هذه هي اليمن الشاعرة

عبد الله جمعة | شاعر وناقد مصري يقيم في الإسكندرية

 

(1) يحق لي أن أسائل موسوعات الأدب العربي: أين اليمن؟

اليمن ؛ لا أدري لماذا تصر الموسوعات الأدبية التي أرخت لتاريخ الأدب العربي على إغفال حقبها الأدبية وشعرائها الأجلاء الذين أسهموا في بناء صرح تاريخ الأدب العربي عبر أعصاره, فهل يمكن أن تكون قد سقطت سهوا ؟ أم أسقطت بفعل فاعل؟

إن اليمن تشكل منها نصف العرق العربي بل نصف اللسان العربي المبين فكلنا يعرف أن الشعوب العربية إنما ترجع إلى شعبين ؛ شعب عدنان وشعب قحطان

وشعب قحطان: مهده بلاد اليمن وقد تشعبت قبائله وبطونه من سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فكان منه بطون حمير وأشهرهم زيد الجمهور وقضاعة والسكاسك ومنه بطون كهلان وأشهرهم همدان وأنمار وطيئ ومذحج وكندة ولخم وجذام والأزد الذين منهم الأوس والخزرج وأولاد جفنه ملوك الشام : وكانوا يسمون مقاماتهم باليمن مخاليف والواحد منها مخلاف ويضاف إلى اسم القبيلة التي اختصت به وقد ذكر منها ” ياقوت ” ستة وثلاثين مخلافا

وحين نستعرض القبائل العربية التي نزل القرآن الكريم بلسانها سنجد ذكرها قد أورده الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم والذي أنبأنا بأن القرآن نزل على سبعة أحرف أي على أشهر سبع لهجات عربية إذ أرادت الحكمة الإلهية أن تجعله متنوعا في نطقه حتى يقبل عليه العرب متفائلين.

ومن أشهر القبائل التي نزل القرآن بلسانها ” قريش و تميم وهذيل وطيئ ” فلسان طيئ إذن لسان عربي مبين ولا جدال في الأمر, وقد نسب لطيئ من شعراء العرب في الجاهلية على سبيل المثال لا الحصر ” حاتم الطائي – إياس بن قبيصة – وأبو زبيد الطائي – والطرمح بن حكيم ” وغيرهم من أوائل شعراء العرب . ثم نقف وقفة كبرى لا يليق بنا أن نمر عليها دون أن نجد ذلك الطود الأشم ” امرأ القيس ” أمير شعراء الجاهلية اليمني الأصل , ومن منا و عَبْرَ تاريخ الأدب العربي منذ نشأته الأولى حتى اليوم لم يعرج على قراءة امرئ القيس بل من في العرب قاطبة يجهل من هو امرؤ القيس.

والمطلع على هذا من الأكيد أن ينتظر النظر إلى الموسوعات العربية التي أرخت للأدب فيجد تاريخ الأدب اليمني مدونا تدوينا كاملا مستقلا لتكون كيانا أدبيا ككل الكيانات العربية التي دخلت الموسوعات الأدبية .

ولكن المدهش حد الصعق أنك حين تفتح تلك الموسوعات لا تجد ما كنت بصدد انتظاره حتى ؛ إن ” كارل بروكلمان ” صاحب الموسوعة الأشهر في التأريخ للأدب العربي والمسماة بـ ” تاريخ الأدب العربي ” حين عرض لليمن عرض لها كجزء من الجزيرة العربية ومر بها مرور الأكرمين دون أن يحد لها حدودا أدبية … وها هو الدكتور شوقي ضيف في موسوعته الكبرى المسماة بـ ” تاريخ الأدب العربي ” أيضا والتي تقع في عشر مجلدات ضخمة حين وصل إلى عصر الدول والإمارات أفرد مجلدا في الموسوعة بعنوان ” عصر الدول والإمارات ؛ الجزيرة العربية – العراق – إيران … وفي طيات هذا المجلد تعرض تعرضا مُتَّسِمًا بالتوازي والسرعة لتاريخ الأدب اليمني دون أن يحد له حدودا كما فعل مع بقية الدول والإمارات . فأين اليمن وتاريخها الأدبي ذو الشخصية العربية الأصيلة؟

إن الدكتور شوقي ضيف في أكبر موسوعة أرخت لتاريخ الأدب العربي لم يفرد عنوانا باسم اليمن في حين أنه أفرد عناوين تحت مسمى ” عصر الدول والإمارات ” لكافة الشعوب العربية ولا أظن أن ذلك كان راجعا إلى فقر تاريخ الأدب اليمني فشعب أنجب حاتم الطائي وامرأ القيس لا يمكن أن ينضب الإنتاج الشعري عنده عبر تاريخ الأدب العربي .

وإن كان الدكتور شوقي ضيف في المجلد الأول “العصر الجاهل ” قد وقف عند اليمن فوصفها وصفا جغرافيا وقسم الشعوب العربية قحطانيها وعدنانيها ثم وقف منفردا عند امرئ القيس لينسبه إلى اليمن في بعض صفحات موسوعته يقول ” امرؤ القيس من قبيلة كنده ومن بيت السيادة فيها وهي قبيلة يمنية كانت تنزل في غربي حضرموت وهاجرت منها جماعة كبيرة إلى الشمال مع الهجرات اليمنية المعروفة واستقرت جنوبي وادي الرُّمَّة الذي يمتد من شمالي المدينة إلى العراق , وقد احتلت مكانا بارزا في نجد منذ أواسط القرن الخامس للميلاد , فإننا نجد على رأسها أميرا يسمى حُجْرًا آكل المُرار تعاقبت الإمارة في بنيه من بعده ويظهر أنه استطاع أن يفرض سيادته على الكثير من القبائل الشمالية وأنه كان يدين بالطاعة لملوك حمير اليمنيين ” [ تاريخ الأدب العربي ج1ص232 شوقي ضيف ]

فإذا كان حاتم الطائي وأمرؤ القيس على سبيل المثال لا الحصر يَمَنِيَّيّ الأصل فيحق لي أن أسائل موسوعات الأدب العربي: أين اليمن ؟

 

(2) البردوني وصناعة تاريخ الذات اليمنية

عبرت في الجزء الأول من هذا المقال عن أن اليمن الشاعرة قد ظلمها التأريخ الشعري إما جهلا وإما عمدا وربما كان ذلك راجعا إلى أن الشعر اليمني لم يكن ممسكا بمقود حركة التأريخ ؛ بمعنى أن المؤرخين الذين كانوا يقبضون على مفاتيح التأريخ – وقتئذ – لم يكن لشعراء اليمن سطوة عليهم نتيجة التعتيم الذي ضرب على الإبداع اليمني حتى لكأن أكثرنا يظن أن اليمن تكاد تخلو من الشعراء الحقيقيين عبر العصور , وأنا على يقين أنني – حين ذكرت في الجزء الأول من هذا المقال أن حاتم الطائي كان يمنيا وأن امرأ القيس كان يمنيا أيضا – قد ظنني البعض أهذي والبعض الآخر دهش حد الصدمة لدرجة أنني بعد نشر المقال وفد إلي بعض إخوتي من الشعراء وسألني بعضهم : أحقا امرؤ القيس يمني ؟ ولما أجبت بالإيجاب وقلت أنني ذكرت في مقالي الأول سلسلة نسبه وجدت صمتا يخيم على السائل وكأنه قد وقع في الحيرة بين التصديق والتكذيب

من فعل هذا بتاريخ الأدب اليمني ؟ سؤال أطرحه للمؤرخين

وفي فلسفة التاريخ يقولون : ” إذا لم يؤرخك المؤرخون فاصنع التاريخ بذاتك ولذاتك ” ولكن هذا يحتاج إلى قوة فكرية وجدانية تستطيع أن تختلق تيارا عارما يزيح السدود التي تقف عقبة في سبيل دخول حدود التأريخ وتلك السدود ليست هينة ! إذن فلتكن القوة التي تصطنع التاريخ بالذات وللذات أقوى من عوائق التأريخ نفسها بل وبقوة فعل التاريخ نفسه وتلك القوة لا تولد من فراغ.

ولكن اليمن قد تولَّدَتْ فيها تلك القوة على عتبات العصر الحديث وبدأت تصطنع تاريخا بذاتها ولذاتها على يد شاعر يعد علامة بارزة وحلقة مفصلية في تاريخ الأدب اليمني بل والعربي إنه الشاعر والناقد والمؤرخ عبد الله البردّوني.. هنا ومن عند هذا الرجل بدأت اليمن تصطنع تاريخها بذاتها ولذاتها كما عبرت آنفا …

عبد الله صالح حسن الشحف البردوني المولود عام 1929م والمتوفى عام 1999م

ولد في قرية ” البردون ” بمحافظة ” ذمار ” وأصيب بالجدري الذي أفقده بصره وهو في الخامسة من عمرة , لقد بدأ الرجل اهتمامه بالأدب وهو في سن الثالثة عشرة بحفظ كل ما تقع يده عليه من قصائد , ثم انتقل إلى صنعاء في العشرينات من عمره حتى نال جائزة التفوق اللغوي من دار العلوم الشرعية سجن نتيجة مساندته ثورة الدستور عام 1948م ولم يشفع له عماه إذ كان قد أطلق لسانه بالسخرية والتهكم على سطوة السيف يقول في سجنه :

هدني السجن وأدمى القيد ساقي

فتعاييت بجرحي ووثاقي

وأضعت الخطو في شوك الدجى

والعمى والقيد والجرح رفاقي

في سبيل الفجر ما لاقيت في

رحلة التيه وما سوف ألاقي

سوف يفنى كل قيد وقوى

كل سفاح , وعطر الجرح باق

لقد خرج أخيرا من السجن ثم بدأ يخوض معركته الكبرى التي هي إعادة صياغة تاريخ الأدب اليمني .

لقد اخترق الرجل كل الحجب والحواجز حتى نال جائزة مهرجان أبي تمام بالموصل بالعراق عام 1971 وكان قبلها عام 1970 قد اختير رئيسا لاتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين حتى توج عام 1982م بأن أصدرت الأمم المتحدة عملة فضية عليها صورته كمعاق نجح في تجاوز عوائق العجز

كثيرون كثيرون – حتى من أبناء اليمن السعيد – يرون أن البردوني شاعر نجح في فرض مدرسته الشعرية على كل من تلقى شعره , بل مد خيوطها وأسوجتها لتجمع أجيالا من الشعراء التي تلته نتيجة تفرده بأسلوبه الساخر المتهكم اللاذع الذي يتهكم على الألم ليغطي على الأنين المكظوم ويعتبر من السخرية اللاذعة مُسَكِّنًا قويا فاعل الأثر يُسْكِتُ الآلام الشديدة ؛ آلام الوطن والغربة والسجن … ثم من هؤلاء الكثيرين حين تقول له : إن البردوني قد خط بيده حدود تاريخ الأدب اليمني … يرجع سريعا بذاكرته إلى كتابه الذي أرخ فيه للأدب اليمني “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” .. لكنني أقول : لم أكن أعني هذا حين قلت أن البردوني قد صنع أسوجة التأريخ الأدبي اليمني

لست بالقطع مُنْكِرًا لما سبق مما استقر في عقلية كل من تربوا على مدرسة البردوني ولكني لي نظرة فوق كل هذا

قبل البردوني لم يكن قد ولد من يستطيع كسر الحصار المضروب على الأدب اليمني حتى لا نكاد نسمع عنه فلم نر في كتب مدارسنا ما يلمح مجرد تلميح أن اليمن فيها شعر من أساسه , لقد درسوا لنا امرأ القيس صاحب لقب أمير شعراء الجاهلية وقالوا ” الملك الضليل ” حتى حفظناها وعشقنا مغامرات امرئ القيس حتى صارت مجالس أسمارنا ولهونا ونحن صغار وكبرنا حتى ترسخت تلك الحكايا في أذهاننا ولكن أحدا لم يقل لنا أنه كان يمنيا , بل إن أبناء اليمن أنفسهم لم يكن في استطاعتهم أن يخترقوا الأسوجة التي ضربت عليهم ليبلغونا أن امرأ القيس شاعر يمني عربي

هنا أقول إن البردوني قد أعاد صناعة تاريخ الذات اليمنية بالذات وللذات , ليس لأنه ألف كتاب ” رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه ” فقط , ولكن لأنه الأول الذي تجرأ على الاقتراب من أسوجة الحصار وكسرها ليعلن على الملأ أن لليمن شخصية شعرية ذات قوة وعمق تستطيع أن تبز مثيلاتها من الشخصيات الشعرية العربية الأُخَر

 

(3) ” اليمن في واجهة المشهد الإبداعي العربي “

قلت في مقالي الثاني من هذه السلسلة أن اليمن قد ” أرَّخَتْ بذاتها لذاتها عن ذاتها ” حين لم يؤرخ عنها التأريخ الأدبي العربي ؛ وكان ذلك على يد البردوني الذي أمسك بقلمه وبدأ في رسم ملامح الشخصية الشعرية اليمينة

والبردوني لم يصطنع الشخصية الشعرية اليمنية , فهي شخصية قائمة منذ فجر الأدب العربي ولكن البردوني جاء لينفخ عنها ما كان على سطحها من تعتيم ليطفو بها على سطح صفحات التأريخ بعد أن طويت تلك الصفحات وتم تغييبها بفعل فاعل عمدا أو جهلا …

فإن المتابع لشخصية البردوني يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن تلك الشخصية لم تولد من الفراغ في الفراغ , وإنما ولدت كثمرة طيبة نضجت على شجرة باسقة نبتت بأرض غنية الخصوبة هذا ببساطة أقل وصف مختصر يمكن أن يوصف به البردوني , فلم يكن البردوني هو الشاعر اليمني الوحيد الذي ينتج ثمارا يمنية شعرية , لقد قال لي الشاعر اليمني ” عمار الزريقي ” : إن اليمن في فترات الضعف والانحطاط الشعري العربي كانت تزهر برياحين شعرية ” وأنا أرد عليه الآن وأقول له : نعم يا عمار , أعلم ذلك فاليمن – ورغم التعتيم الذي ضرب عليها وعلى مبدعيها على مر العصور – لم توقف تربتها الخصبة الإنتاج ولولا ضيق المساحة هنا لأفردت حلقات كاملة وأفرجْتُ عن مخزون اليمن الاستراتيجي من الإبداع الشعري , وإني أذكرك – للتنويه فقط – بتلك البيئة الخصبة التي خرجت فيها نبتة البردوني الطيبة الإثمار فاليمن هي حديقة : (الشوكاني 1760م – 1834م و عمر تقي الدين الرافعي 1881م – 1964م و علي بن محمد الحبشي و عبد الله بن حسين بن طاهر العلوي و أبو بكر بن عبد الرحمن بن محمد بن شهاب الدين العلوي الحسيني و عبد الله بن حسين بلفقيه و عبد الرحمن الآنسي و عمر بامخرمة و زيد الموشكي و أحمد بن حسين شرف الدين الحسني الكوكباني القارة ….. ) والقائمة تمتد بنا حتى نستطيع أن نضع مفهرسا كاملا في كتاب ضخم تدون فيه مجرد الأسماء فقط , وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الزخم الأدبي والشعري خاصة الذي حظيت به اليمن في البيئة المحيطة والممهدة لظهور البردوني العظيم الذي أتى ليجسد كل تلك الملامح في وضع اللمسات اللافتة ليبرز الشخصية الشعرية اليمنية على أبهى ما يمكن أن تكون عليه وليؤكد لمؤرخي الأدب العربي أنهم مهما حاولوا طمس الشخصية الأدبية الشعرية اليمنية عمدا أو جهلا ؛ فإنها لقادرة على صناعة ملامحها ذات الخصوصية المفرطة والبروز المفرط وطابعها اليمني الفريد

لقد قال لي عمار الزريقي في معرض حديث منفرد بيني وبينه : إن ما تحاول أن ترسمه بعض أجهزة الإعلام العربي أن الشخصية اليمنية شخصية هامشية غير صحيح … وأنا أقول له الآن على ملأ من القوم : ومن قال لك أننا نصدق ذلك الإعلام , فإننا كعرب – شعوب – على غالبيتنا الغالبة لنعرف بعضنا البعض ونلتحم كشعوب بأكثر مما يحاول الإعلام تقريبنا أو إبعادنا وإنا لنلمس عراقة بعضنا البعض ثم من قال يا أخي أننا نصدق إعلامنا فيما يحاول أن يصوره لنا ؟ إننا لو كنا نصدق إعلامنا ولو بقيد أنملة ما التحمنا بك وبإخوانك من الشعراء اليمنيين السابقين والآنيين الذين يقومون على قدم وساق بمواصلة رسم الشخصية اليمنية العريقة ذات الأبعاد التاريخية والحضارية والفكرية . إننا ولشدة إدراكنا لتلك الشخصية اليمنية الفريدة فإنا نسعى وبكل قوتنا للالتحام بكم وبها حتى نستمد منها ثراءها ونعيد اللحمة بيننا فالشخصية اليمنية مكون رئيس من مكونات شخصيتنا الأدبية وبدونها لا تستقيم للشخصية العربية هوية

فقط , كل ما نحتاجه الآن هو إدارة أعيننا إلى البساط اليمني الممتد الذي يزخر بأفخر الخيوط الفكرية والأدبية لنعيد التفاتة أجيالنا الحالية والقادمة إلى وجه من وجوه شخصيتهم العربية كأحد أهم وجوه تلك الشخصية

أعود وأقول: إن البردوني نجح بما له من قوة نفوذ أدبي وشفرة شعرية قوية في التأكيد على ملامح الشخصية اليمنية وفرضها على الوجود الأدبي العربي

وأقصد بالنفوذ الأدبي القدرة على فرض الشخصية بما كان يمتلك من مقومات تؤهله لإخضاع صفحات التاريخ لإرداته

لقد أكد البردوني ذلك النفوذ بكل قوة في مؤتمر أبي تمام بالموصل عام 1971م , وأكبر دليل على قوة ذلك النفوذ الأخاذ في شخصية البردوني يمثله الفارق بين ما قبل إلقاء قصيدته ” أبو تمام وعروبة اليوم ” وما بعد إلقائها

فحين وصل البردوني إلى الموصل نظر إليه البعض نظرة استخفاف نظرا لطبيعة البردوني في عدم الاهتمام بالهندام الخارجي وعزوفه عن ارتداء الأزياء الرسمية لمثل تلك المناسبات لدرجة أن بعضهم كان يفكر في إرجاء تقديمه ؛ لأننا – كعرب – وعلى غالبيتنا , في مثل تلك المشاهد إنما نهتم بالمظهر وأناقة الزي الرسمي وهذه من أهم آفاتنا في منتدياتنا الأدبية واحتفالاتنا فالحاضرون يظنون أن اللباس إنما يصنع لهم القيمة وتتحول عملية التقييم على وجهها الأعلى رجوعا إلى درجة التنميق والتوشية التي يظهر بها الشاعر .

لكن البردوني ظهر لهم بلباسه الطبيعي دون إسراف أو استعداد خاص للمناسبة ولكن من يعرفون البردوني ويدركون حجمه طلبوا أن يقدم البردوني في اليوم الأول من المؤتمر حتى لا يُغَيِّبَهُ الشكليون , فخرج لهم بقصيدته تلك التي هزت الدنيا وتحولت بين عشية وضحاها إلى حديث العالم حوله بل وخرجت من حدود العراق وسرت كالنار في الهشيم في الجسد العربي قاطبة لتصيبة برعدة النشوة ووثبة الإفاقة ؛ الإفاقة على أن هناك يَمَنًا تعبر عن نفسها … فما زالت العرب لم تفق إفاقة الوعي بعد وإن كانت تلك القصيدة ومثيلاتها لقادرات على إحياء الموتى

تلاشى المظهر وفرض الجوهر ذاته ليفتح صفحة من صفحات التاريخ عنوة رغم أنف القائمين على التسطير فيها صفحة بعنوان ” اليمن في واجهة المشهد الإبداعي العربي ” . لقد قدم ” نزار قباني نفسه في هذا المؤتمر للبردوني قائلا : أنا نِزار قباني . فرد البردوني عليه : لا تقل نِزار بكسر النون ولكن قل نَزار بفتحها . هنا سأنهي مقالي هذا بتلك القصيدة التي يخاطب فيها البردوني أبا تمام والتي حصد بها البردوني لقب إمارة الشعر لأعود في الحلقة الرابعة لأواصل ما بدأته في هذه السلسلة

ما أصدق السيف ! إن لم ينضه الكذب

وأكذب السيف إن لم يصدق الغضب

بيض الصفائح أهدى حين تحملها

أيد إذا غلبت يعلو بها الغلب

وأقبح النصر .. نصر الأقوياء بلا

فهم , سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا

أدهى من الجهل علم يطمئن إلى

أنصاف ناس طغوا بالعلم واغتصبوا

قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا

شيئا .. كما أكلوا الإنسان أو شربوا

ماذا جرى ! يا أبا تمام تسألني

عفوا سأروي ولا تسأل وما السبب

يدمي السؤال حياء حين نسأله

كيف احتفت بالعدى ( حيفا ) أو ( النقب )

من ذا يلبي , أما إصرار معتصم

كلا وأخزى من ( الأفشين ) ما صلبوا

اليوم عادت علوج الروم فاتحة

وموطنُ العرب المسلوب والسلب

ماذا فعلنا ! غضبنا كالرجال ولم

نصدق ! وقد صدق التنجيم والكتب

فأطفأت شهب ( الميراج ) أنجمنا

وشمسنا .. وتحدى نارها الحطب

وقاتلت دوننا الأبواق صامدة

أما الرجال ! فماتوا ثم أو هربوا

حكامنا إن تصدوا للحمى اقتحموا

وإن تصدى له المستعمر انسحبوا

هم يفرشون لجيش الغزو أعينهم

ويدعون وثوبا قبل أن يثبوا

الحاكمون و ” واشنطن ” حكومتهم

واللامعون وما شعُّوا ولا غربوا

القاتلون نبوغ الشعب ترضيةً

للمعتدين وما أَجْدَتْهُمُ القُرَب

لهم شموخ ( المثنى ) ظاهرا ولهم

هوى إلى ( بابك الخرمي ) ينتسب

ماذا ترى يا ( أبا تمام ) هل كذبت

أحسابنا ! أو تناسى عرقه الذهب

عروبة اليوم أخرى لا ينم على

وجودها اسم ولا لون ولا لقب

تسعون ألفا لـ ( عمُّورية ) اتقدوا

وللمنجم قالوا : إننا الشهب

قبل انتظار قطاف الكرم ما انتظروا

نضج العناقيد لكن قبلها التهبوا

واليوم ! تسعون مليونا وما بلغوا

نضجا وقد عصر الزيتون والعنب

تنسى الرؤوس العوالي نار نخوتها

إذا امتطاها إلى أسيادها الذئب

( حبيب ) وافيت من صنعاء يحملني

نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب

ماذا أحدث عن صنعاء يا أبتي

مليحة ! عاشقاها ؛ الذل والجرب

ماتت بصندوق ( وضاح ) بلا ثمن

ولم يمت في حشاها العشق والطرب

كانت تراقب صبح البعث فانبعثت

في الحلم ثم ارتمت تغفو وترتقب

لكنها – رغم بخل الغيث – ما برحت

حبلى وفي بطنها ( قحطان ) أو ( كرب )

وفي أسى مقلتيها يغتلي يمن

ثان كحلم الصبا .. ينأى ويقترب

( حبيب ) ! تسأل عن حالي وكيف أنا !

شبابة في شفاه الريح تنتحب

كانت بلادك ( رحلا ) ظهر ( ناجية )

أما بلادي فلا ظهر ولا غبب

أرعيت كل جديب لحم راحلة

كانت رعته وماء الروض ينسكب

ورحت من سفر مضن إلى سفر

أضنى لأن طريق الراحة التعب

لكن أنا راحل في غير ما سفر

رحلي دمي .. وطريقي الجمر والحطب

إذا امتطيت ركابا للنوى فأنا

في داخلي .. أمتطي ناري وأغترب

قبري ومأساة ميلادي على كتفي

وحولي العدم المنفوخ والصخب

( حبيب ) ! هذا صداك اليوم أنشده

لكن لماذا ترى جهي وتكتئب !

ماذا ! أتعجب من شبيب على صغري !

إني ولدت عجوزا ! كيف تعتجب !

واليوم أذوي وطيش الفن يعزفني

والأربعون على خديَّ تلتهب

كذا إذا ابيضَّ إيناع الحياة على

وجه الأديب أضاء الفكر والأدب

وأنت ! من شبت قبل الأربعين على

نار ( الحماسة ) تجلوها وتنتخب

وتجتدي كل لص مترف هبة

وأنت تعطيه شعرا فوق ما يهب

شرَّقت غرَّبت من والٍ إلى ملك

يحثك الفقر أو يقتادك الطلب

طوفت حتى وصلت ( الموصل ) انطفأت

فيك الأماني ولم يشبع لها أرب

لكن موت المجيد الفذ يبدأه

ولادة من صباها ترضع الحقب

( حبيب ) ما زال في عينيك أسئلة

تبدو وتنسى حكاياها فتنتقب

وما تزال بحلقي ألف مبكية

من رهبة الروح تستحيي وتضطرب

يكفيك أن عدانا أهدروا دمنا

ونحن من دمنا نحسوا ونحتلب

سحائب الغزو تشوينا وتحجبنا

يوما ستحبل من إرعادنا السحب

ألا ترى يا ( أبا تمام ) بارقنا

( إن السماء ترجى حين تحتجب ) !

هنا فقط وبتلك القوة من النفوذ والسطوة حطم البردوني كل تلك الأسوجة التي فرضتها صفحات التاريخ وتلاشت كل الأغفلة التي ضربت على شخصية اليمن الشعرية ليعلن البردوني ملامح الشخصية اليمنية الجديدة التي تستمد ملامحها من جذوة العرق اليمني الأصيل

انتظروني سأعود في تحليلية لهذه القصيدة التي كسر بها البردوني حيز الصمت اليمني ليسمع صرخة اليمن إلى العالم الحر وغير الحر أيضا

لأختتم هذه السلسلة كما وعدت بـ ” عمار الزريقي “

 

(4) فرض الشخصية اليمنية وإعادة كتابة تاريخ القصيدة

قلت في مقالي السابق أن البردوني ليس هو الشخصية اليمنية الأدبية ولكنه هو الذي أزاح عنها الستار الذي ضرب عليها من غبار التعتيم عبر قرون من الزمن وهو لم يزح الستار توددا أو أزاحه رجاءٍ بل أزاحه عنوة رغم أنف المُعَتِّمِينَ وكأنه قد جلس بين من يَصُمُّونَ آذانهم فأحدث تفجيرا يزن أطنانا من المواد الشعرية المتفجرة فجعلهم يتلفتون من أثر الفزع الذي أصابهم بما أحدثه , وكأنه وفي مؤتمر الموصل قد أخذ معه اليمن إلى العرب أو أخذ العرب جميعا معه إلى اليمن داخل حدود قصيدته تلك بما حملته تلك القصيدة من ملامح لم تكن مألوفة لدى من يتلقون هذه القصيدة , قال ما سكت عنه شعراء العرب ففي الوقت الذي كان فيه شعراء العرب – إبان سبعينات القرن المنصرم – يدورون في فلك الحكام لا يستطيعون فكاكا من مَدَاراتِهِم الضيقة حيث جعلت غالبيتهم من الشاعرية بوقًا للأنظمة وقف البردوني شامخا في وجه تلك المدارات الضيقة يمزقها ويخرج من شرنقتها إلى عالم الحياة , لقد حاول مثله في أقطار أخرى كمصر أن ينهجوا نهجه لكنهم ختموا حياتهم إما في السجون أو مستشفيات الأمراض العقلية كـ ” نجيب سرور ” – في ستينات القرن الماضي – الشاعر المصري الذي قضى عمره ما بين المعتقل ومستشفى الأمراض العقلية ولم يكن بذي جِنَّةٍ لا لشيء إلا لأنه قد حاول أن يطلق العنان لطاقته الإبداعية تعبر عن ذاتها الحرة لقد حاول أن يكون بردوني !

ولكن البردوني كان أشد تفجيرا لطاقاته لدرجة ألجمت الجميع وجعلتهم يقفون أمام تلك القصيدة موقف المشدوه غير القادر على الحراك وكأن البردوني قد أطلق على الجميع سهما مُخَدِّرًا كالذي تُصَادُ به الأسد في الأحراش فأثبت الجميع وتحولت قصيدته التي يستدعي بها وفيها ” أبا تمام ” إلى استدعاء وإحالة أكثر من كونها مجرد معارضة شعرية لبائية أبي تمام الشهيرة :

السيف أصدق أنباءً من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

فهو لم يلعب على بحرها أو على قافيتها وبقدر ما لعب على ما وراءها من فلسفة فقد استغل الحكاية التي أنشئت من أجلها القصيدة فهو لم يقصد إلى المعارضة وإن كان قد ارتدى بحر بائية أبي تمام فإنما قد ارتداه ليخرج على العرب بثوب التاريخ الذي كانت عليه العرب ليحيلهم إلى الموازنة بين ما كان من حالهم وبين هو كائن من مآلهم ولأن البردوني كان ذكيا عبقريا فقد غاير قافية أبي تمام فجعل بائيته مرفوعة في حين أن بائية أبي تمام كانت مكسورة رفع قافيته بصوت الشكوى والفقر والأنين والسخرية ليسمعه إلى الدنيا جميعا بينما خفض أبو تمام قافيته بالمديح والاسترخاء على أريكة نخوة المنتصر الذي ينعم في الغنى وبه .. وكأنه أراد أن يعلن من خلال مغايرته الموسيقية أنه لم يأت ليعارض أبا تمام فبابُ المعارضة الشعرية قد أغلق بعد البارودي وشوقي وإنما هو جاء ليضرب على وتر المفارقة ؛ المفارقة المكانية والزمانية

فبائية أبي تمام صيغت مدحا في المعتصم الذي هزم الروم ممثلين لعالم الغرب – الآن – فعالم الغرب الذي كسر أنفه المعتصم جَدُّ العرب هو الآن الذي يُمَرِّغُ أنف أحفاد المعتصم في التراب , لقد لعب البردوني مفارقة المكان والزمان فالمكان هو المكان ” الموصل ” أرض المعتصم التي انطلق منها ليمرغ أنوف أسلاف الغرب في التراب ولكن الزمان ليس هو الزمان فزمان المعتصم ليس كزمان المعتصم , فالمتعصم الأول كان اسمه ” المعتصم بالله ” ولكن معتصم اليوم هو ” المعتصم بواشنطن ” وشتان بين المعتصمين فالأول منتصر مؤزر بربه والثاني معتصم خلع إزاره لربه وشتان بين الرَّبَّين فرب المعتصم الأول رب عزة ورب المعتصم الثاني رب ذلة , رب المعتصم الأول رب الجَنَّة ورب المعتصم الثاني رب النار إنه المسيخ الدجال … إن معتصم الأمس قد ولى وجهه شطر الغرب – الروم – يحاربه في زهو المنتصر ليُؤَمِّنَ قومه وأهله ومعتصم اليوم أعطى ظهره للغرب يُهِينُ نخوته وذكورته وأعطى وجهه لبني جنسه ورعيته ليسلط عليهم سيفه الذي أصبح صَدِئًا لا يصلح لشيئ , إن معتصم الأمس يزهو بذكورته ومعتصم اليوم يزهو بخنوثته … شتان يا بردوني شتان لقد أيقظتنا جميعا وأوقفتنا على حقيقتنا المُرَّة التي اصطنعناها بإيدينا ووضعنا رؤوسنا في الرمال كي لا نذوق طعمها ونحن نتجرعها كل يوم ولكنك أنت وحدك ملأت بها كأس قصيدتك وجرَّعتناها رشفة رشفة لتمرر حلوقنا جميعا بمرارة فعلنا ومآل حالنا

من هذا المنطلق الفلسفي حول البردوني أبا تمام ومعتصمه لدرع يرتديهما – البردوني – ويحمل من خلفه رمحه الخارق الحارق الخازوق ليطعن معتصم اليوم المعتصم بواشنطن , ممثلا في كل حاكم متخاذل سمح للرب الساكن البيت الأبيض أن يستبيح كبرياء العرب ويستهين باستهانتهم

لقد أبرز البردوني ملامح الشخصية الشعرية اليمنية تلك التي ترفض الخضوع والاستسلام على العرب جميعا فإن كان البردوني في بائيته تلك قد شكا حال اليمن فإنما كانت شكواه عود الثقاب الذي أشعل به نار الشكوى العروبية جمعاء ..

السيف أصدق أنباءً من الكتبِ

في حده الحد بين الجد واللعبِ

هذا سيف أبي تمام ومتعصمه سيف لا يعرف إلا ضرب لسان الكذب وقطعه لأجل إخراسه …

ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذبُ

وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ

وذاك هو سيف البردوني ومعتصمه الذي قد أصابه الكذب بالهزال ولم يعد قادرا على الغضب الحقيقي

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهم جلاء الشك والريبِ

هذه سيوف أبي تمام ومعتصمه سيوف لامعة صفائحها احتَدَّتْ فابيضَّتْ بما صنعت من التاريخ الذي سُطِرَ بالزهو والفخر هي السيوف التي أزالت شك وريبة الهزيمة وجعلت النصر يقينا

بيض الصفائح أهدى حين تحملها

أيد إذا غلبت يعلو بها الغلبُ

وتلك سيوف البردوني ومعتصمه التي تتطلع لتُبَيِّضَ صفحتها ولكن هيهات ! لأن الأيدي التي أصبحت تحملها لم تعد قادرة على الغضب والغلب

لقد حمل البردوني على أبي تمام ومعتصمه الحقيقيين ! نعم حمل عليهما ؛ فلم يمتدحهما بل وجه لهما رسائل لوم وكأنه بلسان حاله يقول : ليتكم ما انتصرتم على الغرب وما أورثتمونا ذلك التاريخ المجيد الذي تحول اليوم إلى مرآة نتعرى أمامها فنرى حقيقتنا الهزيلة ! نعم ! ليتكم ما انتصرتم , فلو ولدنا أذلاء لاستهنا بالمذلة ولم نتجرع كل تلك المرارة ولكنكم أخلفتمونا أحرارا بمجدكم العظيم عبر التاريخ لتنكشف خنوثتنا التي ولدت معنا أمام ذكورتكم أيها الأسلاف الذكور

لو كان ما فعله البردوني هو إخراج الشخصية اليمنية لفرضها على ملأ التاريخ لقال قائلنا هو موهبة خارقة فرضت وجودها على التاريخ وكفى …

ولكن البردوني صنع من كل شاعر من شعراء العرب بردوني جديد حتى من لم يطلع عليه من شعراء العرب قاطبة دفعته الخطوب إلى أن يكون بردوني ؛ فنزار قباني بردوني في بلقيس :

قتلوك يا بلقيس ..

أية أمة عربية

تلك التي ..

تغتال أصوات البلابل

أين السموءل

والمهلهل

والغطاريف الأوائل

فقبائل أكلت قبائل

وثعالب قتلت ثعالب

وعناكب قتلت عناكب

قسما بعينيك اللتين إليهما ..

تأوي ملايين الكواكب

سأقول يا قمري عن العرب العجائب

فهل البطولة كذبة عربية

أم مثلنا التاريخ كاذب

وعمر هزاع بردوني حين وقف في ” منفى المتنبي الأخير ” يقول :

قُطِّعْتَ أشلاء فقاطع

واقمع خطاك ولا تتابع

دفعوك في تيه النوى

عمن تحاول أن تدافع

باعوك بخسا راودو

ك بغربتين فيا فتى بع

أولاهما عن حبلك الســــ

سري في وطن ينازع

والغربة الأخرى : عوا

ء أخوة خلف البراقع

وها أنا ذا – عبد الله جمعة – بردوني حين قلت من عشر سنوات في قصيدي ” خيط السروال ” :

قم يا أبانا الذي بالقمح نبعده

فالبيت أبيض والحجاج في الكنف

تطوف تمسح نعل الرب في ورع

وتذرف الدمع قربانا من الشرف

فالقمح قمحك والأفواه فاغرة

فامنح بفضلك غفرانا لمقترف

قد جاء يطلب تكفيرا لمعصية

أن وحد الله , هل تصفو لمعترف

فاجعل نَبِيَّكَ من صهيون يرحمنا

لم يبق منا سوى الأصلاب والنطف

وعمار الزريقي بردوني فها هو يقول في ” خطاب تاريخي ” :

أليس فيكم عاقل واحدٌ

من ساحل البحر لأقصى الشمال

لو أرسل الله نبيا إلى

قوم لهم أوصافكم لاستقال

حرية التعبير مكفولة

كالنوم في سروال أم العيال

يا ربنا أنا لم أعرف عمار الزريقي إلا منذ بضعة أيام وهو لم يرني إلا منذ ذات البضعة فلم يطلع أحدنا على تجربة الآخر بل أكاد أجزم أنه لم يقرأ لي بيت قصيد واحد لقد قلت منذ عشر سنوات في منتهى القصيدة التي هي بعنوان ” خيط السروال ” :

إني لأمسك نفسي للسؤال إذا

ما جاء نَجْلِيَ في استفهامه اللهف

فقد أجيب بما في الرد من وجع

أقول إن هزني بالسؤل في سخف :

أمسكت خيطي على السروال أسترني

وجدت خيطا ولا سروال للأسف

لم يقلد أحدنا الآخر بل لم يحاكِ أحدنا أخاه ولم يسر أحدنا في ركاب البردوني فلكل منا طعمه ولونه ورائحته لكن المؤكد الأكيد ؛ أن كل واحد فينا يقبع في داخله بردوني يُسْتَفَزُّ ويُسْتَنْهَضُ وقت الحاجة

بذات منهجية البردوني الساخرة المتألمة الشاكية الباكية المتعجرفة المكابرة المتسعذبة طعم الألم الثائرة المنكسرة الرافضة كل ما يجري حولها من مذلة وهوان

فالبردوني لم يكتف بأن أخرَجَ ملامحَ الشخصية الشعرية اليمنية إلى عالم النور بل تعدى ذلك فاخترق حُجُبَنَا المكنونة ليُخْرِجَ ما فيها من بردوني قابع في ذات نفسنا العميقة وشجعه على الخروج إلى حيز النور ليصرخ ويئن ويستهزئ ويسخر ويشكو ويتلذذ بشكواه ويضحك ويبكي كل ذلك في آن واحد

إن بحث كل واحد فينا في ذاته الشعرية سيجد بردوني قابعا في داخله يستصرخه ويفرض عليه نفسه دون أن يكون حتى قد اطلع على البردوني اليمني

يا عمار الزريقي هذه هي اليمن

انتظروني في الحلقة الخامسة

” قراءة في نصوص عمار الزريقي “

وأختتم بها رحلتي هذه

 

(5) قراءة في بعض نصوص الشاعر اليمني عمار الزريقي

ائتوني بقلم فحم , ذلك القلم الذي يمسك به التشكيليون لينظروا إلى ملامح الشخصية فيخطوا خطوطهم المتراصة بمقاييس مرعية دقيقة لنفيق في النهاية على صورة واضحة المعالم للشخصية التي هم بصدد رسمها , وكلما كان قلم الفحم قادرا على مس التفاصيل الداخلية للشخصية خرجت الصورة قريبة من الواقع قدر الإمكان واقع من يحمل تلك التفاصيل

لقد أطلت وأسهبت – في مقالاتي السابقة – لدرجة دفعت بعض قرائي يسألون : متى سيقترب من نصوص الشاعر التي هي محل التحليل ؟ كنت أقرأ هذا متضمنا في تعليقاتهم وردودهم وإن لم يصرحوا به … ولكني قصدت عمدا إلى ذلك لأسباب بعضها :

الأول : كنت ساخطا على عملية التأريخ الأدبي العربي سواء أخطها مؤرخون عرب أم غير عرب ؛ لأن جلهم أو يكاد حين شرعوا في إخراج موسوعاتهم التي أرخت للأدب العربي قد مروا على اليمن مرورا لا يليق بها ولا بهم أنفسهم فالمؤرخ الأكبر لتاريخ الأدب العربي الدكتور شوقي ضيف في موسوعته الشهيرة ” تاريخ الأدب العربي ” لم تحظ اليمن منه بما هي أهل له ؛ إذ مرَّ عليها في موسوعته في الجزء الأول ” العصر الجاهلي ” مرورا سريعا واكتفى بوصف اليمن جغرافيا وسياسيا وعقائديا إلا أن إشارته إلى الشعر اليمني لم تكن بارزة بحجم اليمن الطبيعي على خريطة الأدب العربي ثم إنه حين عرض لشعراء الجاهلية أفرد ترجمات لهم وعلى رأسهم أمير الشعر العربي قبل الإسلام امرؤ القيس ثم حاتم الطائي وأشار إشارات عابرة إلى أنهما يمنيان ولم يقف ليرسم ملامح الشخصية الأدبية اليمنية , ثم إنه حين ذهب إلى تقسيم الإبداع العربي مؤرخا إياه دخل فيما أسماه ” عصر الدول والإمارات ” أي عصر ما بعد تقسيم الخلافة فجعل لكل منطقة مجلدا مستقلا يتناول فيه تفاصيل شخصيتها إلا أنه حين أراد أن يستعرض اليمن استعرضها من خلال استعراضه لمجلد الجزيرة العربية , ولست معترضا على ذلك فاليمن جغرافيا ركن ركين في الجزيرة العربية ولكن اعتراضي نَجَمَ عن طريقة التناول حيث تهميشه اليمن وتركيزه على أركان الجزيرة العربية الأخرى وما جاء ذكره لليمن لم يوف اليمن حقها . حتى ” كارل بروكلمان ” في موسوعته التأريخية الشهيرة عن الأدب العربي فعل ما فعله الدكتور شوقي ضيف ؛ ربما لأن كارل بروكلمان ليس عربيا وحين أراد أن يتكئ على مرجعيات يستمد منها لم يجد مادة ثرية عن اليمن ففعل ما فعلته التأريخيات العربية , فأردت أن أعبر عن غصتي متذرعا بعمار الزريقي

الثاني : من خلال مطالعتي لتجربة ” عمار الزريقي ” الشعرية داخل حدود ديوانين شعريين حصلت عليهما من يديه الكريمتين عبر الإيميل في ملفات بصيغة الـ PDF وهما ” صعلكة ” و ” نوافل ” ومن خلال معايشتي لهذين الديوانين قد أدركت أن ” عمار الزريقي ليس ممن يوقف على شعره بالنقد والتحليل قبل التأهيل للخوض في غمار تجربته لأن تلك التجربة هي خيط من خيوط الشخصية اليمنية , فكان لزاما أن يتملس القارئ طريقه إلى ملامح تلك الشخصية حتى يُقْدِمَ على ” عمار الزريقي ” إقدام العارف بالتفاصيل المحيطة بتلك الشخصية الشعرية ذات الأبعاد التاريخية والجغرافية والفلسفية والفنية بل والنفسية

فعمار الزريقي إنما هو انعكاس لبيئة ذات شخصية واضحة المعالم وهو – كما عبرت – أحد أهم خيوطها المكونة لنسيج شخصيتها فأردت أن أعرض لوحة – قدر الإمكان – للواقع اليمني النصي حتى إذا نظرنا لأحد خيوطها المكونة لها نجحنا في الاستمتاع بلونه وطعمه ورائحته اليمنية الأصيلة

وقبل الخوض في غمار التجربة ” الزريقية ” قصدت إلى التنويه إلى أنني حين أتكلم عن الشخصية اليمنية فإنني أسقط على عمار الزريقي والعكس صحيح تماما فحين أتكلم عن عمار الزريقي فإني أسقط على الشخصية اليمنية ليس اختزالا للأدب اليمني في دائرة عمار الزريقي وإنما تركيزا على معالم شخصية عمار ذاتها فاليمن مليء بالمبدعين ذوي البصمات الخالدة في النص العربي

إن شخصية عمار الزريقي الشعرية شخصية لها أبعاد لم تأت من فراغ , وقد نوهت إلى مثل هذا هذا في كتابي مكامن الإبداع – في جزئه الأول – من ص 24 حتى ص 63 عن مراحل النمو الفكري للشاعر التي مؤداها أن الشاعر حين يخوض غمار التجربة الشعرية عبر رحلة النضوج الفكري يمر بأربع مراحل من النضج الفكري تتمثل الأولى في البحث عن روافد معرفية وخبراتية وحياتية مغذية لهذا الفكر ثم الدخول بعد مرحلة من التغذية إلى مرحلة الاكتفاء وقلت بالاكتفاء لا الامتلاء وكنت أعني بالاكتفاء ؛ الدخول إلى تجربته النصية ممتلئ الفكر بالدواعم المعرفية التي ستغذي تجربة النص ثم انتقاله بعد ذلك بعد دربة ومران وخبرة إلى مرحلة تكوين الشخصية الشعرية أي الشفرة أو الشيفرة الخاصة بالشاعر والتي تجعل منه شخصية شعرية ذات أبعاد واضحة المعالم تعبر عن ذاتها دون أن يلحق اسم الشاعر بها ومن ذلك أننا إذا أسقط في أيدينا نص شعري دون أن يلحق به اسم شاعره نستطيع أن نقول أن هذا النص بردوني مثلا أو نزاري أو هزاعي أو زريقي وهذه المرحلة إنما هي مرحلة فارقة في حياة الشاعر لأنها – إن بلغها – سيدخل تاريخ الأدب وسينضم للأسرة الأدبية كشخصية واضحة المعالم ذات استقلالية لها ملامحها الخاصة ومن ثم تستطيع أن تحد حدودها داخل إطار التاريخ الأدبي بمساحة تحقق لها الخلود النصي المستقل المعالم

وقلت في معرض حديثي في كتابي ” مكامن الإبداع ” ج1 في ذات المساحة المذكورة أن الشاعر الحقيقي إنما هو ذلك الشاعر الذي يحيا في حال صدام مستمر مع الواقع الشعري , وحددت الواقع الشعري لا الواقع الحياتي وإن كان الأول مستمد مكونه وحدوده من الثاني … إذن فالواقع الشعري هو الخصم الأول للشاعر يدخل معه الشاعر في حلبة صراع محاولا أن ينتصف منه وينتصر عليه في تجربته الشعرية وقد عبرت نصا ” أن الشاعر ينتصف في تجربته الشعرية من واقع شعري هو مهزوم فيه في الواقع الوقيع ” .

والشاعر ذو الشخصية الشعرية أو الشفرة الشعرية إنما هو ذلك الشاعر الذي يستطيع أن يدخل في زاوية أسميتها ” زاوية الرؤية ” وتمثل زاوية الرؤية هذه فلسفته الشخصية في مواجهة ذلك الواقع الشعري فبها يعد عدته وينتقي أسلحته التي سيواجه بها هذا الواقع الشعري حتى يتسنى له الانتصار عليه ومن ثم الانتصاف منه , وقد أحصيت في كتابي ما يقرب من خمس وعشرين شفرة شعرية أو زاوية رؤية أحصيتها من خلال عملية مسح شامل للنصوص الأدبية العربية خلال أعوام طويلة من عمري احتككت بها بأكثر النصوص العربية ذات النضج والرشد النصي فاتحا المجال لنفسي مستقبلا ولكل من يأتي من بعدي من نقاد الشعر ومنظريه لاكتشاف المزيد من تلك الزوايا أو الفلسفات

ووقفت في كتابي ” مكامن الإبداع ” لأعلن أن الشاعر ليس بالضرورة أن يقف لواقعه الشعري بفلسفة واحدة أو زاوية رؤية واحدة وإنما قد تتعدد تلك الشفرات بحسب مستوى نضجه الفكري وامتلاء رافده المعرفي

فمنها مثلا ؛ فلسفة تشويه الواقع وفلسفة الشكوى وفلسفة التهكم وفلسفة الاستعلاء على الواقع وفلسفة التلذذ بالألم واستعذابه وفلسفة الحكمة الدستورية وفلسفة النواح والعويل … إلى غير ذلك من فلسفات أو زوايا رؤية يمكن للشاعر أن يصطبغ بها أو يتخذها سلاحا يواجه به واقعه الشعري

وفي حقيقة الأمر فإن تلك الفلسفة إنما هي تمثل منتهى الوعي والنضج الإدراكي لدى الشاعر إذ أنه من خلال تسربله بها يكون قد حدد معالم شخصيته الشعرية التي ستخلد تاركة بصمته على نصوصه بل ربما تتسع فتجذب إليه مريديه من ناشئة الشعر فتتحول تلك الفلسفة إلى تيار يسبح من خلاله كل من اقتنع بتلك الفلسفة هنا نستطيع أن نقول أن ذلك الشاعر صاحب تلك الفلسفة قد خط ” مدرسة أدبية ” ومن هنا تنشأ المدرسة الأدبية فنقول هذه هي ” المدرسة البردونية ” وتلك ” المدرسة النزارية ” وهكذا

ولعدم الاستطراد فإني أمام تجربة ” عمار الزريقي ” قد وجدتني أقف أمام شخصية شعرية واضحة المعالم قد ابتنت لنفسها الأسس اللازمة لجعلها شخصية ذات شفرة أو بصمة وراثية تحمل جيناتها من عمار الزريقي لتنتقل بين الزخم النصي الشعري العربي معلنة عن نفسها لا تخالطها شخصية أخرى أو تخالطها هي

وهنا أقف وأسأل : ما ملامح الشخصية ” الزريقية ” أو بمعنى أوضح ؛ ما فلسفة عمار الزريقي وما زاوية رؤيته التي يواجه بها واقعه الشعري ؟

إن شخصية عمار الزريقي تتجلى بوضوح منذ اللحظة الأولى التي يستضيفك فيها أحد ديوانيه ؛ ( صعلكة ) أو ( نوافل ) لتحل في رياضه متنقلا بين رياحينها العبقرية …

فعند مولج ديوان ” صعلكة ” تجد نفسك واقفا على ثلاثة من الإهداءات المتتالية نصها :

” من لم يذق طعم الأبوة فقد فاته أهم ركن من أركان الحب … إلى صغيرتي تسنيم التي تختزل العالم في ابتسامتها البريئة … إلى كل الفقراء الذين يتطلعون إلى عالم ينبغي أن يكون “

لقد اختزل عمار الزريقي واقعه الشعري أو لنقل نظرته أو زاوية رؤيته لهذا العالم تحت معنى واحد هو العنوان الرئيس الذي سألج منه ” أبوة ” فللحب أركان كأركان الإيمان فالإيمان حب وأهم أركان ذلك الحب ” الأبوة ” ثم يتجه إلى صغيرته ” تسنيم ” ليمنحها صك البراءة المستمدة نعومتها من ” الأبوة ” ثم يتسع بإهادئه إلى كل فقراء العالم متمنيا لهم أن يجدوا عالما كما ينبغي أن يكون تحت مظلة ” الأبوة “

إنه الحرمان الذي تعانيه النفس السوية فتتحول من حرمان الماضي إلى عطاء المستقبل فالنفس السوية إنما تجاهد من أجل تعويض العالم ما فقدته هي

ولست هنا في مجال تنجيم أو استطلاع غيب , لذلك فلست أصف ما هو كائن لست أعلمه فما كنت أعني بالأبوة هنا أن الشاعر قد فقد أباه ولكني أعني بالضرورة عامدا أن الشاعر قد عانى حرمان الأبوة على نحو ما ؛ أبوة الوطن , أبوة الأمن , أبوة التطلع للمستقبل , أبوة الإحساس بلمِّ الشمل أي الأبوة المعنوية التي يتلمسها كل إنسان يسعى إلى تأمين حياته ومعاشه بشتى وسائل التأمين … وكما قلت فالنفس السوية هي تلك النفس التي تسعى إلى تعويض العالم عما فقدته هي خلال رحلتها إبان مراحل الوهن والاحتياج

إذن فالشاعر هنا يرتدي رداء العطاء النابع من حرمان ما حرمه في حياته فأراد للعالم حوله ألا يذوق ذات طعم الحرمان فاتجه إلى منحه كل من يحتاج إليه

ثم بالإيغال إلى ساحة ديوانيه الشعريين تجدك واقفا على الخيوط الرئيسة لملامح الشخصية الزريقية والتي تتمثل خيوطها فيما ستنبئ عنه نصوصه :

تقولين ما شأني ؟ سأروي حكايتي — قبيل اكتمال البدء كانت نهايتي

بدأتَ إذا بالصفر ؟ كلا بلغته — أخيرا وكان الصفر في البدء غايتي

أهذا اسمك الفعلي ؟ سر بلا فم — دعيه فإني مدرك بالكناية

ولدت وأمي بنت عمران لم يزل — أبوها صبيا تحت رُحمى وصايتي

وفارقت مهدي بعد عام بداخلي — ” تأبط شرا ” من ذيول النكاية

أما كنت تدري ؟ كنت أدرك أنني — أمارس جهلي خشية من درايتي

تلك مرآة تعكس لي ككقارئ معالم شخصية عَمَّار ؛ أقامها أمامي على حوارية تأخذ مما أستطيع أن أصفه بـ ” الفانتازيا ” قالبا لتعكس لي خيوطها التي أستطيع أن أصف كلا منها بكلمة واحدة ثم أعود لأحققها من خلال النص القصير المفعم … ( حرمان – تهكم – استعلاء – كوميديا سوداء ) هي ليست بالكلمات ولكنها مفاتيح شفرات أو شيفرات شخصية عمار الزريقي الشعرية …

هي تسأله : ما شأنك ؟ وهو يجيب بأنه قد انتهى قبل أن يكتمل بدؤه فالبيئة المحيطة به لم ترعه ولم تعطه حق الحياة , منتهى السخرية السوداء , ملهاة تغلف المأساة … ” تأبط شرا ” رمز يفتح من تحته عالم من المرارة والسخرية والضحك الباكي , فلماذا تأبط شرا ؟ يكفي أن نعلم سر تسميته بـ ” تأبط شرا ” لنعلم مرمى الرمز : إنه ثابت بن جابر بن سفيان , الذي قيل في سر تسميته أنه رأى كبشا كبيرا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه طول طريقه فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش فرماه , فإذا هو الغول فقال له قومه : ماذا تأبطت يا ثابت ؟ قال : الغول . قالوا : تأبطت شرا

وهنا أسأل عمار دون أن أفصح عن إجابة : من تأبط شرا يا عمار ؟ لقد لمحت عن نفسك به مستترا تحت ما عرف عنه من صعلكة تمشيا مع الديوان الذي يحمل الاسم .. ولكن ! من الكبش الغول ؟ وماذا كنت تعني بالبول ؟ وما مدى معاناتك في حمل كبشك هذا ؟ بالقطع أنت لم تذكر هذا صراحة ولكنك ورَّيت تحت صعلكة ” تأبط شرا ” بتلك القصة الساخرة التي تشوبها الحسرة معبرة عمن أمضى حياته يحتمل بول ذلك الكبش انتظارا لوليمة ثمينة سمينة دسمة وفي النهاية اكتشف أنه الغول … أظن أن القارئ الآن قد أمسك بخيوط الإجابة كما إني على يقين أنك الآن يا عمار تتمتم بالإجابة التي أنتظرها

إن عمار الزريقي نموذج لشاعر ممتلئ معرفيا حدا يجعله يورِّي ويراوغ مراوغة المحارب الذي يحفظ ميدان معركته جيدا فيعرف من أن يأتي واقعه الشعري فيطعنه ومن أين يفجأه فيربكه ومتى يوجه ضربته القاضية فينتصر عليه

وحين اقترفت الشعر ! مهلا هويته

فألفت أبياتا وماتت هوايتي

وفوزك بالمليون هل كان صدفة ؟

سمت بي على رجس الدنانير غايتي

فأصبحت أبني في خيالي ممالكا

وأغرس في مستنقع الفقر رايتي

لماذا ؟ لأني حين ألغيت مخلبي

تواضع قانون القوى عن حمايتي

إن اقتراف الشعل فِعْلُه , هكذا تُنبئنا المعاجم والاقتراف إثم وحسنة فمقترف الإثم فاعله ومقترف الحسنة فاعلها , فكيف اقترفت الشعر يا عمار ؟ هو فتح الدلالة هنا عمدا مع سبق الإصرار والترصد , نعم ! مع سبق الإصرار والترصد … فهو يقر باعتراف ساخر متهكم يحمل في طياته الحسرة بأنه قد مارس الشعر إثما وإحسانا مرذولا ومحمودا . فمتى أحسنت يا عمار إلى الشعر ؟ حين كان هاويا يتمهل عليه حتى يأتيه طواعية . ولكن متى أَثِمْتَ في حق الشعر ؟ حين احترفه ودخل التأليف من أجل الدنانير فأَثِمَ في حق الشعر لأنه أمات هوايته … فأحيانا ضغط الحاجة والعوز يدفعنا إلى التخلي عن أنبل ما فينا وأسماه .. لكنها ” الكوميديا السوداء ” أنه بعد أن اغتنى من وراء الشعر فجع فاكتشف أنه قد غرس رايته في مستنقع الفقر فهو ما زال فقيرا ! ربما ليس فقير مال ولكن ما قيمة مال الدنيا تحت يديك وأنت تعيش في محيط فقير يعجز فيه المال عن تحقيق الغنى ؟ إنك وقتها ستصبح كمن يحمل أطنانا من الذهب يسير بها في الصحراء فيتحول الذهب عبئا مرهقا لا إسرافا ورفاهية … كوميديا عمار السوداء

فما الذي أوقعك في تلك المأساة الملهاة يا عمار هو يجيب قائلا :

لماذا ؟ لأني حين ألغيت مخلبي — تواضع قانون القوى عن حمايتي

أأنت كنت قويا بفقرك ؟ نعم ! أالآن أصبحت ضعيفا بغناك ؟ نعم ! لماذا ؟ يقول : لأن سعيي وراء المال حطم مخلبي سلاح قانون القوة فعدت بالمال فاقدا تلك القوة التي كان من المفترض أنني أسعى للمال لتنعم تلك القوة به فلا قيمة لأحدهما دون الآخر ..

ماذا تريد أن تفعل بنا يا عمار ؟ بل ماذا فعلت بنا ؟ لقد قلبت نواميس الحياة وجعلت عاليها سافلها وسافلها عاليها وشيدت عالمك الساخر الناقم الصارخ الضاحك الباكي الشاكي المتستعلي حد الغطرسة على مفارقاتك النصية بالغة الرشد حكيمة المبنى والمعنى … إنك شاعر حد الإدهاش , إنك تقيم حدود دولتك الشعرية التي تألم فيها وتتمزق ونحن نستمتع بما تورق من ثمار الألم والسخرية

إن عالم عمار الزريقي عالم متنوع يُعَرِّجُ على كل وجوه الحياة ونقمته تطال كل شيء ولا تقف على حدود شيء بل تعبر كل الحواجز وتضرب في كل الأسوار فليتحطم ما يتحطم وليسقط ما يسقط فقط هو أطلق آلته الشعرية التفجيرية تزلزل الأركان وتضرب في كل مكان …

هو الآن يتجه لعالم الشعر يخبط أسواره يريد إسقاطها جميعا فنقمته تمتد من واقع الحياة إلى واقع الشعر يقول :

وهل للحداثيين ذكر كما ترى ؟ — نعم : أمة موبوءة بالدعاية

فكم ناطق باسم الحداثة لا يعي — من اللفظ إلا الرسم .. يا للغواية

وكم من ” قليل الذوق ” يعصر بطنه — ويجني على الإبداع أقسى جناية

فيخرج روثا ” راقيا ” تستسيغه — أنوف مسوخ أو مباغي جباية

ترى صحف الأحزاب تعنى بذكره — وتوليه دور النشر جم الرعاية

يقولون : معنى الشعر في بطن أهله — سيخرج من أدبارهم في النهاية

ماذا أفعل الآن ؟ أأضحك أم أبكي ؟ أم أصرخ ؟ أم أئِنُّ ؟ أم أستعذب أم أصاب بالغثيان ؟ أما ماذا ! سأفعل كل ذلك في آنٍ

إن عمار الزريقي يصب نقمته على عالم الشعر وما يحتوي من أفرازات لبطون لا تنتج إلا الغثيان ولا يجد الدر الكمين في ذلك العالم شهية لتتلقاه وأغلب الأفواه والأنوف من نقاد الشعر تنفتح مفغورة شماء لتلك الروائح النتنة التي تعكر صفو عالم الشعر حتى أصبحت تلك الروائح هي المعتاد وأصبحت الرائحة الذكية هي النشاذ في هذا العالم

وهو في ديوانه ” نافلة ” يضرب على ذات الوتر وكأن هذا الأمر ينغص عليه حياته محاولا من خلال فلسفة أخرى يطل بها علينا كزاوية رؤية هي ” فلسفة تشويه الواقع ” أن يصارع واقعه الجديد هذا وهو واقع سيطرة الفكر الحداثي في الشعر على مساحات النقد , وتلك الفلسفة التي تناولتها في كتابي ” مكامن الإبداع ” محاولا إظهار خيوطها لدى الشاعر بأن الشاعر حين يصطدم مع واقعه الشعري فلا يجد مناصا من إصلاحه فإنه ينهال عليه بالتشويه ليكمل على ما بقي منه من بقعة ضوء هو يرى أنها لم تعد صالحة للحياة وكأنه يطلق على هذا الواقع رصاصة الرحمة كما يقولون

فهو في قصيدته ” ضرورة شعرية ” يقف وسط حلبة الصراع مع واقعه الشعري الذي عبرت عنه معلنا رغبته الملحة في تشويه هذا الواقع والإجهاز عليه حتى يريح ويستريح يقول :

سفكت معللتي هوى قيثاري — واستحوذت أبدا على أفكاري

تلك التي لا أستهل قصيدة — إلا وكانت لي دليل بحاري

أهدابها لغة القصائد كلها — ترمي فيولد ألف ألف نزار

وإذا روت عني بكور قصائدي — حتما ستخلق أعنف الثوار

ماذا أسميها ؟ فلست بمنصف — مهما تقال بحسنها أشعاري

هي آية الإبداع مفردة الهوى — هي فتنة الأسماع والأنظار

هي في الحداثة قامة مشهودة — هي في التراث أصيلة الأطوار

هلا سألتم ضرب كل قصيدة — عن مثل صاحبة بعقبى الدار

عن أول امرأة تغادر صمتها — كي تدخل التاريخ في إصرار

تلك التي نشرت جدائلها على — كتفي وانتهكت حدود وقاري

هي حاجتي الأولى لأصبح رائدا — وضرورة كالماء لاستمراري

عمار الزريقي يضرب واقعه هنا بأسلوب الكيد . نعم ! الكيد … إن من أراد أن يكيد امرأة قبيحة فليأت لها بجميلة الجميلات ويجلس بها في مواجهتها ممتدحا معالم جمال الجميلة حتى يحيل كل معلم يوصف في الجميلة إلى ما يقابله من تفاصيل القبيحة فيزيدها حسرة على قبحها ويضاعف حسرتها بلفتها إلى معالم جمال الجميلة …

إن فلسفة الكيد هذه قاتلة ولكنها تحقق القتل البطيء فعمار الزريقي هنا يقبع خلف در ع الكيد ويرتدي فلسفة الكيد فيقف على معالم قيصدته الأصيلة أمام قبح قصيدة الحداثة القبيحة ليسقط عليها أشد لسعات سوطه وقعا من خلال مجرد التغزل في مفاتن جميلته

يا ليتني أبحرت أكثر من هذا في عالم عمار الزريقي ولكني بالفعل تعمدت أن أكون ضنينا حتى أحتفظ بشيء لنفسي أختص به أنشره في مؤلفات مطبوعة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى