هل بوتين مجرم حرب أم مُدافع شرعي؟

المحامي إبراهيم شعبان | فلسطين
تدور أحداث دامية على الأرض الأوكرانية منذ ما يقارب الشهر، خلفت دمارا وكوارث وحرائق وقتلى وجرحى ولاجئين ودما مسفوكا ومسفوحا للمدنيين أكثر من العسكريين. وهذا ما جعل الرئيس الأمريكي جون بايدن بتوجيه اتهام صريح لبوتين بأنه قاتل ومجرم حرب. وانضمت كثير من التصريحات السياسية لشخصيات قيادية في بلادها وإعلامية لتأكيد موجة هذا الإتهام وتقديمه كمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية.
خلط كبير في الأحداث وفي الرواية الصحفية وهو مخطط ومقصود وتشويه في الأخبار ليضلل القارىء البسيط البريء. والغريب أن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت المصادقة أو الإنضمام إلى ميثاق روما لعام 1998 الخاص بإنشاء محكمة جنائية دولية. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية هددت الدول التي انضمت أو صادقت على ميثاق روما، وعقدت اتفاقيات جانبية مع هذه الدول حتى لا تسلم الجنود الأمريكيين للمحكمة الجنائية رغم التزامها بذلك كما ورد في ميثاق روما. ولعلنا نذكر كيف قام وزير خارجية دونالد ترامب المدعو بومبيو، بتهديد قضاة المحكمة والنيابة العامة فيها عبر تجميد أموالهم، حينما قرروا فتح تحقيق حول الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولعلنا نذكر كيف كان الرئيس الأمريكي ترامب يتهم ابن بايدن بالعمل مع الروس ضد المصلحة الأمريكية. لقد رفضت الولايات المتحدة الأمريكية المحكمة الجنائية الدولية وميثاقها واختصاصها، وإلا لرأينا اشخاصا مثل بوش الإبن والمحافظين الجدد وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني في جنباتها، ومعذّبي أبو غريب متهمين أمامها.
أما تقديم الرئيس الروسي بوتين للمحكمة الجنائية الدولية فهو خيال جامح أو أمل خائب لسبب بسيط وهو أن روسيا الإتحادية ليست عضوا في ميثاق روما، فهي لم تصادق على معاهدة روما، وبالتالي لم تدخل حيز التنفيذ طبقا لقانون المعاهدات الدولية. صحيح أنها وقعت على ميثاق روما لكن مجلسها التشريعي لم يصادق عليه بل قرر فلاديمير بوتين سحب توقيع روسيا من ميثاق روما عام 2016. تماما كما حصل مع الولايات المتحدة الأمريكية، حينما وقع ممثل بيل كلينتون في نهاية حقبته الرئاسية، على ميثاق روما، لكن الكونجرس الأمريكي لم يصادق على الإنضمام لميثاق روما فيما بعد.
كذلك الحال في أوكرانيا، فهي لم تصادق ولم تنضم لمعاهدة روما التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي هي ليست عضوا في المعاهدة المتعددة الأطراف وليست سارية عليها ولا تستفيد من مزاياها ولا تلتزم بالتزاماتها. وكأنها تدفع ثمنا لتقاعسها عن الإنضمام والمصادقة على ميثاق روما بعد ربع قرن من الزمان.
يبقى خياران، الأول يقضي بأن يقوم مجلس الأمن الدولي بالطلب من المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في العمليات الحربية الروسية على الأرض الأوكرانية. وهذا أمر يصعب تحقيقه بل يستحيل تحقيقه ولو أجمع جميع أعضاء مجلس الأمن الآخرين على الموافقة على مشروع القرار، لأن روسيا الإتحادية والصين الشعبية سيمارسان حق النقض ضد أي مشروع قرار من هذا القبيل، وقد صرحا بالفعل أنهما سيقومان بذلك . أما الخيار الآخر فهو أن تقوم النيابة العامة للمحكمة ببدء تحقيق حول الجرائم الروسية المزعومة أولا، ومن ثم توجيه لائحة إتهام لذوي الشأن الروس أو غيرهم.
من هنا يتبين أن هذه الصرخات ما هي إلا زوبعة في فنجان، وليس لها من الأثر القانوني إلا أقل القليل بل يقترب من الصفر. فبايدن لبس عضوا وزيلنسكي ليس عضوا فهما ليسا بذوي اختصاص للمطالبة بمحاكمة فلاديمير بوتين، ومجلس الأمن مغيب ومسلوب الإرادة طبقا لواضعي نصوصه عام 1945، فعلى نفسها جنت براقش.
ومن هنا تبدو هذه التصريحات النارية والعاطفية لمحاكمة فلاديمير بوتين بأنه مجرم حرب وأنه ارتكب جرائم حرب مجرد هلوسات وإرهاصات وإعلام موجه وكلام للإستهلاك المحلي، وهي تناقض القاعدة القائلة بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وحتى يعرف القارىء اختصاص المحكمة الجنائية الدولية القابعة في لاهاي فهي محصورة بأربع اختصاصات هي جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان كما قررت ذلك المادة الحامسة من ميثاق روما. وبينت المادة الثامنة جرائم الحرب تفصيلا جرائم الحرب والتي لا يتسع المقام هنا لإيرادها على نحو مفصل. ويمكن اختصارها بالقتل العمد والتعذيب والتدمير الواسع دون وجود ضرورة عسكرية. وفي ظل ما نسمع ونقرأ من أنباء أن هناك ممرات للمدنيين الهاربين واللاجئين من نير المعارك، بل يقوم الجيش الروسي بضمانها وتأمينها، وبالتالي يقوم الشك على وجود هذه الجرائم. أما قتال العسكرين فهو أمر مشروع ضمن قواعد القانون الدولي الإنساني.
كانت أوكرانيا جزءا من الإتحاد السوفيتي وولاية من ولاياته إلى أن انفصلت أو استقلت بعد انهيار الإتحاد السوفيتي في التسعينيات. وحاولت دفع الأمور بعيدا بحيث غدت مهددة للأمن القومي الروسي عبر الإنضمام لحلف الإطلنطي ونصب صواريخ على أرضها بدل اتباع سياسة حكيمة تتعلق بالحياد، مما سبب في دخول القوات الروسية للأراضي الأوكرانية. وهنا حصل التعارض مع القانون الدولي الذي لا يجيز الغزو العسكري لأية دولة مستقلة ذات سيادة رغم الخروقات المستمرة لهذا المبدأ كما حصل في الغزو الإسرائيلي لفلسطين ولبنان ومصر وسوريا . ولكن، ألا يمكن اعتبار الإنضمام لحلف الإطلنطي إعلان حرب وتهديدا حقيقيا للدولة الروسية يقتضي منها دفاعا شرعيا عن النفس، وهو أمر مشروع كما عبرت عنه المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. فالفارق جد دقيق وهو بحجم الشعرة بين الهجوم والدفاع الشرعي عن النفس. فهل كان من واجب روسيا الإتحادية أن تنتظر حتى يحصل الهجوم عليها بعد إعلان الحرب عليها، أو ما تعتبره هجوما، حتى تتمكن من أن تقوم بفعل دفاعي شرعي عن نفسها ، تماما كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في أزمة الصواريخ الكوبية قبل ستين عاما.
يبقى أن نقول أن القانون هو أحد أدوات السياسة، وأن السلم أولى من الحرب، وأن نأخذ أنفسنا بالتسامح وأن نعيش في سلام وحسن جوار. فيكفي ما عانت الأمم من ويلات وقتلى وجرحى ودمار ودماء مسفوكة مسفوحة، فلنعترف بحقوق الإنسان والعدالة والحرية، والأمم كبيرها وصغيرها على أسس متساوية، وأن القمة تتسع للكثيرمن الدول وأن لا يحتكرها أحد فهي غير قابلة للإحتكار .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى