خُرّيفِيِّه (قصة قصيرة)

وليم فوسكرجيان | فلسطين

متكوّم هناك كنت .. فوق أحد المقاعد الّتي تملأ أحد مسارح المدينة المكروهة.. من رجال شيخ مدينتنا ، والكثير من رجال الآخرة ..

أنتظر اللّحظة الّتي تطفىء فيها مصابيح المكان أنوارها .. معلنة بذلك بداية الحكاية .. وبعد أعوام من الانتظار والاصطبار، أطفئت مصابيح المكان أنوارها ..

وبدأت الحكاية ..

***

الرّجل .. بشعرة الأسود ، والمغرق بالسّواد ، والمبعثر بنزق فظّ فوق رأسه الضخم ، وعينيه الجاحظتين والمضطربتين ، وثوب عتيق ومهلهل يقبع وكما يبدو .. ومنذ أعوام وأعوام فوق جسده القصير جدا .. وكأنه .. قطعة صخر تقبع عنوة ..على قارعة أحد طرقات المدينة ..

كان نائما هناك .. على خشبة المسرح ، وهو يحتضن بين ذراعيه مكنسة بعصا طويلة ، وعلى طرفها الآخر .. ملتصق رأس فتاة .. يقطر القهر من عينيها الحزينتين ، وشفتيها الملطختين ببقع.. لا لون لها ..

***

يستيقظ الرّجل فجأة .. ليجد نفسه .. محاطا بتماثيل .. وشخوص .. وأصنام .. مصنوعة من قطع خشبية .. وقطع قماش لا لون لها ، ومليئة بالثقوب ، وملطخة بالطين والتراب .. ووجهه .. وعيناه .. وفمه ..وشفتاه.. مليئة بنظرات التذمّر والغضب والسّخط ..

يفتح فمه الكبير ، ليبدأ حديثه الصّاخب مع التماثيل والشخوص والأصنامه تلك ، والتي تحيط به .. ومن الجهات الخمس..أكثر وأكثر..

وبصفاقة لا حدود لها ..

في لحظات ، وانا استمع الى حديث الرجل الغاضب ، والذي تحول فجأة الى صرخات وكلمات حانقة ، كنت قد نسيت همومي ، وكل الآخرين، والدّائرة الّتي اعمل بها منذ عشرين قرنا ..

ومدير تلك الدائرة التي يمقتني بشده ، وأمقته بشده ، لكنني شعرت فجأة بالاختناق ، وكأن حبالا فظة وغليظة تحيط بي من الجهات الخمس .. وأتحسس المقعد الّذي كنت أجلس عليه ، فلا أجده .. هلع ينتابني .. وأنا أبحث عن المقعد الذي كنت أجلس عليه ، وقد كنت وقبل قليل .. أحادثه .. ويحادثني ..

***

ولست ادري ، والظّلام يملأ المكان بالسّواد المغرق بالسواد .. وكأن أيد صفقة ولعينة .. ولشخوص أخرى لعينة .. تراني ولا اراها .. تدفعني وتدفعني .. وبعنف لا حدود له ، وأنا لا استطيع ان أفعل شيئا إزاء ذلك .. لأقف هناك عنوة..

على خشبة ذلك المسرح .. مع أولئك التّماثيل والشخوص والأصنام الّتي تحيط وبصفاقة بالرّجل .. ومن كل جانب ..

***

الرّجل يلتفت اليّ .. وكأنه يرى ..

وجها كريها أخر ..

شخصا فظا آخر ..

صنما سافلا آخر ..

تمثالا لعينا آخر ..

الرّجل يوجه شتائمه إليّ أيضا ..

يصرخ في وجهي أنا أيضا .. ..

يحدجني بعينيه الساخطتين أنا أيضا..

يهددني بقبضات ساعديه الثائرتين .. أنا أنا أيضا ..

ابتسامة مرّة تملأ كلّ عينيّ ..

السخط المر ّيندلق من كلّ داخلي ..

الغضب المرّ يندلق من فمي وعينيّ ..

كان عليّ أن اقول شيئا ..

كان عليّ أن افعل شيئا ..

لكنّني لم أستطع .. لم لم لم أستطع ..

يزداد صراخ الرّجل ، وتزداد حشرجاته .. وتندفع الكلمات الكبيرة والصغيرة..الصاخبة والملتهبة .. من بين شفتيه المليئتين .. بالغضب الهادر .. وبسخط لا حدود له ..

***

الرّجل الثائر .. ينتفج صدره فجأة لتظهر منه .. رئتان مليئتان بالهواء الغاضب والسّاخط ، وليبدأ ، عراكا مريرا مع احد الأصنام .. وقد برز له كرش الكبير فوق ساقيه ..

الصنم ذو الكرش الكبير يقترب وبصفاقة من الرّجل .. وكأن الأرض قد انشقت .. وبرز من جوفها ذاك الصنم السافل ..

ذاك الذي اغتصب منه .. بيته ..

وامراته ..

وأحلامه الأخرى ..

وسنين وأعوام من عمره ..

يبصق الرّجل في وجه ذلك الصنم ..

يشتمه ..

يحدجه بنظرات نارية وهو يصرخ ويصرخ ..

ويظل فاتحا فمه الواسع حتى يتقيأ آخر انفاس الغضب الّتي تملأ صدره ومنخريه .. منذ اعوام واعوام ، والصنم ذو الكرش الكبير ذاك .. يحدّق بالرّجل،ولا يقول شيئا .. وكأنه قد فوجىء بما يحدث .. والصنم ذو الكرش الكبير ذاك .. يكره الرّجل .. يمقت الرّجل .. يتمنى اختفاء الرّجل .. من المكان والزمان ..

***

وتدور الدائرة على الآخرين ، ويبدأ الرّجل .. عراكا مريرا آخر مع الشخوص والتماثيل والاصنام القابعة هناك وهناك ، وهو يزداد حدّة وحدّة .. فهو يريدها ان تهتف معه ضد ذلك الصنم ذي الكرش الكبير والذي اغتصب منه.. بيته ..

وامرأته ..

وأحلامه الأخرى ..

وسنين وأعوام من عمره ..

والشخوص والتماثيل والاصنام ترفض أن تفعل ذلك ، وتردّ الشتائم .. بشتائم أخرى وقحة وصفقة .. فالصنم ذاك ..هو سيّدها ، ووليّ نعمتها ، والآمر والناهي في المدينة .. وكل مسارح المدينة ..

وهي واثقة ان كلّ ذلك .. لا يحتمل .. صفاقة هذا الاحتمال ..

ويندلق اللّعاب الأسود من بين شفتي الرّجل الساخطتين لتسقط وبصفاقة.. على وجوه تلك التماثيل والشّخوص والأصنام جميعا ..

ميّت يظهر فجأة في أحد زوايا ذلك المسرح ، وهو راقد في تابوت مغرق بالظلال السوداء ، وقد ضايقه وأزعجه وأثاره ما يحدث ..

ينتفض الجسد الميّت ..

يهتز بصخب جسد الميّت ..

الميت يفتح فاه المغرق بالسواد ..

يريد الميّت ان يقول شيئا ..

يريد الميّت ان يفعل شيئا ..

لكن الكفن الكريه يمنعه من ذالك .. والمشاهدون الذين كانو مشدودين ..بأعينهم وأنفاسهم إلى الرّجل ..

وشخوصه ..

وتماثيله ..

وأصنامه ..

وصراخه ..

وحشرجاته ..

ومعاركه ..

كانوا..وكأن حبالا لعينة تشدهم وتشدهم أكثر وأكثر..الى مقاعدهم وأماكنهم تلك.. حيث يجلسون ..

***

والمشاهدون الذين كانو مشدودين بأعينهم وأنفاسهم إلى ما يحدث ويحدث ..

وجوه .. وأصنام .. وتماثيل.. وشخوص أخرى .. لا أعين لها .. لا أنوف لها ..

لا شفاه لها .. وينطلق الدخان المغرق بالسّواد من أجسادها تطل فجأة من أعينهم .. وآذانهم .. وأفواههم ..

وجوه .. واصنام .. وتماثيل .. وشخوص أخرى ، والذين كانوا يملأون الكثير من مقاعد المسرح .. يحدّجون بالرجل المزروع في إحدى زوايا المسرح ، والحقد القاتل يطل وبفظاظة .. من أعينها وشفاهها ، وهي تتحرك دون هوادة .. يمنة ويسرة .. ويسرة ويمنة .. وهي تصرخ وتقول .. وتقول وتصرخ ..

***

أيد لا أراها .. ولا عدّ لها ولا حصر .. تشدني تشدني.. وبعنف إليها ، وكلّ الاشياءالتي تعرفني وأعرفها .. تهرب وتهرب وتهرب منّي ..

وجهي ..

عيناي ..

شفتاي ..

ساعداي ..

قدماي ..

صدري ..

وثيابي ..

وحذائي ..

وما بقي من جسدي .. وقد اصبحت اشياءه واشياء.. ولست ادري كيف .. مبعثرة ومبعثرة ..

هناك ..

وهناك ..

وهناك ..

وهناك ..

في ذلك المكان ، وقد اصبح وكأنه لا ينتمي .. إلى هذا المكان .. ولا إلى هذا زمان ..

***

متكوّم كنت هناك .. ومنذ أعوام وأعوام .. فوق احد المقاعد التي تملأ .. أحد مسارح المدينة المكروهة .. من من رجال شيخ مدينتنا ، والكثير من رجال الآخرة ..

أنتظر اللّحظة الّتي تطفىء فيها مصابيح المكان أنوارها .. معلنة بذلك .. بدء بداية الحكاية ..

انتهى

 

ملاحظة :-

قبل أكثر من ثلاثين عاما ، وفي مسرح الحكواتي.. في مدينة القدس العتيقة ..

شاهدت مسرحية تحدث خلالها .. مشاجرة بين ممثل .. ومجموعة من التّماثيل .. والشّخوص .. والأصنام .. التي كانت تحيط به وبفظاظة .. وبصفاقة .. على خشبة المسرح ..

ويقوم الرّجل بشتم تلك التّماثيل والشّخوص والأصنام، ولكم بعضه .. بنزق وغضب لا حدود لهما ..

وبعد ذهابي إلى منزلي الّذي يقبع عنوة قرب منزل أحد رجال الاخر، وبداخلي..تعصف ريح قاسية ..بكل الاشياء اّلتي تقبع في داخلي.. أجد إحدى يديّ وقد أمسكت عنوة قلما .. وعلى مجموعة أوراق ساخطة ، وبعد ساعات لا تعد ولا تحصى .. كان هذا النصّ .. وقد زرع عنوة .. في تلك الأوراق ..

أوراق تسكن معي .. حيث أسكن .. حتى يومنا هذا ، ولا أستطيع ، وبعد كل تلك الأعوام، وقد عشنا معا .. أن أطلب منها الرّحيل .. إلى مكان آخر ..

 

تنويه آخر : –

اضطررت أن أجري بعض التعديلات على هذا النصّ .. بطلب مُلِحٍ .. ولأكثر من مرّة .. من هذا النصّ .. والذي ما يزال يثير فيّ حتى يومنا هذا.. مشاعر شتّى

لا اعرف ما هي ، ومتى سوف تنتهي ..

  • اسم المسرحية : ” راس روس “وهي أوّل مسرحيّة فلسطينيّة تنتمي إلى مسرح المونودراما ، أي يقوم ممثل واحد بتمثيل تلك المسرحيّة
  • قام بتمثيل مسرحية “راس روس” … الصديق الفنان ..الاستاذ “عادل الترتير” وهو مؤسس فرقة .. “صندوق العجب “.. عام 1975م في رام الله .

وأحد مؤسسي الحركة المسرحيّة الفلسطينيّة ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى