أدب

حديث الجسد في قصائد الشاعر العراقي منذر عبدالحر

ناصر أبو عون | رئيس تحرير جريدة عالم الثقافة

عند قراءة (الصورة الشعرية الكلية) داخل قصائد الشاعر العراقي منذر عبدالحر يجدر بنا القول: أخطأ الواصفون والمتشاعرون بقولهم: (الشعر كلام موزون مقفى)؛ ربما كانت البديهة تقتضي الإشارة إلى (الإيقاع)؛ ولكنّ الصواب جانبهم؛ وربّما تداخلت على قلوبهم المعاني فتاهوا بين دروب الجمال؛ فخلطوا بين (النبر)، و(الموسيقى)، و(الإيقاع)، و(التقفية).. وفي نصوص الشاعر العراقي منذر عبد الحر الذي لا أعرفه إلا من خلال القراءة فقط سنعثر على معانٍ متعددة لصور بلاغية توسلت بلغة الجسد فكان الشعر، وكادت القصيدة أن تقول: اقرأوني
إنما الشعر له وجوه شتى، وإن كان (الوسيط واحدا/اللغة لا بوصفها حروفا منطوقة فقط)؛ والشعر في قصيدة منذر عبدالحر في قسمه الأكبر صورة أو مشهد يبدو من الوهلة الأولى على شكل لوحة أو غيمة تظلل سماء القصيدة تضامَّت فيها جزيئات بلوريّة متناهية الصغر، ومنمنمات متراكبة؛ تعلّم رسمها من المُصمِّم الأعظم {وَفِى ٱلْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٍۢ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍۢ يُسْقَىٰ بِمَآءٍۢ وَٰحِدٍۢ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ}[الرعد: 4]، قابلة للتشظي والانصهار وإعادة التشكّل في صور وعوالم لا نهائية من الجمال. {قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِى ٱلصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ}.[النمل: 44].
ومن ثَمَّ فقد عرف شيئًا وجهل أشياءَ مَنْ قال إنّ الشاعرية وَقْفٌ على كل من ملك ناصية اللغة، وركب أحصنة الحروف، وعزف بالكلمات، وترنّم بالقوافي وأوغل في الإنشاد، وارتدى بُردة حسّان، واقتطع الصخر من جبال المتنبي، وجلس في محراب أبي العتاهية، وتهتك في حانة أبي نواس، وتصعلك على أرصفة “الثابت والمتحول”!
وهذا ما أشار إليه (غريغوري باتسون) عالم الأنثربولوجيا في ستينيات القرن العشرين مؤكدأ على فكرة أن «الكلمات تستطيع أن تصوِّر أفكارًا مجرَّدة؛ بينما تمتلك لغة الجسد وظيفة مختلفة: وهي إظهار العواطف التي تُشكِّل تأثيرا حاسما على الطريقة التي تُكوِّن بها العلاقات».
«لُغة الجسد Body Language» في قصيدة (مناجاة متأخرة) للشاعر منذر عبد الحر، تحيلك إلى (أنماط من التّواصل غير الّلفظي)، وتدعوك لتحليل (الحركات الجسميّة)، وتستدرجك لتفسير دلالات (الإيماءات اللاشعوريّة) التي يُصدرها الجسد، وتستدعيك لتأويل (العلامات المرئيّة البؤرية المضيئة) على جسد القصيدة لتكتشف لما يخفيه الشاعر من انفعالات.
وبناءً عليه يمكننا القول: إنّ الشاعرية مصطلح قماشته واسعة؛ فتارةً – أيها القاريء تتحوّل إلى مصور فوتوغرافي وأنت تتجول داخل القصيدة -؛ تقتنص الجمال بضغطة زِرّ عندما تفتح الكاميرا عيونها، وتغمضها على مشهد طبيعي أو إنساني فيصير لوحة فوتوغرافية في جزء من الثانية؛ وتارةً أخرى تتبدّى لك الشاعرية داخل النص في مشهد سينمائي يتوسّل بالحركة المدركة والاستاتيكية تمثلا بقوله تعالى: {وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ ۚ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ ۚ إِنَّهُۥ خَبِيرٌۢ بِمَا تَفْعَلُونَ}[النمل:88]، وتكثيف الصورة، وتركيز الرؤية في بؤرة قصيّة من اللوحة الإنسانية التي نحياها على مدار الساعة؛ فصار فيلما وثائقيا لن يتكرر.
ومن الحقائق التي يجب تقريرها هنا أنّ الشاعرية لا تعترف بالقبح؛ بل ترى في كل زاوية من الخراب الذي تعيشه وصنعته نفوسنا المسكونة بالتوجّس بقعة ضوء، ورشّة أمل، وطاقة نور في آخر النفق، ونهاية وخلاصا من تلك العذابات التي اقترفتها أيدينا، وملاحة لا نظير لها؛ الشاعرية تتجلّى في صورها الأبهى داخل جسد هذا العالم، المتشظي إلى عوالم شتى من الجمال (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)[النمل:88]. من هنا تولد الشاعرية فداخل كل منا شاعر وإن اختلفت الأدوات والوسائل ولغات التواصل الإنساني على سائر تنوّعها؛ فالرسام يغمس ريشته في (Paltet Alwan نفسه المطمئة)، ليقتنص من رقعة الجمال الكوني أو الإنساني، مشهدا يضج بالموسيقى، ويتعالى بالرؤى، ويتراقص في ساحة اللوحة على أصوات (كونشرتو الجروسو). بينما القبح منتجٌ و(فايروس) متخلّق وإنسانيٌ بامتياز وقع في علم الله منذ الأزل، وصنعته الأنفس الأمَّارة بالسوء قابل للانطفاء في المهد، ولديه قابلية التحوّر والنمو، فيبيض ويفقس أفراخا تفقأ مناقيرها عين الجمال التي أهداها لنا الله في أرحام أمهاتنا.
وعندما تتأمل في سماء قصيدة (مناجاة متأخرة) سيظهر لك العراق في خلفية اللوحة في صورة امرأة بهية وقع في حبها السيّاب وكل عراقي نبت من سبخة دجلة وتكرع من طمي الفرات؛ امرأة تعرج إلى سدرة الجمال، وتتجول في فراديسها، وتصعد سلالم روحها، وتصلي ركعتين للعشق في كعبة عينيها، وتتهجد تحت أضواء جبينها، وتقطف السكر المتدلي لآليء من عراجين شفتيها، وتبحر في مراكب الاشتهاء على كتفيها، وترسو على مرافيء صدرها الظليلة ستعرف أن الشعر لا حدود لمعانيه، عصيٌ على التصنيف والتوصيف والتقعيد والقولبة.

يتبدى الشموخ المضمخ بالكبرياء، تاجا يزين الجباه المرفوعة المرفوع تحت ظلال العراجين المفترشة كمظلة متشابكة الفروع يتساقط الضوء من سعفاتها بلورا على الوجه المتأمل في اللاشيء، بينما العينان شاخصتان إلى القادم من بعيد إلى ساحة المعركة بأسنّة الحب، ونصال العشق المتكسرة على القلب المثخن بالفراق غير أن الأنف يرتفع اختيالا ويأبى الانكسار.
فحيثما وقع بصرك على فوتوغرافية (النخلة العراقية) تستيقظ بصيرتك، على إشارات تشعّ من هيئة الجسم المتحد بالجزع وحركته الاستيتاكية، يتلقى دماغك شفيرات لغوية، محملة بشحنة من الرموز اللغوية خفيّة المعنى، غير صائتةٍ أو مسموعة، تبعث برسائل غير منطوقة، تستقبلها العين ويدركها العقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى