تحليل نفسي للحالة الشعرية (2-3)

ثناء حاج صالح ناقدة وشاعرة سورية / ألمانيا

 

2- إثارة المتلقي- المبالغة:

تحقيق إثارة المتلقي لامتلاك عقله وشعوره عبر النص هو المعيار الحقيقي للحكم على مدى نجاح العملية  الإبداعية التي يمارسها الشاعر تحت تأثير الحالة الشعرية. ويحتاج الشاعر إلى الاهتمام بتفعيل أدوات الإثارة؛ لأنها الأدوات التي تمكنه من الاتصال مع  العالم الخارجي، الذي يمثله حضور المتلقي بوعيه المختلف عن وعي الشاعر، والذي يفُترض به أن يكون غير مطَّلِع على ما يعانيه الشاعر في ذهنه ونفسه وغير عابئ به لأنه يقيم في عالم آخر. فإثارة اهتمامه لجذبه تتم عبر أدوات الإثارة التي تشبه رنين الهاتف الذي ينبه المتلقي ويستدعيه ليضعه في الحال على الطرف الآخر للاتصال أو المكالمة .

ولكي يتمكن المتلقي من تمييز صوت التنبيه والاستجابة للاتصال. ينبغي أن تكون شدة هذا التنبيه أعلى من العتبة المعتادة لأصوات الكلام الرتيب العادي التي  يهملها المتلقي لاعتياده عليها كونها تملأ سمعه طوال الوقت .

 الأمر بسيط للغاية ؛ لابد أن يشعر القارئ بأنه معني هو شخصيا بذلك الرنين كي يوافق على الاتصال ويتفاعل معه. وأول أدوات الإثارة هو عنوان النص .

بعض الشعراء لا يهتمون بوظيفة عنوان النص ، ويتركون قصائدهم دون عنوان . أو على أحسن تقدير يضعون لها عنوانا تصنيفيا يدل على موضوعها فقط دون أن يمارس وظيفته الجوهرية في إثارة المتلقي وربطه مع اتصال الشاعر .

معروف أن للعنوان وظائف عديدة ، منها : تمييز النص وتصنيفه ، ومنها توجيه فهم القارئ إلى جهة قصد الشاعر، ومنها المساهمة في البناء الفني المحكم للنص بحيث يدخل في البنية العضوية للنص . ومنها البدء بإثارة المتلقي.

يلي عنوان النص مطلع القصيدة أو فاتحتها في قصيدة التفعيلة . فللمفردات في هذه المنطقة دور إثاري حساس جدا تكتسبه من خلال موقعها في مقدمة النص. فهي توجِّه منذ البدء شعور المتلقي باتجاه استيعاب المضمون المعنوي والجمالي الذي يرغب الشاعر بإيصاله كما تحدد الفئة المستهدفة من المتلقين. وبناء على مدى نجاحها في جذب القارئ أو  عدم إثارة اهتمامه سيكون قرار المتلقي في متابعة القراءة مع المتعة أو إلقاء النص جانبا والعودة مرة أخرى إلى عالمه المنفصل .

وتبرز أهمية أن تكون المفردات التي يختارها الشاعر هنا ذات مدلولات ثقافية عمومية واضحة تمثل جزءا من المكونات الثقافية والعاطفية المشتركة بينه وبين المتلقي ، وهي بهذا تكون أقرب ما تكون لمدلولات المصطلحات الكلامية المتفق والمتفاهم عليها مع محمولها المعنوي والعاطفي بين الشاعر والشريحة المستهدفة من قبله. على الرغم من أنها ينبغي أن تكون جديدة ومبتكرة من حيث الصياغة اللغوية والتصوير الفني.

والحس الإعلامي الدعائي عند الشاعر يؤدي هنا دوراً حاسماً في اختيار تلك المفردات لتكون مصيدة للقارئ . ومن المتوقع لتفعيل أدوات الإثارة أن يمارس الشاعر فعل الإغراء المرتبط بالمضمون ( محتوى الموضوع ) الذي يريد نقله إلى المتلقي .

الإغراء كما هو معروف يعتمد على الإبهار الناجم عن المبالغة في توصيف المعروض مع مداعبة الحاجات النفسية والدوافع الغريزية للمتلقي ؛كدوافع الحب الجنسي في شعر الغزل، أو الحب الإلهي في شعر المتصوفة والقصائد الدينية ، أو دوافع السمو الفكري والإنساني والأخلاقي في شعر الحكمة،

أو يقوم الشاعر بجذب المتلقي عبر مواضيع المناسبات التي تهمه ومنها معالجة  القضايا الحساسة العالقة والمرتبطة بالحياة النفسية الشخصية للمتلقي كمواضيع الثورة  والأمراض هذه الأيام..

. طبعا هذا يعني أننا فصلنا  المواضيع الخاصة بالمعالجة الشعرية والمواضيع الأخرى التي يمكن تناولها في الأنواع الأخرى من الكتابة، والتي تخص الصحافة أو العلوم الاجتماعية والإنسانية فمثلاً : لا يمكن تناول موضوع يتعلق بالخدمات التحتية في المجتمع كمحور لنص شعري . وقس على ذلك مواضيع أخرى تتعلق بالإدارة أو التجارة والاقتصاد من المواضيع الباهتة في الشعور والتي لا يمكن لها أن تثير قارئ الشعر على الإطلاق .

إنما مجال الإثارة في الشعر مختص بكل ما يضطرب له الشعور والوجدان باللذة الجمالية أو الألم الوجداني عند الشاعر والمتلقي .على حد سواء.
وكي يتم الإغراء وتتحقق الإثارة فإن ذلك يستلزم الاعتماد على خاصية المبالغة في تصوير ما هو مطلوب للتلذذ أو ما هو مطلوب للإيلام النفسي . وبغير المبالغة تفشل الإثارة . والتلازم بينهما أمر ثابت الضرورة تحت تأثير الحالة الشعرية.

و الشاعر يعي ذلك التلازم بملكته الفطرية ويطبِّقه أثناء الكتابة بقصد ودون قصد ، ويجتهد في طلب الفاتن المتوهج من المعنى أو الصورة الشعرية باتباع نهج المبالغة والمفارقة التي هي شكل آخر للمبالغة في الوصف إنما يتجه نحو تضخيم الفروق بين العناصر التي تتم بها المفارقة . وليس نحو التأكيد على الصفات نفسها وزيادة مقاديرها.
يمارس الشاعر المبالغة بهدف الإثارة بالاعتماد على اللغة المجازية في فنون البلاغة الثلاثة ( التشبيه والاستعارة والكناية ) وهذا هو مسرحه الدلالي الذي يمارس فيه تجسيم وتضخيم الصفات الواقعية العادية .فلو أخذنا على سبيل المثال بيتاً من شعر الغزل القديم ليزيد بن معاوية ما زال المتذوقون يعدونه من عيون الشعر العربي الجميل :

وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت… وردا وعضت على العُنَّاب بالبرَد
وقمنا بتجريد الصور الشعرية في هذا البيت من المبالغة المستمدة من البلاغة لأمكننا شرحه كما يلي :
بكت فتساقطت دموعها من عينيها على خديها الأحمرين وعضت بأسنانها البيضاء على شفاهها الحمراء …
فانظر إلى هذا الوصف العادي الخالي من المبالغة كيف تحوَّل إلى وصف تقريري تشريحي وأفقدنا جزءا كبيرا من لذة تخيل تلك الحسناء ! أين نحن من عيونها النرجسية التي تشبه أزهار النرجس بأجفانها المسبلة وقد تقاطرت منها حبات اللؤلؤ السائلة البراقة الثمينة لتسقي ورورد خديها ثم نراها وهي تعض بأسنانها التي تشبه حبات البرد بنقائها على شفاهها التي أصبحت بالمبالغة كثمار العنِاب المشتهاة.  

 ما فعلته المبالغة باختصار هو إثارة متعة القارئ عبر مداعبة مشاعره المرتبطة بدوافعه الغريزية . ومنها تذكيره برهافة النرجس وحب ملامسته والنظر إلى جماله ونتذكيره بنفاسة اللؤلؤ وغريزة امتلاكه وحاجة الورود إلى السقيا وهو ما يذكره بلذة الاستقاء ومذاق العض على العناب ولذة مذاقه ولذة الإحساس ببرودة حبات البرد والفرح بها.

إن مقدار المتعة التي أثارتها المبالغة وأثَّرت بها على مستوى على تذوقنا لجمال الصور الشعرية في هذا البيت تفوق بكثير  متعة تذوقنا له وهو خال من المبالغة.

ويمكننا القول بناء على ما تقدم: إن العلاقة بين متعة التذوق والمبالغة هي علاقة طردية دائماً في الشعر الذي يعتمد على التصوير الشعري بشكل خاص ، فكلما ازدادت نسبة المبالغة ازدادت متعة التذوق عند المتلقي .ومن هنا فإن عبارة ( أجمل الشعر أكذبه ) تبدو صحيحة في هذا النوع من الشعر التصويري .إذا ما فهمنا الكذب في الشعر على أنه هو المبالغة التي يعتمد عليها الشاعر لتحقيق الإثارة .
لنتصور شاعراً يحاول الاستغناء عن المبالغة بدعوى تحرّي الصدق في قول  الشعر ونسجه، هل سيحقق النجاح في إثارة مشاعر المتلقي وجذبه ؟ أم ستكون قصائده باردة باهتة خالية من التوهج وغير قادرة على جذب اهتمام القارئ؟
من هنا يمكن فهم الآية القرآنية الكريمة التي نزلت خاصة لوصف الحالة الشعرية عند الشعراء والتنبيه إلى عدم المصداقية الناجمة عن المبالغة في ما يقولونه .كي لا يُتَّخَذ َ أحدهم منظّراً فكرياً أو اجتماعياً بالمطلق ،حتى وإن كان مؤثراً في جمهوره بقوله تعالى .. {وَٱلشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } * { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } * { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } * { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱنتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } سورة الشعراء.
فالله تعالى يعلم حال الشعراء أثناء تلبُّسهم في الحالة الشعرية ويعلم عدم استطاعتهم التجرد عن المبالغة الملازمة لفعل الإثارة لنقل ما لديهم إلى المتلقي .
وبناء على هذه الحاجة النفسية للشاعر في تقصي الإثارة واعتماد المبالغة يمكن القول إنه من الخطأ محاكمة الشاعر على ما يأتيه في شعره من مخالفات شرعية بسيطة .كوصف اللذة في تعاطي الخمرة أو وصف جسد المرأة في الغزل العفيف أو اللقاء بين الحبيبين .إلاً أذا كانت المخالفة الشرعية هي ديدن الشاعر وخطه الأساسي في الكتابة  ودعوته الدائمة للفساد والانحلال الخلقي.
مثل هذا البحث يفضي بنا إلى أن نتساهل في التعامل مع اللغة الشعرية والأساليب عند الشعراء وعدم قسرها على تحمل تبعات الدلالات الأخلاقية والدينية .فقد عذرهم رب العالمين في ذلك عندما (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) فهذه الأودية التي يهيمون فيها ليست سوى أودية المجاز اللغوي للمفردات التي تخلت عن دلالاتها المعجمية

.وما أضعف الشاعر عند انتهائه من كتابة نصه في الدفاع عن شعره من ناحية الدلالات القيمية .فغالباً لا يكون الشاعر نفسه قادراً على تقمص حالته الشعرية في واقع الحياة .

يتبع بإذن الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى