قراءة جمالية في قصيدة الشهيد (داوود) للشاعر عبد الباري محمد المالكي

جبار السدخان | ناقد أدبي

شاعرية عبد الباري المالكي المنصهرة في روح الشهيد تجعله حاضراً في قلب المشهد

للعزف على القيثار طرق ومشارب وظنون…وعندما نجح الفنان التشكيلي الهولندي (رمبرانت فان دين) في ان يكون من أعظم الفنانين في كل العصور وأقدرهم على تحليل النفس البشرية والتعبير عن خفاياها وهواجسها وهمومها فكانت لوحته الشهيرة (داوود يعزف على القيثار أمام الملك شاؤول) المستوحاة من الكتاب المقدس والتي تغنى بها كثير من الشعراء مثل الألماني (هيرمان كلادريوس) والدنماركي (صوفوس ميخائيليس) والألمانيين (شيغان جورجه) و (رينيه ماربالكه) وغيرهم.

وكذلك للعزف داخل اللغة طرق ومشارب وظنون أيضاً ..فكانت قصيدة (الشهيد داوود) بجزئيها الأول والثاني للشاعر والناقد الأدبي والقاص عبد الباري محمد المالكي الذي استلهم قصيدته من قدسية الشهادة فقد استطاع توثيق الحدث بقوة مصاحباً موسيقاه الشعرية وأن يجعلنا في صميم نصه الشعري وبدرجة عالية من التفاعل والتشويق ..ولما كانت العاطفة الصادقة هي من خصائص النخبة كما يقول فكتور برومبير فقد كان الإحساس الدفين بتلك اللوعة الخفية التي تنساب مع جمال مفرداته عن لسان أم الشهيد ….

(عشرون عاماً – لا أصدق- قد مضين

ويا اسىً فلكم ضممتك بين اضلاعي..

وأخشى من دواليب الزمن)..

فقد كان نص المالكي باذخاً في خياله ويقودك إلى معرفة الملامح الدلالية والشكلية فيه وينقلك إلى الإحساس بالغربة الروحية وبالفراق والأحلام المهدورة في استمرار التواصل…..

(والذكرى

تبدأ من هنا

من قلبك الموؤد

والمفجوع في حب الفتى داوود

الله يا داوود

يا طفلاً أضلله برمشي

ثم تخطفه الليالي السود..)

لقد وظف الشاعر بنجاح كبير الرمز (الشهيد) وهو محفز إشاري للمتلقي ليملأ المسافة الشعرية دفئاً وجمالاً وينقل متلقيه في فضاءات النص الجامع للموت والشعر بدلالات وجودية وجمالية موظفاً الرؤى المقدسة..

(اندب الصديق

يوسف أيها الصديق افتيني برؤياي

التي ما زلت اخشاها

رأيت باني

أحمل فوق رأسي خبزة التنور

تأكلها طيور النور

يوسف أيها الصديق

ما تفسير رؤياي التي مابت أهواها).

ولما كانت الحرب لم تعد صِداماً للإرادات التي تجري على الحدود فحسب؛ بل هي الموت الذي ياكل الأخضر واليابس وتستعير تلك الحرب في ارحام الامهات دماً وشظايا وموتاً لتمتد في الأزقة والطرقات والبيوت ..من هذا كان انتماء قصيدة المالكي إلى درامية التعبير الشعري والذي يشحن نصه بأدواته من خلال شخصين إحداهما غائب يستحضره الشاعر بقوة وفق تلك الصيغة ومن خلال تقنية حوار مؤثر وببنية عميقة تحكم ذلك النص الذي ينتمي إلى (تلك النصوص الاستفزازية التي تستنطق المتلقي فتضطره إلى اقتحام كل ما يسمح به هذا النص من مديات لغوية) ناهيك عن ما يتمتع به الشاعر من ذكاء وبراعة يبعثان التأمل والدهشة.

وظلت شعرية المالكي المتشظية مع اشياء الشهيد وحميمية الأم تجعله حاضراً في قلب المشهد من خلال ابراز مأساة الشهيد الغائب ملتقطاً كل التفاصيل اليومية (وحتى الدقيقة منها) الرابضة في جسد الواقع الفعلي ونقلها الى نصه الشعري الزاخر بالعذوبة والصفاء..

كما استطاع الشاعر المالكي أن يرسم صورة الموت بفعله القوي ورسم وقع الغياب تاركاً الصدى إيذاناً بحضور الدلالات موقظاً في الذاكرة الأسى والألم مشرعاً بسيل من الأسئلة…

(كيف انملك الطرية أصبحت؟

أو كيف ترتشف اللبن؟

أو كيف تضحك لي بثغر باسم؟

وتزيح عني كل الوان الحزن

///

فمتى صبياً صرت يا داوود ؟

تلعب في الشوارع لعبة الغميض

وانا اتابع ظلك الحيران يبحث عن صديق

///

فهل خان الصبا يا قلب زواره؟ )

لم يتكأ الشاعر المالكي على العناصر الدعائية او التعبوية (كما هو معمول به في ادب الحرب أو الشهادة) بل أبرز الشاعر المقاتل الشهيد من الناحية الفنية والجمالية وهي ميزة كبيرة تحتسب للشاعر مع بقائه اميناً في الحفاظ على القدرة الكبيرةفي ربط خيوطه الدرامية وانتقالاته ونمو وتصاعد ذلك السياق ليجعل المتلقي شاهداً على البطولة والفجيعة…

وهي دعوة صادقة لكل الفنانين التشكيلين ان تساهم اناملهم وريشتهم ومخيلتهم في الغور مع احزان داوود بقصيدة المالكي لرسم سبائك اللوحات الجميلة والمعبرة عزفاً ولوناً وظلاً واشارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى