حول وعد الآخرة

د. خضر محجز | فلسطين

ليس ثمة ما هو أقبح من استغلال أحد لظاهر التنزيل العزيز، لينشئ تنظيماً دينياً يزعم أنه يقول الحق، كل الحق، كما قاله الحق سبحانه.

يقول التنزيل العزيز: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران/7)

فالقرآن الكريم قسمان:

1ـ ﴿مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾

2ـ ﴿وأُخَرُمُتَشَابِهَاتٌ﴾ أي قسم متشابه.

1/ تفسير: فـ﴿الذين فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ يؤمنون بالقسم الثاني، أي بالقسم المتشابه من القرآن، فيتبعونه ويفسرونه بطريقة تخدم أهدافهم ﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾.

2/تفسير: وأما الراسخون في العلم فيتبعون القسمين، و﴿يَقُولُونَ: آَمَنَّا بِهِ كلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.

فأهل الزيغ يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض. أما ﴿الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فيؤمنون بالكتاب كله.

والحقيقة ـ كل الحقيقة ـ هي في اتباع طريق الراسخين في العلم: الإيمان بالكل، أي الإيمان بأن المتشابه والمحكم من عند الله، فلا يفسرون المتشابه إلا بما يوافق المحكم، وإلا لآمنوا بالمتشابه، ونبذوا المحكم وراء ظهورهم. ليس هناك سبيل ثالث بين السبيلين.

إذن، فلا شك لديّ بأن أي جماعة سياسية تفسر الآيات المتشابهة بما يتعارض مع الآيات المحكمة، هي جماعة الذين في قلوبهم زيغ.

فدعونا الآن نطبق هذا المنهج الرباني، في التفسير، على مقدمة سورة الإسراء، التي أنشأت جماعةٌ سياسية ديباجَتها الفكرية، وفق تفسيرها، بطريقة تختلف مع المحكم:

تقول افتتاحية سورة الإسراء:

﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴿4﴾ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً﴿5﴾ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴿6﴾ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴿7﴾ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴿8﴾

محددات:

1ـ كلما تناول السياقُ إسرائيل، أو ملك داود وسليمان، فذكر الأرض، كان المقصود فلسطين.

2ـ ثمة وعدان واضحان هنا: الأول: ﴿أُولاهُمَا﴾، والثاني: ﴿وَعْدُ الآخِرَةِ﴾

3ـ لا يقتصر الأمر على وعدين: بل السياق يشير إلى أهم وعدين، ثم يترك الباب مفتوحاً أمام وعود أخرى ونهايات مشابهة: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾.

ثم يأتي بعد هذه المحددات دوري، لأقول على القرآن بعلم البشر ـ التفسير الشخصي ـ راجياً من الله أن يلهمني رشدي، بتقواي التي أرجو، لا بعلمي الحسير:

التفسير:

الآية4:

قضى الله في التوراة لبني إسرائيل، بما قدّره من فعلهم، وكَتَبَهُ في اللوح المحفوظ، وأنزله على موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ في التوراة، بأنهم سيسيطرون على فلسطين ويملكونها مرتين.

الآية5:

فأما في المرة الأولى، فسيرسل عليهم قوماً أولي قوة، أشد بطشاً، يحتلون بلادهم، ويذلونهم. وهذا أمر الله قدرٌ مقدورٌ، جزاء فساد إسرائيل ونكثهم للعهود مع الأنبياء.

لكن السياق هنا لا يذكر تشتيتاً ولا سبياً ولا إبادةُ، بل مجرد جَوسٍ خلال الديار، أي: احتلال وهزيمة فقط.

الآية6:

لكن الله يعد بني إسرائيل ـ من ثمّ ـ بأنهم سينهضون من كبوتهم، ويفيقون من ذلتهم، ويزيلون الاحتلال، بمساعدة منه، وحفظٍ ومدد داخلي من النسل، ومددٍ مادي ربما من المحيط.. وكل ما مضى كان هو الوعد الأول: ﴿وَعْدُ أُولاهُمَا﴾

الآية7:

ثم يذكر الله الوعد الثاني، بعد أن يعظهم بالهزيمة السابقة والنصر الذي تلاها، فيخبرهم بأن الأعداء سيسوؤون وجوههم هذه المرة أكثر من السابقة، فيدخلوا المسجد كما فعلوا حين ﴿جَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ﴾ في المرة الأولى؛ فيشتد قهر الأعداء وظلمهم وتدمريهم لبني إسرائيل، طوال فترة انتصار العدو عليهم: ﴿مَا عَلَوْا﴾: أي طوال فترة علوهم.

الآية8:

يتوقف النص هنا عند العموم دون تخصيص، فلا يفصل ولا ينبئ ـ تحديداً ـ بما سيكون بعد ذلك: بمعنى أنه يوقفهم على لحظة الهزيمة، فكأنها هزيمة لازمنية مستقرة دائمة، لا تحوّلَ لها إلا بوعد عام بالرحمة إن تابوا: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾.

ومما يشي بأنهم لن يتوبوا، ما نلاحظه من تعقيب النص في نهاية الآية، بالتهديد لهم ـ ولمن يشببهم من الناكثين القاسطين المعتدين ـ بالعود إلى العقاب، كلما عادوا إلى الفساد: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾.

ملاحظة أخيرة:

وإذ أراني هنا لم أقل حرفاً واحداً يتناقض، أو يتعارض، مع آية في القرآن، أو حديث صحيح، أو تاريخ مقبول ومعتمد؛ فلقد يحق لي أن أعتبر كل ما سوى ذلك من التفاسير منقوصاً، أو أنتجه الهوى القومي أو العنصري، أو دعوى التميز الفاشية، أو الرغبة في إنشاء نظرية مموّلة، أو نكاية في الآخرين على حساب كلام الله.

وأستغفر الله وأتوب إليه من جهلي بحقيقة معنى كلامه الأزلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى