طوبى لصانعي السلام

د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري

رجل صغير الحجم، ضعيف البنية، أسمر اللون، يزن أقل من مائة رطل، يرقد على سرير صغير، ويرفض أن يأكل، ويهدد بالصيام حتى الموت. كان فقيراً معدماً، لا يملك من حطام الدنيا إلا دراهم معدودات، ولكنه كان أقوى من أغنى أغنياء الأرض؛ فتعاليمه وتأثيراته الروحية كانت أعظم بطشاً وقوة من مائة معركة في ميادين القتال. تلقى دراسته العليا في جامعة لندن وصار من رجال القانون، ولكن لم يحالفه التوفيق حين مارَس المحاماة في لندن، وصار الإخفاق قرينه في تلك المرحلة من شبابه. طالبه مُعلمه الأيرلندي بنسخ “موعظة المسيح على الجبل” عدة مرات تدريباً له على اللغة الإنجليزية؛ فجعل يردد ساعة بعد ساعة: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”، “طوبى لصانعي السلام”. أحدثت هذه الكلمات أثراً عميقاً في نفسه، وحاول تطبيق هذه الفلسفة في فض المنازعات بالطرق الودية خارج المحكمة، فوَفَّر بذلك الوقت والمال، وسرعان ما صار صاحب دخل سنوي كبير. ولكنه لم يكن سعيداً بما حقق من مال ونجاح لأنه يعلم أن الملايين من بني وطنه يعيشون في فاقة، رأى آلافاً منهم يموتون من الجوع؛ فظهر له إقبال الدنيا عليه رخيصاً وعديم الأهمية، فما كان منه إلا أن تنازل عن كل أمواله ونذر نفسه للفقر وكرّس حياته لمساعدة الفقراء والمعوزين، وقد راض نفسه على الجوع ليضرب مثلاً للآخرين.

إن ملايين البشر تطلعوا إلى غاندي على أنه قديس منزه عن الدنايا، إيماناً منهم أن العالم الذي ظهر فيه كان يعجُّ بالأنانية؛ ورغم ذلك فلم يطلب الرجل شيئاً لنفسه، بل أراد أن يموت ليتمكن الآخرون من الحياة. وقد كان له ما أراد، ومات غاندي ميتة المخلدين الذين يوقظون الناس من سباتهم، ويوجهون مداركهم إلى ما يكمن فيهم من قوة جبارة. 

إن آفاق الإنسانية واسعة وأغوارها عميقة ومداها من الزمن بعيد، وحقيق بالإنسان أن يستبين هذه الآفاق، وأن يسبر غورها، ويبلغ مداها، لا لأنه يعلم سيرة إنسان، ولا لأنه يُلم بتاريخ أمة؛ ولكن لأنه يحقق معنى إنسانيته، ويبلغ بها كمالها، عندما يرى بلوغ غاية تنتهي إليها طاقة الإنسان. وليس أعون له على ذلك من سِير العظماء؛ فبرغم أنهم يتماثلون ويتناقضون ويعرضون لنا ألواناً من القدرة، وأنماطاً من الفطرة؛ إلا أنهم في النهاية عظماء، وليس أجدر من عظمة غاندي بالمقابلة بينه وبين غيره من عظماء الإنسانية، تراه يخالفهم في كثير أو قليل؛ ولكنه بعد ذلك عظيم، وكلهم رغم ذلك عظماء، وخليق بالإنسانية أن تطويهم في سجلها العظيم.  

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى