تأملات على ضفاف لغتنا الجميلة

خالد رمضان | تربوي مصري – صلالة – سلطنة عمان
انفرَدت لغتُنا العربية الجميلة من بين لغاتِ العالمِ بالخلودِ والبقاءِ، وذلك لارتباطِها بكتابِ اللهِ تعالى الذي تكفّلَ بحفظه “إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا لهُ لحافظونَ” فكانت بذلك أمَّ اللغاتِ؛ تسحرُ القلوبَ، وتأسرُ العقول. فهذا هو الخليلُ بنُ أحمدَ الفراهيدي (العُماني) الأرومة والأصول، أو الفرهودي ذلك الرجلُ الذي جمعَ حروفَ اللغةِ العربيةِ في بيتٍ واحدٍ فقال:

صف خلقَ خودٍ كمثلِ الشمسِ إذ بزغت
يحظى الضجيعُ بها نجلاء معطار

وتأمّل تلك الأرملةَ التي كانت تحبُّ زوجَها حبّاً مسّ شغافَ قلبِها، وقتَها خشي عليها أبوها فأخذها عنده، وإذا بها وهي تجولُ في بستانِ أبيها العامرِ بألوان الفاكهةٍ وقفت أمامَ إحدى الشجيراتِ وأنشدت تقول:

إنما أبكي لزوجٍ… مسّهُ الدهرُ فماتَ
قلتُ للدهرِ بحزنٍ… أيّها الدهرُ أسأتَ

لمَ تركتَ الأبَّ والأخَّ… وبالزوجِ بدأتَ؟
فإذا بأبيها خلفها، وقد سمعها، فقال لها: ماذا تقولين يا بنيتي؟
فقالت في عبقريّةٍ صاخبةٍ يا أبي إنّما أقول:

إنّما أبكي لخوخٍ.. مسّه الدهرُ فماتَ
قلتُ للدهرِ بحزنٍ… أيّها الدهرُ أسأتَ

لِمَ تركتَ الكرْمَ والنبتَ.. وبالخوخِ بدأتَ؟
فتبسّم أبوها لها، بل وأهداها البستانَ رحمةً بها.
إنها اللغةُ التي تحملُ في طياتِها أكثر من اثنتي عشرةَ مليونَ كلمة،فلن تجدَ لها مثيلا، ولا لسحرِها تبديلا. وهذا أبو نُواس الشاعرُ العباسيُّ المعروف، وذات يومٍ دخلَ على الخليفةِ العباسي، وكان الخليفةُ يُجلِسُ بجوارِه فتاةً سمراءَ تُدعى خالصةً، ويُروى أنّ الخليفةَ كان مغرمًا بتلك الفتاة، وكانت وقتها ترتدي عقدًا من ألماظٍ وياقوت، وقد شُغِفَ بها الخليفةُ حتى أنّه لم يسمعْ لأبي نواس وهو ينشدُ قصيدتَه، ولا ما كان يُمنّي نفسَه به من كريمِ عطاءِ الخليفةِ.. انصرفَ أبو نواس ونفسُه تثورُ حقدًا على الخليفةِ، وجاريته فأنشد يقول:

لقد ضاعَ شعري على بابكم
كما ضاع درٌّ على خالصة

فسمعه أحدُ الحرّاسِ فأسرعَ إلى الخليفةِ وأخبره بالخبر، فأمر بإحضارِ أبي نواس، وقال له: ماذا قلتَ يا أبا نواس؟! فأنكر بادئ الأمر، ثم قال: إنما قلتُ يا مولاي:

لقد ضاءَ شعري على بابكم
كما ضاءَ درٌّ على خالصة

ففرح الخليفةُ أشدّ الفرحِ، وأمر له بمكافأة. فتأملْ ذلك العبقريَّ، وكيف قلب الموازينَ رأسًا على عقب، وكيف استطاع أن يجعلَ غضب الخليفةِ عليه بردًا وسلاما، بل وكافأهُ. لقد غيّر الشاعرُ حرفًا واحدًا فغير بتغييرِه كل شئ، وذلك حينما جعل العينَ همزةً، فبدلاً من (ضاع) قال:( ضاء).. إنها اللغةُ الساحرةُ المالكةُ للنفوسِ والأسماع وفقًا لحديثِ النبي – صلى الله عليه وسلم – ” إنّ من البيانِ لسحرا”.. إنها بحرٌ خضمٌّ يحوي في أعماقه ثرواتٍ من اللؤلؤِ والمرجانِ، ولا يصلُ إلى كنوزه السحيقةِ إلا من صفت قريحتُه، وسمت سريرتُه فأقبلَ عليها إقبالَ ذي الغُلةِ الصادي على الماء يعبّه عبّا.
إن ما تمرّ به لغتنا فقط كبواتٌ طفيفةٌ، وعثراتٌ خفيفةٌ لا تودي بوفاتها، ولا تحكم بمماتها، إنما هي كهذي الفقاقيعِ التي تظهرُ على صفحاتِ المياهِ، أو أمواجِ البحارِ سرعانَ ما تختفي ولا يبقى منها شئٌ وتصبحُ أثرًا بعد عين.
حفظ الله لغتنا، وعلماءنا وقادتنا وأوطاننا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى