علماء لا يعلمون

د. خضر محجز | فلسطين

ثمة نوع من المخلوقات “الديموقراطية”، التي ترى في حرية الرأي مساراً ذا اتجاه واحد، منها ينطلق، ثم إليها لا يعود.

لا جرم، فهم منبع حرية الرأي ومُنَظِّروه؛ إذ يسمحون لأنفسهم ــ برغم هزال بضاعتهم ــ أن يخوضوا في كل شيء، باسم حرية الرأي، ثم يتوقعون منك أن تتقبل هراءهم على أنه رأي، فإذا انبريتَ لدحض مقولاتهم، أصبحتَ “متطرفاً دينياً” أو على الأقل “معادياً لحرية الرأي”.

إنهم يريدون أن يتحولوا إلى معلمين للأمة، ويقترحون على أنفسهم أنهم يعرفون ما لا يمكن لغيرهم أن يعرفه.. وهم بالمصادفة ــ ودوما، وفي أغلب الأحيان، ودون أي نية سوء، ودون أن تكون أعينهم على مصادر اعتراف خارجية ــ يرون أن لا مانع من بحث مصداقية ما يُقال من ثبوت النص القرآني، رغم أنهم ــ كما يقولون ــ يثبتونه.

إنهم علماء. ولقد يليق بالعلماء أن يزيدوا إيمان المؤمنين إيماناً.

فلنرَ كيف يفعلون!

إنهم ــ في الداية ــ يُقرّون بأن القرآن كلام الله، “الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”. فهو الوحيد الذي لا يمكن الشك في كونه صادق النسبة، صادق المحتوى؛ بخلاف ما يُقال عنه أحاديث نبوية، كوننا ــ كعلماء متشككين ــ لا نتمكن من الوثوق بصحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسببٍ من أنها نُقلت في عهد متأخر، تعرضت خلاله لكثير من عوامل التعرية والترسيب.

حسناً، فلقد علمنا، منذ الآن، أنهم يُقرّون القرآن، ويرفضون حجية السنة. فماذا بعد؟.. لا شيء جوهرياً سوى أن يتساءلوا، بصوت هامس عميق، يليق بالشك العلمي، الذي هو مقدمة اليقين: ما هو القرآن؟

إنهم ديكارتيون أكثر من ديكارت، مع فارق بسيط هو أنهم لم يدرسوا الفلسفة.

إنهم يحاولون أن يجعلوا الأمر كما لو كان بحثاً علمياً، يضع صاحبُه الجهبذُ المقدماتِ، ليناقشها منطقياً، ويستنتجَ من ثَمَّ النتائج.

حسناً، إذن فلدينا مقدمة أولى لديكارتيين “إسلاميين” تقول بأنه لا يمكن الوثوق في صحة مرويات السنة والتاريخ. تلكم ما يرونها مقدمة أولى يتفق عليها الطرفان: المتلقي والقائل. فدعونا نوافق جدلاً، لنرَ ماذا سوف يخرج من بعد!

لكننا لن نتفاجأ حين نرى، من بعدُ، أن الواحد من هؤلاء “الباحثين الموضوعيين المستقلين” يبدأ في مناقشة مسألة جمع المصحف، فيسهب في الاحتجاج بمرويات متعددة، من السنة والتاريخ، تشير إلى اختلاف الناس في الجمع، والترتيب، والقراءة، وكتابة الحروف، وتنقيطها، وتدوين النسخ، وتوزيعها على الأمصار، واختلاف القراءات، وماهية الحروف السبعة، وأحادية بعض الآيات غير المتواترة، ومسألة المعوذات، ومصحف ابن مسعود، والنسخ، والهراء الذي يقال عن آية الرجم، وحذف البسملة التي تسبق سورة براءة… إلخ، ليخرج من كل ذلك إلى أن القرآن كلام الله الثابت، الذي لا نعرف أين هو.

لاحظوا أنهم توصلوا إلى أن القرآن ثابت، لكننا لا نعرف أين هو.

إنهم منطقيون من نوع مختلف، يشبه ذاك الفتى الذي أحضره لي صديق طيب القلب، ذات يوم، ليعرض موضوع دكتوراه، ناقشه فيه دكاترةٌ لم يفهموه، ثم منحوه الدرجة!. أي والله، هكذا هو الأمر ــ كما قال الفتى ــ دون زيادات!

كما أنهم مسلمون نبهاء، عرفوا ما لم يعرفه أحد غيرهم، بدليل أنهم وضعوا مقدمات ثم خالفوها فور بدايات “بحوثهم” الرصينة.

ورغم كل هذه الرصانة والمنطقية، تجدهم لا يقبلون باحتمالية أن يسألني عقلي، كيف أمكن لهم أن يقولوا بأن المرويات كلها لا يمكن قبولها؛ ثم يقبلونها ويحتجون بها، على صحة ما ينوون قوله من التشكيك في القرآن؟ فما بال هؤلاء يقبلون بغير المقبول، ليدحضوا به المقبول؟.

الطريف أنهم لا يحبون أن يسمعوك تناقشهم.

ولقد كان من آخر ما تفتق عنه ذهن “بحاثة عظيم” في هذا الصدد، القول بأنه يحق له ــ بما أنه عالم مجتهد ــ أن يفهم معنى الحروف السبعة على أنها لغات سبع. ثم أردف متسائلاً بشجاعة البحاثة الذي لا يقيل ولا يستقيل: لم ينبغي علينا القبول بأن هذ الحروف السبعة مجرد لهجات للقبائل؟ لقد أُنزل هذا القرآن للناس كافة، فلم لا يكون بكل اللغات؟ لم لا يكون قد أُنزل بالفارسية والعربية والآرامية… إلخ؟

وحين تواجهه بقول القرآن، الذي سبق أن اعترف بأنه ثابت: “إنا أنزلناه قرآناً عربياً” يغضب منك ويتهمك بأنك تحاول إرهابه فكرياً!..

“بحاثة” آخر يشبه هذا، يرفض المرويات، ويثبت القرآن، ثم يستمد من المرويات ما يؤيد به أن القرآن نزل باللغة الآرامية!

فيا ربي، أي شيء هذا؟ ماذا يعني أن أكون مضطراً لمناقشة كل دعيٍّ، لمجرد أنه يرغب في أن يكون دعيّاً؟ إني إذن لمن الملاحقين ما لا يُلحق!.. أفكلما قام “بحاثة” بالتشكيك بالقرآن، بواسطة هذيان مقرف، كان عليّ أن أنبري لتبيان بداهة قبح ما يقول؟ لا إله إلا أنت سبحانك، تخلق من الآيات ما يؤكد أنه لا يستطيع خلقها سواك. وإلا فمن كان قادراً سواك على صناعة مخلوقات كهذه؟

إن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين. وهو الموجود بيننا والمحفوظ في المصحف. هذا ثابت لا يوجد في الكون ثابت بقوة ثبوته. وعلى من قبل بهذا، ورفض المرويات الأخرى، أن يتوقف عن الاستشهاد بها مطلقاً، وفي كل المواقف.

ورغم ذلك فلا أظن هؤلاء إلا راغبين في مواصلة ما به بدأوا، لأنهم واحد من فريقين:

1ـ إما أنهم لا يعلمون، ويقترحون على أنفسهم أنهم يعلمون؛

2ــ وإما أنهم مدفوعون بقوة “القرشين” إلى الادعاء بعلم ما لا يعلمون.

اللهم صحبةَ نبيك في الجنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى