ثلاثة عناصر أساسية تتمثل في (Lilius, Worline, Maitlis, Kanov, Dutton, & Frost, 2008).

– ملاحظة معاناة شخص آخر.

‌- الشعور بالتعاطف مع معاناته وآلامه.

‌- التصرف معه بطريقة تستهدف لإراحته أو إزالة معاناته أو على الأقل التخفيف منها.

  • تعريفMiller, 2007)):

على الرغم من أنه لا يوجد تعريف واحد للشفقة ينطبق على مؤشراتها في كل المواقف، إلا أن المتخصصين فضلاً عن العاديين من الناس ربما يوافقون على أن الشفقة تتضمن الارتباط بالآخرين إما معرفيًا عن طريق اتخاذ منظورهم أو وجدانيًا من خلال التعاطف معهم، مع ابداء الاهتمام بالآخرين ورعايتهم غالبًا بطرائق تواصلية أو سلوكية، وتتضمن الشفقة التركيز على شخص آخر وإبداء الرغبة في إسعاده أو تمكينه من التغلب على محنة أو شدة (Miller, 2007).

  • القوة والاقتدار “المقدرة” Power:

يتضمن مقوم القوة “الاقتدار الإنساني” Human agency، وأشار ألبرت باندورا إلى أن “الاقتدار الإنساني Human agency” من منظور النظرية الاجتماعية المعرفية يعكس ما يصح تسميته “القوة الشخصية” و “امتلاك الإنسان لزمام نفسه تفكيرًا وانفعالاً وسلوكًا ومسارًا ووجهة في الحياة، فبدلاً من التسليم بأن شخصية الإنسان دالة لتأثيرات العوامل البيئية أو لقوى نفسية داخلية لا سيطرة له عليها، يقر باندورا بجدارة الإنسان واقتدار على تشكيل ماهية ذاته عبر: الوعي بالذات Self-awareness، تنظيم الذات self-regulating، التدبر في الذات Self-reflection، والسلوك الاجرائي الاستباقي proactive operational behavior ( Bandura, 1989).

ورأى ألبرت باندورا أن الاقتدار الإنساني يتضمن ثلاثة نماذج أساسية:

  • الاقتدار الفردي Individual Agency: ويعني قدرة الشخص على التأثير في البيئة بالاعتماد على ذاته وبسلوك استقلالي يثبت به ذاتيته وتمايز أصالة شخصيته “السلوك الموجه ذاتيًا “Self-directed behavior .
  • الاقتدار بالإنابة أو بالوكالةProxy Agency: ويشير إلى قيام شخص آخر ببذل جهد لتأمين احتياجات ومطالب الفرد.
  • الاقتدار الجماعي Collective Agency: ويعبر عنه بقيام جماعة من الناس معًا بتحقيق منافع عامة وإثمار كلي.

ويتضمن مفهوم الاقتدار الإنساني وفقًا للتحليل السابق أربع خصائص جوهرية تتمثل فيما يلي:

  • النية والقصدية Intentionalityويعني اتخاذ الشخص قرارًا إراديًا ذاتيًا بالاندماج في أنشطة معينة لها تأثيرات على إعادة تشكيل البيئة من حوله لتحقيق ذاته وإثبات تمايزها الإيجابي.
  • التفكير الاستباقي القائم على الاستبصار والبصيرة Forethought ويعكس التوجه نحو الأمام باستمرار، ويعكس قدرة الشخص على توقع نواتج أفعال معينة.
  • التجاوب الذاتي Self-reactiveness ويعكس قدرة الشخص على تكوين وضبط وتنظيم السلوكيات المناسبة لتحقيق أهداف مرغوبة وإيجابية، ويتضمن أيضًا سرعة رد الفعل واتساقه مع التغيرات الموقفية.
  • التدبر والتأمل في الذات Self-reflectiveness ويشير إلى قدرة الشخص على التأمل والتدبر وتقييم مدى دقة وإحكام عملياته المعرفية وسلوكياته.

ويعبر عن ماهية “القوة” كأحد أعمدة علم النفس الإيجابي بتكوينات نفسية متعددة تتضمن ما يلي:

  • الاندماج في الحياة أو الحياة المفعمة بالاندماج فيهاEngaged Living:

ويعني ذلك ترحيب الشخص بالحياة وإقباله عليها وتحركه باتجاه إثبات أصالة الذات والعيش انطلاقًا من قيمه وآماله وطموحاته فيها بيقين بقدرته على تحقيقها مهما، ورغم ما قد يتوافر لدى الإنسان من نوايا طيبة للمثابرة باتجاه تحقيق أهدافه والتغلب على أي عقبات تواجهه فإن هذه النية تتطلب الاقتران بأفعال مباشرة قائمة على التعهد الذاتي والإرادي من خلال الإقبال على الحياة والاندماج والإثمار فيها والتمتع بمستوى مرتفع من الحيوية الذات والثقة في الذات.

ويعبر عن هذا المعنى بمصطلح “حياة الاندماج The engaged life” وهي حياة تتحقق عندما نستثمر ونستخدم بصمات قوتنا وجوانب تميزنا كل يوم، ويقصد ببصمات القوة Signature strengths السمات الإيجابية (مثل: الرقة والعطف والحنو، الشغف والفضول الإيجابي، المثابرة والتصميم والجلد) التي تميزك أنت شخصيًا.

وعندما تستخدم بصمات قوتك الشخصية في إنجاز أو تحقيق شيء مفيد ومقدر بالنسبة لك، أن في مواجهة تحدي ما أو التغلب على صعوبة ما تشعر ب “السعادة الحقيقية Authentic Happiness ، والرضا عن الذات عبر ذلك الاندماج التلقائي والإرادي في خبرات الحياة دون شعور بالوقت، وهذا أمر يعبر عنه اصطلاحيًا في أدبيات علم النفس الإيجابي بتعبير “التدفق flow“.

  • الارتقاء الشخصي Personal Growth :

يعبر توجه الشخص نحو الارتقاء بذاته اندفاعه تلقائيًا نحو استثمار مكامن قوته وعتاده النفسي لتحقيق صورة الذات التي يبتغيها وفقًا لمفهوم “الوجهة الذهنية القابلة للنماء والارتقاء”. وقد يعبر عن الارتقاء الشخصي بما يكمن وراؤه من  الدافعية motivation وفقًا لنتائج دراسة د. أندرس إريكسون Dr. Anders Ericsson على أنها العامل الأكثر إسهامًا في التنبؤ بالنجاح في الحياة خاصة الحياة المهنية.

وبمعنى أكثر بساطة وجد د. أندرس إريكسون Dr. Anders Ericsson أن الخبراء experts في العديد من مجالات الحياة سواء كانت الرياضة، الموسيقى، الشطرنج، الرقص، أو الأعمال التجارية كرسوا جهدهم بصورة تكاد تكون حصرية وتامة وعلى مدار الساعة كما يقال في عملهم أو حرفتهم وصنعتهم، الأمر الذي أفضي بد. أندرس إريكسون Dr. Anders Ericsson إلى صياغة معادلة ما يصح تسميته الأداء الخبير أو مسار الارتقاء ليصبح الشخص خبيرًا في مجال ما وهي (10 سنوات × 10,000 ساعة).

من جانب آخر خلصت نتائج دراسات أخرى أنه كلما طالت مدة بقاء الإنسان في مهنته أو عمله، كلما قلت أهمية “القدرة الفطرية” innate ability ” (الذكاء على سبيل المثال)، وكلمات زادت أهمية وتأثير “الدافعية motivation ” كعامل أساسي في استدامة تركيزهم واستمراريتهم في العمل؛ وبالتالي تراكم معامل الخبرات الأمر الذي يرتبط بصورة أو بأخرى بالارتقاء المهني ـ الشخصي.

وعلى ذلك السؤال المطروح في المجال: ما سر قوة العلاقة والارتباط بين الدافعية والنجاح؟ ربما تكمن الإجابة في جزء منها على الأقل في أن “ارتفاع معامل الدافعية” عاملاً أساسيًا في تحفيز الشخص لحشد وتعبئة عتاده ومصادره النفسية وتهيئة ذاته للتركيز والاندماج والاستمرارية في بذل الجهد؛ الأمر الذي ربما يفضي بصورة عامة إلى تعظيم أداؤه وتحقيق نتائج فائقة.

والأمر الجدير بالإشارة أيضًا أن الدافعية بالتصور المشار إليه تنطبق على ما يعرف برغبة الشخص في إحداث تغييرات نوعية في حياته، وواقع الأمر فيما تفيد شواهد عديدة تغيير الشخص لمحتوى ووجهة ومسار حياته ربما يكون أمرًا بالغ الصعوبة ربما بسبب استقرار حالته التكوينية نفسيًا وأدائيًا على وضعية محددة لفترة طويلة من الوقت بما يصاحب ذلك من ألفة واعتياد، ومع ذلك يبقى لدافعية الارتقاء الشخصي قدرة تأثيرية قوية على حث الشخص على البحث عن قيمة ودلالات توجهه نحو التغيير الإيجابي لمسار ومحتوى ووجهة حياته حتى إذا تطلب الأمر كسره لعاداته وأنماطه السلوكية المستقرة في تكوينه لفترات طويلة والمثابرة المفعمة بالعزيمة والإصرار.

ج- الشفقة بالذاتSelf-Compassion:

تحدثنا كثيرًا ومطولاً وربما لن نمل عن ماهية “الشفقة بالذات والرفق بها Self-compassion: موجبات وحتمية” تصالحية والتقاء وتواد معها وعودة التآلف لروح منهكة أتعبها وخنقها خذلان الإنسان لذاته في مواقف ما كان يجب أن يخذل ذاته فيها، والموجب الأساسي للشفقة بالذات والرفق بها حتمية تخلص الإنسان من فجيعته في ذاته أو ما يصح التعبير عنه بلغة ربما أكثر قسوة “نكبته في ذاته” مع يقينه في نفس الوقت بحتمية التدارك حتمية التصالح حتمية التصويب حتمية عودة الروح في التكوين مرة أخرى.

وكثر الكلام في واقع الأمر عن كيف يظهر الإنسان شفقة ورفقًا بذاته مماثلة في الغالب لما يبديها لمحبوبه وأقرب وأخلص أصدقائه عبر تعدي هذا الإبداء من الآخر إلى الذات ليصبح الإنسان مع تلك الشفقة وذلك الرفق أقرب أصدقاء ذاته والمصاحب لذاته في حله وترحاله في يقظته وعفوته كظل قرين لا فراق معه ولا خلاص منه ولا حيلة إلا التعامل معه.

ونعرف جميعنا أن “الشفقة بالذات والرفق بها” تتمثل في أن يعامل الإنسان ذاته بلطف وتأدب وذوق وتقبل وود ودفء وتفهم في الأوقات الصعبة والظروف العصيبة، إلا أن الشفقة بالذات والرفق بها تقتضي إقرار الإنسان وتسليمه واعترافه واعتقاده جازمًا أن ارتكاب الأخطاء والحماقات بل الخطايا في حق الذات وفي حق الآخر وربما حاشى لله جل شأنه في حق الله جزءً مركزيًا في الطبيعة البشرية، وإن كان أفظع وأقسى الأخطاء والحماقات والخطايا تلك التي يرتكبها الإنسان في حق نفسه بإهانتها أولاً وبإماتتها نفسيًا حسرة على التقصير في شأنها ثانيًا، وباستقالتها من الفاعلية والحياة تأثرًا بهذه الحسرة ثالثًا بما يعبر عنه مجازًا بممارسة الإنسان لما يعرف بالاغتيال المعنوي للذات.

هنا وهنا فقط تكمن الصعوبة في التدارك، الصعوبة في الشفقة بالذات والرفق بها لأن الجُرح جرحًا وجوديًا يجسد هزيمة الإنسان أمام صورة ذاته أمام كبريائه المفترض أن يكون إيجابيًا إنها الفجيعة في الذات، ورغم لكل شيء إلى مرد من سبيل وقوامه ذلك السبيل ومساراته تتطلب مجاهدة النفس لا عقابها، تصويبها لا توبيخها ولا كراهتيها ولا جلدها، تعبئتها بعتاد العزيمة في إطار ما يعرف بفلسفة “إفاقة الذات أو الاستفاقه الذاتية Self-based Regain consciousness” والانسياب في دروب المجاهدة وفقًا لمحطات متتالية:

  • اليقين بأننا بشر وأن الخطأ والنقص والقصور والنسيان يجري على البشر كل البشر ولا عصمة لأحد من الأخطاء إلا الأنبياء والرسل اصطفاء جلال وبهاء من قبل قيوم السموات والأرض.
  • امتلاء التكوين النفسي للشخص بالوعي التام بأفكاره ومشاعره السلبية تقبلاً واعترافًا بالوجود وربما تألمًا ولا مانع حسرة واختناقًا مؤقتًا دون التوحد معها أو تعريف الذات وتحديد ماهيتها في إطارها بل اعتباره مرحلة ونقطة فارقة تقتضي التجاوز مع التسلح بكل ما يمكن من التجاوز.
  • عقلنة الذات إراديًا بتحجيم الميل إلى النقد الجارح والمهين للذات؛ ذلك لأن التماوج في دوامة النقد الجارح والمهين للذات إهانة لتكوينه وإماتة لهمة الحياة في ذلك التكوين.

وفي إطار هذا التأصيل يأتي تصور أن “الشفقة بالذات والرفق بها” لا تتضح مؤشراتها إلا في أوقات الضغوط والمتاعب والمشاق والظروف العصيبة، والأمر في الواقع قد يحتمل تصورًا آخر لإنفاذ مضامين الشفقة بالذات والرفق بها وهو ظلمه لذاته وارتكابه آثامًا في حقها ويكون الاعتذار للذات هنا أولى خطوات الانسياب في مسار الشفقة والرفقة لا تسويغًا للخطأ ولا ارتضاءً به إنما توجهًا لتفكيك بنية هذا الظلم تصالحًا وتصويبًا، مع التسليم في نفس الوقت أن المعاناة جزء طبيعي في الحياة ولا يحتاج الإنسان أثناء المعاناة والألم أكثر من “اللطف والرقة والحنو على الذات“.

وعلى ذلك يجدر الإشارة إلى أن “الشفقة بالذات والرفق بها” لا تدور وجودًا فقط مع “الحنو على الذات واللطف بها”، بل كذلك “استراتيجية دافعية motivational strategy”، فمن يظهرون شفقًا ورفقًا بذواتهم بعد تعرضهم لإخفاقات أو ارتكابهم لأخطاء أكثر توجهًا ذاتيًا تلقائيًا وبإرادة منفردة نحو تصويب الذات وتحسين صورتها واستعادة رسم مسار الإيجابية.

وما يفترض التأكيد أن الشفقة بالذات والرفق بها لا تعني أن يترك الشخص لنفسه الحبل على الغارب كما يقال بل على العكس عليه أن يقيم ذاته وأن يجبر ذاته على أن يكون أفضل مما كان وأفضل مما هو عليه الآن بل وربما أروع مما يتصور أن يكون عليه في المستقبل.

وانطلاقًا من هذا التأسيس لا يمكن إنفاذ مضامين “الشفقة بالذات والرفق بها” حال مواجهة الضغوط والعثرات والمتاعب إلا بتمكين الشخص من أدوات وفنيات التعامل مع الضغوط في إطار بناء الصمود resilience واللياقة النفسيةmental fitness .

د- خبرات التدفقFlow experiences:

في تعبيرها عن اندماج انتباه ووعي وفعل الشخص معًا في منظومة أداء واحدة على أن تكون هذه الخبرات ذات معنى وقيمة وأهمية بالنسبة للشخص وتتماس مع شغفه ودافعيته الذاتية في الحياة، فضلاً عن اعتقاده بأنه يمتلك المهارات والقدرات التي تمكنه من مواجهة تحديات ومطالب الحياة والمهام التي يتعين عليه القيام بها. 

“ويعبر عن التدفقأو “حالة التدفق flow state” بأنه استغراق واندماج الفرد بكامل منظومات شخصيته في النشاط أو المهمة التي يقوم بأدائها أو التعامل معه مع فقدانه الوعي بذاته، ومع ذلك فإن “التدفق”، و “اليقظة الذهنية” حالات دالة على “التركيز الذهني العميق”، لكن يتضمن التدفق ما يعرف بالسلوك الموجه بالهدف لأنه حالة يخبرها الشخص حال تفاعله وتعامله مع مهمة أو نشاط، في حين تتعلق اليقظة الذهنية بتركيز قنوات التمعن والانتباه والإدراك كلية نحو اللحظة الراهنة أو الحاضرة، من جانب آخر يتعلق التدفق بالتركيز التام على المهارات وإنجاز الهدف بما قد يتعلق بذلك التركيز من أفكار من الماضي والمستقبل وأحكام على الأفكار وتقويم لها.

وعلى ذلك عرف ميهالي تشكزنتميهالي (2044) التدفق بأنه “حالة من توجه إرادي تلقائي ذاتي من قبل الشخص للتركيز التام وبكامل منظومات شخصيته في العمل أو المهمة أو التحدي الذي يواجهه مفعمًا بدافعية داخلية عالية جدًا، وغارقًا في شعورٍ غير متصور من البهجة والسعادة دون انتظار أي إثابات من خارج المهمة أو النشاط أو العمل الذي يقوم به. (Csikszentmihalyi, 2004).

  • راجع:

Jared S. Warren (2022). Positive Psychology Strategies to Help you Thrive. https://www.mybestself101.org/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى