إيمان العجائز

د. خضر محجز | فلسطين

ويسلموا تسليماً:

كثيراً ما قرأت لمن يقول بأنه: بما أن المسلم لم يختر إسلامه بكامل إرادته، فلا فضل له على من آمن بأن الله ثالث ثلاثة، لأنه لم يختر دين التثليث، بكامل إرادته. ليتوصل إلى قراره الخاص باعتبار أن هذا موحد بالولادة، وأن ذاك مشرك بالولادة؛ إذن فلا فضل لولادة على ولادة. لأن الله ـ والكلام ما زال للقائل ـ ليس «ظالماً» ليعاقب المثلث على تثليثه، الذي لم يختره. كما أنه ليس موزع جوائز مجانية، ليثيب الموحد على توحيده الذي لم يختره.

فالآن أقول بحول الله: أن الحقيقة هي ـ في نظري ـ غير ذلك بالمرة: لأنني أرى أن الإيمان ليس هبة الوعي، بل هو هبة الله، نعمة من الله يهبها لمن يشاء، فيغرس في قلبه التسليم بما هو فوق طاقة الوعي. فالله ـ هذا الذي يستغرب من أفعاله «عابدو وعيهم» ـ هو ذاته الذي خلق الحيوانات والطيور والزواحف، وسلّط عليها الإنسان. وقد كان سبحانه قادراً على أن يخلق الواحد منا واحداً من هذه الأصناف. أفنسأل الله: لم فضلنا عليها، وقد كان عليه أن يساوي بين مخلوقاته؟ أفنسأله ـ سبحانه ـ لم يوزع علينا «الجوائز المجانية» ثم يحجبها عن بنات آوى؟

لقد خلقك الله موحداً، فأنت الآن تسأله مستغرباً: لم خلقتني موحداً، من دون الآخرين، ولم أعطيتني «جائزة مجانية» ثم لم تعط مثلها لأخي الإنسان الآخر؟

يبدو لي أن هؤلاء الذين يقولون هذا إنما هم ـ في الحقيقة ـ يرون أن الله يخطئ إذ يفضل مخلوقاً على مخلوق! ذلك أنهم تعلموا «دين الإنسان» الأرضي، القائل بالمساواة المطلقة، وهم يرغبون في أن يلتزم به العزيز الحكيم، لكي يستحق أن يكون عزيزاً حكيماً!

لكني أقول بأن الانطلاق من الوعي البشري، لمحاكمة ما هو فوق الوعي، إنما ضلال مبين، وإفك مفترىً. إن هذا الانطلاق من الوعي البشري المقرر «حرية الإرادة» هو ما يجعلك تضل يا أخي. كأنك تقول بأنك إن لم تختر الإسلام بكامل وعيك، فعليك أن تذهب إلى جهنم، أو يذهب الملحدون والمشركون معك إلى الجنة.

حسناً، ها أنت ذا «تحاكم الله»! أما أنا فأقول مستسلماً بأن الله وهبني نعمة أن أولدني في مجتمع موحد، فيه سيئات. فأنا بفضل هذا الواقع، أوحد الله، وأكافح السيئات، فأرجو رحمة من آمنت بوحدانيته. وفي المقابل أنا أعلم أن الله ـ قد قرر أن يخلق صنفاً آخر من الناس، في مجتمع يؤمن بأن الله ثالث ثلاثة، وأنني أثق بأن ذلك هو منتهى السوء. وصحيح أنهم يعملون أعمالاً صالحة، ولكنهم مشركون بما لم يختاروا. وأنا مؤمن بأنهم مشركون. إما أن أفعل هذا، او أكفر بصريح القرآن.

ولأنني مؤمن بأن الشرك هو أعظم القبح، فأنا أشفق عليهم بالفعل، ولكني واثق من أن ديني دين التوحيد هو الحق، وأن دينهم دين الثليث هو الباطل، وأنني إن آمنت بما يخالف هذا، كنت من الهالكين.

سيسألني المجادلون للمرة المليون: وما ذنبهم؟ وسأجيبهم للمرة المليون: لا أعلم، ولكنهم هالكون، لأن الله شاء لهم أن يكونوا هالكين.

من هنا فإنني أبرأ إلى الله من كل مساواة في المصير الأخروي بين الموحد والمشرك، تحت أي ذريعة من ذرائع الإلٰه الجديد: حرية الإرادة.

أكرر من جديد: الإيمان ليس بالاختيار الحر، بل هو بنعمة الله سبحانه: فلو أن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أطبق كل الحجج على رأس حبيبه الذي آواه، المطعم بن عدي، ليؤمن المطعم بن عدي، لما آمن المطعم بن عدي.

لماذا؟ ومن أنا حتى أعلم؟

إن الإيمان هو نعمة الله، وليس هبة الوعي. لقد قال الله بأن أبا لهب وزوجته في النار. وهذا الكلام ليس حادثاً، لم يكن قبل أن ينزل في القرآن، بل هو أزلي موجود في اللوح المحفوظ، قبل أن يخلق الله العالم. فلو أن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاول إقناع أبي لهب بأن يؤمن، لما آمن أبو لهب، ولكفر ولذهب إلى النار. ولو أن أبا لهب قرر أن يؤمن، لما آمن أبو لهب، ولكفر ولذهب إلى النار. ومع ذلك فالله عادل.

كيف؟ لن تستطيع معرفة ذلك. ويكفينا أن نسلم بما قاله الله، في محكم التنزيل: “وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ” الأنعام/111

لكم دينكم ولي دين: وصفتي للتعايش:

فإن آمنا بأن الإيمان هبة من الله، توصلنا إلى حل التناقض الوجودي، الذي تطرحه الحياة الحديثة على وارثي الإيمان من الآباء.

1ـ فللمسلم الذي وُلد بين أبوين مسلمين، أن يؤمن بأن نعمة الله قد حلت به، بأن وُلد هكذا. فهو مؤمن بنعمة الله ـ لا باختياره الحر ـ ويعلم أن من لم يوهَب هذه النعمة، من المسيحيين واليهود، فهو خاسر في الآخرة. أما أن يتصدى مسلم لتأكيد أن لا فضل لمسلم على مسيحي أو يهودي ـ في حكم الآخرة ـ فمعناه أنه لم يعد مسلماً، وأنه يدين بدين الإنسانية الأرضي. فهو وذاك.

2ـ وللمسيحي الذي وُلد بين أبوين مسيحيين وعمّده الكاهن، أن يؤمن بأن نعمة الرب قد حلت به، بأن وُلد هكذا، ورُزق كاهنا كهذا. فهو مؤمن بنعمة الله ـ لا باختياره الحر ـ ويعلم أن من لم يوهَب هذه النعمة من المسلمين واليهود، فهو خاسر في الآخرة. أما أن يتصدى مسيحي لتأكيد أن لا فضل لمسيحي على مسلم أو يهودي ـ في حكم الآخرة ـ فمعناه أنه لم يعد مسيحياً، وأنه يدين بدين الإنسانية الأرضي. فهو وذاك.

3ـ ولليهودي الذي وُلد من أم يهودية، أن يؤمن بأن نعمة الله قد حلت به، بأن وُلد هكذا. فهو مؤمن بنعمة الله ـ لا باختياره الحر ـ ويعلم أن من لم يوهَب هذه النعمة، من المسلمين والمسيحيين، فهو خاسر في الآخرة. أما أن يتصدى يهودي لتأكيد أن لا فضل ليهودي على مسيحي أو مسلم ـ في حكم الآخرة ـ فمعناه أنه لم يعد يهودياً، وأنه يدين بدين الإنسانية الأرضي. فهو وذاك.

هذه وصفة التعايش هنا في الأرض، لا يمكن أن يكون بديلٌ عنها إن آمنا بحكم عقولنا فقط: وصفة ترفض مناقشة التفاصيل، بهدف المحافظة على التعايش. وهي وصفة لا أرى «عابدي عقولهم» قادرين على تصديقها.

إن عدم رؤيتك لفضل الله إذ خلقك من أبوين مسلمين، يشبه ألا ترى فضلاً لله أن لم يخلقك كلباً.

إن تساؤلك عن قيمة دين ورثته ولم يكن لك يد في اختياره، يشبه تساؤلك عن قيمة أن خلقك الله بشراً ولم يخلقك ضفدعاً.

إنك هكذا تصبح محصناً من رؤية نعمة الله عليك. ولا أعلم وقاحة أشد من ذلك

القدر سر الأسرار، لأنه فعل الله. وفعل الله لا يمكن الإحاطة به، لأنه صفة من صفاته. فمن آمن فبنعمة الله، ومن كفر فبقدرة الله. والله عادل. يكفيك في الإيمان هذا، فإن أبيت إلا التعليل، ضللت كما ضلت كل الفرق.

العدل والمساواة:

العدل هو غير المساواة. وثمة من يظنون العدل هو المساواة. وهذا خطأ: فالعدل قيمة إلٰهية عامة عليها قامت السماوات والأرض. أما المساواة فمستحيلة تماماً. إن من أسماء الله «العدل»، ولكن ليس من أسمائه «المساوي»! بإمكانكم أن تساووا بين الناس في الدنيا، ولكن إياكم أن تساووا بينهم في الآخرة. ولو كان الإيمان بالوعي، لما كفر بعض كبار المفكرين.

المخترعات والمدنية هبة الوعي. أما الإيمان فهبة الله. فلا تقيسوا هذه على تلك. ومن آمن بعقله فقط سيقع في التناقض لا محالة. ذلك لأنه لا يمكن للعقل البشري أن يكون قادراً على الحكم على المشيئة الإلٰهية.

والله أعلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى