الصورولوجيا وتشكيل الثنائيات السردية في رواية ” أيام بغداد ” لـ” خليل الجيزاوي “

د. محمد نجيب التلاوي | عميد كلية الآداب جامعة المنيا الأسبق

تباينت الرُؤى حول بغداد – درة الحضارة العربية – فبانيها (أبو جعفر المنصور) أرادها مدينة للسلام، بينما نجدُ نبوءة العرّافين تراها (مدينة منذورة للدم والنار)(1)، وتراوحت أحداث تاريخ بغداد بين رغبة منشئها ونبوءة العرّافين، أما الكاتب الروائي خليل الجيزاوي(2) فقد اختارَ أن يكتبَ أحداث روايته (أيام بغداد)(3) وسط أتون الدم والنار ومع نبوءة العرّافين وقت الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين، وجعل طالبًا مصريًا طموحًا بطلا لروايته حيث رَغِبَ البطلُ في العمل الصيفي بالعراق؛ ليساعدَ نفسه على أعباء الدراسة بالجامعة، ولا سيما بعد اكتشافه أن العمل بمصر لا يحقق طموحاته في توفير ما ينبغي أن يدخرَهُ لمصروفات عام جامعي يقضيه في زحام القاهرة بعيدًا عن قريته، واستباقًا فالانتقال إلى العراق، قد أتاحَ لكاتبنا عبر بطله أن يُقدمَ لنا الصورولوجيا العراقية عبر تنقل البطل بين المدن العراقية، حتى استقرَ به المقام والاستقرار في مدينة النجف بعبقها الديني الذي وَصَلَ إلى حَدِّ التقديس عند طائفةِ الشيعةِ، واستطاعَ (الجيزاوي) أن يُضْفِي من خياله التركيبي، ومن خبراته الإبداعية، وقدراته السردية تجسيدًا واقعيًا يُخصّبُ به مخيلة المُتلقي؛ ليرفعَ عنده أفق التوقعات بمصداقية ما يسرده بلغة روائية شائقة تُعيدنا إلى جماليات الرواية الواقعية، على الرغم من زحام واقعنا الإبداعي بزخم السرديات الحداثية، وما بعد الحداثية التي أتابعُهَا، وأفرحُ بالتجريب فيها، والحراك إليها من السرديات الورقية، وصولا إلى السرديات الرقمية، إلا أن جماليات الرواية الواقعية تتجددُ بقدرات مبدعيها، وكأنها تمتلكُ زوائد وحشية تُحققُ لها رغبة التميز، فالخلود شأنها شأن قصيدتنا العمودية الغنائية العَصِيّة على الفناء.

بداية عليّ أن اعترفَ باستمتاعي بقراءة هذه الرواية، وأنني التهمتها التهامًا في جلستين، وهو أمر دفعني إلى البحثِ عن جماليات البنية السردية وسر جاذبيتها، واستعنتُ بتطبيقٍ مُباشر للفلسفة البنيوية ومنهجيتها القائمة على الثنائيات الضدية(4)، ووجدتُ أن نجاحَ الكاتب في توزيع أضوائه السرية، عبر ثنائيات ضدية بنائية، يُمثلُ أبرز أسرار إنجاح هذه الرواية.

ثنائية التحفيز الجمالي والمنطقي

وأول هذه الثنائيات نجاح (الجيزاوي) في أن يجعلَ العلاقة بين ثنائية التحفيز motivation))(5) المنطقي والآخر الجمالي في علاقة تكاملية عبر مظهرية الثنائية الضدية، وذلك بإسقاط إيجابي لمحور الاختيار على محور التركيب، كما قال (جاكبسون).

في محور التحفيز المنطقي القائم على ارتباط السبب بالنتيجة، ربط (الجيزاوي) بين ما هو زمني بما هو سببي، ومع هذا الربط أصبحت العناية بالبنية المنطقية الواقعية طبيعية، والتخلي عنها سيضعفُ جماليات السرد الروائي الواقعي بوسائله الفنية الإيهامية التي تتوازى – على نحو ما – مع حقائق الواقع، أما محور التحفيز الجمالي فمعنيّ بقدرة الخيال المُركب على تجسيد الصور الروائية، بما يتناسبُ مع البنية العامة للحكي.

وتنفيذ التحفيز بمحوريه جاء من خلال بطل أحادي للرواية، كل الأحداث الروائية تبدأ منه أو تنتهي إليه، ومفردات

الأحداث جاءت بالعلاقة التكاملية للتحفيزين معًا، فقلة خبرة البطل/ الطالب بمرحلته السنيّة التي لم تتجاوزْ المرحلة الجامعية بعد، كانت سببًا في معاناة البحث عن عمل مناسب في مصر، ثم في العراق، في مصر عمل في:

(ملهى ليلي – محل كشري – مقهى شعبي – محل فول وطعمية)، وفي العراق تحرك بين المدن العراقية بدءًا بسامراء وانتهاء بمدينة النجف، ولم يجدْ عملا حتى عمل مع صديق الرحلة (يوسف) حدادًا مُسلحًا لأسبوع واحد فقط ومرض، ثم انتقل إلى ابن خالته وكان محظوظًا أن يبدأ عمله مديرًا للفندق لحين عودة ابن خالته من القاهرة بسبب رحلة زواجه، وإذا كانت المرحلة السنيّة للبطل وخبرته المنقوصة قد حددت بالسبب والنتيجة في أفعال البطل، وردود أفعاله داخل الرواية تنفيذًا للتحفيز المنطقي، فإن (الجيزاوي) قد جعلَ التحفيزَ الجمالي امتدادًا للتحفيز المنطقي عبر علاقة تكاملية، حيث اغتنمَ الكاتبُ فرصة تحركات البطل بحثًا عن عملٍ مناسب؛ ليقدمَ لنا مجموعة مائزة من لقطات تصويرية سردية تُجسدُ – بشكلٍ محدودٍ – معاناة شباب مصر في الداخل والخارج، وصعوبة الحصول على عملٍ في مصر والعراق، وكانت الصورةُ الجماليةُ السرديةُ التي صَدَّرَ بها روايته شاهدةً على معاناة المصريين، وهم يتدافعون في طوابير الانتظار الطويلة في حَرِّ يونيو، وفي تدافعهم إلى السفينة بزحام ظنَّ معه أن أكثر شباب مصر يَفِرُّون من نارها، إلى نار الغربة المجهولة بحثًا عن عملٍ، في غياهب الغربة والمجهول، ومع بصيص من آمال الراحة، ووهم الثراء السريع.

الصورولوجيا العراقية

وفي العراق يستكملُ لوحاته الصورولوجية الواصفة(6) للمجتمع العراقي بما فيه من معاناة للمصريين في العراق، ومعاناة العراقيين من دكتاتورية صدامية دموية، ومن حرب مع إيران لا يعرفون نهايتها، ومن هذه الصور السردية الجمالية المؤثرة رَدّ فعل البطل، عندما قُتِلَ زميله المصري الذي صَرَعَهُ الحُبُّ، عندما تعلّقَ بعراقية، فقتله زوجها العراقي عندما عاد خلسة من جبهة القتال، وجاءت هذه الصورة السردية مُفعمةً بأحاسيس ومشاعر البطل ورفقائه من المصريين بالعراق، والصورة الأخرى انتقائية مُماثلة اختارها الكاتب هذه المَرَّة لرصد معاناة العراقيين من الحرب مع إيران، فيُصورُ لنا الفجيعة والحزن الذي ألَّمَ بهم عندما علموا باستشهاد (كاظم) ابن صاحب الفندق وأثر الخبر على أخته (ضُحَى) وعلى أهله، ووالده الذي تجاسر؛ ليخفي مشاعره وهو يُوقعُ على استلام جثة ابنه، والضابط يهنئه باستشهاد ابنه في حرب الكرامة مع القائد الصنديد صدام حسين! في صورةٍ تحملُ مُفارقةً مُفجعةً في الأحاسيس والمشاعر التي عاشها العراقيون آنذاك.

وكان يمكنُ للصورولوجيا أن تكونَ أكثر رحابة وتغلغلا في أعماق المجتمع العراقي، إلا أن الكاتبَ فَضَّلَ أن يُشَرْنِقَ البطلَ بالتزام وظيفي داخل الفندق، ولم يجعلْ للبطلِ صداقات وزمالات عراقية، حتى أنه لمّا أُتِيحَ له أن يترددَ على بيت صاحب الفندق، كان تردده بضوابط وجلساته مع صاحب الفندق، ومع ابنته بكثير من محاذير الالتزام.

ثنائية البنية الرأسية والأفقية

أما الثنائية البنائية الثانية، فتتمثلُ في الإشباع الجمالي والتقني للخطين البنائيين الأفقي والرأسي، أما الخط الرأسي فمعني بتسلسل الأحداث الروائية وترابطها، ويأتي الخط الأفقي؛ ليربطَ الأحداث بعمق المجتمع وممارساته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، ويُصبحُ التكاملُ بينهما إنجاحًا للإستراتيجية السردية، ويُظهرُ قدراتها

الجمالية، ومن ناحية أخرى سَيُحددُ ردّ فعل المُتلقي، هل سيكون مجرد تواصل لانقرائية سردية، أم سيكون خاصية

تفاعل مع جماليات الإستراتيجية السردية وممكناتها البنائية؟!

في الخط الرأسي المستأثر بعرض الأحداث الروائية وتتابعها نجح (الجيزاوي) في تقديم أحداثه الروائية في بنية دائرية، بدأت من طالب جامعي يبحثُ عن عمل في مصر، ثم في العراق، ثم تنتهي الرواية بعودة البطل إلي كليته ليؤدي امتحاناته؛ ليردَ النهاية إلى البداية.

وتمتعت الرواية ببداية شائقة مُشوقة، عندما صَدَّرَ روايته بلوحةٍ واصفة مُجسدة لمعاناة المصريين، التقطها من ميناء السويس في حَرِّ يونيو القائظ، مع زحام وتدافع المسافرين إلى جوف السفينة التي ابتلعتهم، وَأَخَّرَ (الجيزاوي) فاعل السرد، ولم يفصحْ عن هوية بطله إلا بعد أن أشبعَ اللوحة الموصوفة بحيوية الحياة والحركة والأحاسيس والمشاعر الراصدة للخوف والألم والمعاناة، ولم يفصحْ عن بطله إلا وهو ينحشرُ حشرًا داخل السفينة التي صعدَ إلى سطحها وافترشه؛ لأنه الأرخص، ثم يأتي بنهاية أكثر تشويقًا؛ لأنه عَمِدَ إلى تقديم نهاية مفتوحة، تُجسدُ حيرة البطل في رغبة العودة إلى العراق، وهي رغبة محفوفة بكثير من المخاوف والمحاذير.

ويُعززُ (الجيزاوي) إنجاحه للخط الرأسي عندما يَحرصُ على ربط التحفيز المنطقي بالآخر الجمالي، ويُؤمِنُ سرده الروائي بصوغ فني سلس جاء مدعومًا ببعض العبارات الجمالية التي جاءت دون تَكلفٍ نَحْوَ: (يَغْسِلُ حُزْنَهُ بِمَاءِ الوضوءِ – اخْسَرْ ما شئتَ، لكن لا تحاول أن تَخْسَرَ قلبًا يفعلُ الكثيرَ لإسعادك)، ومن ناحية أخرى طَعَّمَ الكاتب سرده بالشعر والأغاني، وكأنه توثيق لخصوصية الفضاء الروائي بالعراق، ونجحَ في توزيع أضوائه السردية على شخوصه وعلى الفضاء الروائي بلغةٍ تراوحت بينَ الوصفِ والحوارِ الخارجي والمناجاة، وهذا التنغيمُ اللغوي يُمثلُ إيقاعًا سرديًا جاذبًا؛ لأنه يُجددُ النشاط التخيلي للمُتلقي؛ ولأن الحوارَ يُحْيِي الحدث الروائي ويُجسدُهُ، والوصفُ يُمثلُ عُمْقًا تأثيريًا يُخَصِّبُ مُخيلة المتلقي، وتكررَ هذا الإيقاع اللغوي في وحداته السردية الكبرى في أجزاء الرواية، فمثلا عندما صَعَدَ البطلُ إلى سطحِ السفينةِ، حتى قدمه الكاتب في لوحةٍ واصفة، أتبعها بحوارٍ مع صديق السفر (يوسف)، ثم ينامُ (يوسف) من التعبِ والإعياءِ، فتتهيأ الفرصة للبطل؛ ليخلوَ إلى ذاته، ويُطلقُ العنانَ لحديثِ منولوجي ينفتحُ من خلاله باللاوعي على استحضار ذكريات مؤلمة، فنفهمُ لماذا اضطرَ بطلنا إلى السفر؟! نعم تنمو شخوصه بنمو أحداثه الروائية.

واللافت للنظر أن (الجيزاوي) يُؤمِنُ وحداته السردية بوصفٍ مُقتضبٍ يُمكنُ أن نسميه بـــــ (التهميش الدلالي)، وهو أحد أسرار التحفيز الإبداعي المُساعد على ترابط السردية وانسجام وحداتها؛ ولأن التهميشَ صنعةٌ روائيةٌ تُؤمِنُ الربط بين الوحدات السردية بالوصف القصير المناسب، أما الخط الأفقي الداعم للمسار الرأسي، فجاءَ في لوحات الوصف التقريري، والوصف التسجيلي، والوصف التصويري والآخر الجمالي، وهي لوحاتٌ مُسخرةٌ؛ لتجسيد الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية في الفضاء الروائي وزمانه وفواعله ومفعولاته بالأحداث التي استأثرَ بها المسار الرأسي، وعلى امتداد الرواية حرصَ الكاتبُ على تمديد الخط الأفقي في عمقِ المجتمعين المصري والعراقي بمشاهد ولوحات مُصاحبة للأحداث الروائية تحقيقًا لرؤية تكاملية لازبة بين ثنائيةِ الخطين الأفقي والرأسي.

وإذا كان الكاتبُ قد نجحَ في بناءِ خطه الرأسي، فإنه لم يبلغْ النجاحَ نفسه في خطه الأفقي، وعلى الرغم من أن الكاتبَ قد صَوَّرَ بعض اللوحات الواصفة لمعاناة شباب مصر في مصر والعراق من خلال البطل، إلا أنه لم يتعمقْ

في المشاهد المتباينة لمعاناة المصريين في الثمانينيات؛ لأن تركيزه قد انصبَّ على البطل فوصف طبيعة عمله، ولم يصفْ العمق الاجتماعي للفضاء الروائي وبخاصة في العراق؛ لأنه حَجَّمَ فرصة الصورولوجيا، وحبس بطله داخل الفندق؛ ليتفرغَ لوصف طبيعة عمله ونجاحاته الإدارية، ولوصف مقتضب للعاطفة الطارئة على البطل مع بناته الثوالث (كريمة – سوزان – ضُحَى)، وإن كانت (ضُحَى) قد استأثرت بالنصيب الأوفر من فكره ومشاعره؛ لأنها جمعت بين آماله العاطفية الظمأى، وتطلعاته الوظيفية بثراء محفوف بتبعات الحرب العراقية الإيرانية ومخاوفها، لم يلتحمْ بطلنا بأعماق المجتمع العراقي وأسراره التي يتطلعُ إليها المُتلقي تغذية لفرصة الصورولوجيا، حتى أن المعلومات التي ورد ذكرها عن بعض الأماكن والمساجد العراقية لم يبيؤها في لُحْمَةِ السرد الروائي؛ لأنه اصطنعَ لها حوارات استزرعها – قسرًا – في السَرْدِ الروائي مثل فيضِ المعلومات التي صَرَّحَ بها الحاج صاحب الفندق، وهو مع البطل في رحلة سفر، وإذا بنا نجدُ الحاج البسيط، وقد تحول إلى مؤرخ وموثق لتاريخ بعض الأماكن العراقية التي يَرِدُ ذكرها، والأعجبُ أن يكشفَ الرجل عن قدرات ثقافية، فيحدثنا عن أسطورة عشتار والبابليين، وأسطورة إبليس والسلام و…!!، وكلها معلومات مُسيجة ببرودة التقريرية العلمية، وأظن أن تقديمها على هذا النحو يُمثلُ فعل تعويض عن حبس البطل داخل الفندق، ولم يمكننا الراوي من معرفة أسرار احتفالات الشيعة في النجف، وكيف تختلطُ ضوابط العبادة بهرج المعصية، وحتى عندما عادَ البطلُ إلى مصر يُقدمُ معلومات عن حكاية الألف مسكن، لم يستطعْ عضونة المعلومات في أحداث سرده الروائي، وبدت وكأنها نشاز في إيقاعه السردي، تمامًا كما بالغ في تكرار نصوص مطولة للأغاني والأشعار، والمعلومات العلمية الموثقة عن بعض المساجد العراقية، أما الحدث العراقي الأبرز عن الحرب العراقية الإيرانية هو الذي استطاع الراوي أن يُجسدَهُ في قتل زميله المصري (عماد) الذي قتله الحب، وفي لوحة أخرى تصفُ نبأ استشهاد (كاظم) ابن صاحب الفندق، اللوحتان بسردهما الدقيق استثناء؛ لأنهما نتاج طبيعي لتسلسل الأحداث الروائية المتتابعة بانسجام، ولم نشعرْ باستزراعهما القسري في السرد الروائي.

الراوي وثنائية الداخل والخارج

الثنائية الضدية الثالثة تتمثلُ في محتوى (وجهة النظر)(7) تلك التي تُلْقِي بظلال تأثيرية على شكل الرواية، وتشكيلاتها البنائية الداخلية؛ لأن وجهةَ النظرِ معنية بتحديد موقع الراوي أو الرواة في السردية الروائية، و(الجيزاوي) في روايته (أيام بغداد) ترك أنواع الرواة (من الأمام – من الخلف – تعدد الرواة)، واكتفى بثنائية تمثلت في الراوي من الخارج العارف بكل شيء، والراوي المُشارك من الداخل، وتناوب الراويان على السرد، وهو أَمْرٌ وَسَّعَ لثنائية الوعي واللاوعي، ومن ثَمَّ تمتعَ السردُ الروائي بمستويين للوعي، فانعكسَ بجماليات بنائية عَمَّقَتْ دلالات السرد الروائي، أما السارد العليم من الخارج، فجاءَ مُمثلا لمستوى الوعي السردي الذي يعرضُ بالمحاكاة الفنية الأحداث الروائية المُوازية للواقع الفعلي، والمُطَعَمَّة بخيالٍ تركيبي خصب، وكان الراوي الخارجي مُحايدًا، واحتفظَ بمسافةٍ مُناسبة بين الوجهِ والقناعِ، فقدَّمَ بطله مأزومًا مهمومًا يُعَانِي البحثَ عن عملٍ صيفي، يُساعده على تبعات الإنفاق على دراسته الجامعية، فاستقطبَ المُتلقي؛ ليتعاطفَ مع البطلِ في الجزءِ الأولِ من الروايةِ، وفي الجزءِ الثاني من فصول الرواية ضاقت المسافة بين الوجهِ والقناعِ، فتعاطف الراوي مع بطله، وكال له النجاحات وعددها، وتسربت خيوط الرومانسية المعروقة إلى الراوي، فَحَوَّلَ بطله/ الطالب الجامعي الصغير إلى إداري بارع، وإلى شاب تقي وورع، وعادل ونشط، وقد طور للفندق، وهذه الصفات والنجاحات جعلته أيقونة حُبّ، فتطلعَ إليه الجميع: العاملون في الفندقِ – أصدقاؤه – صاحب الفندق – بنات الاستقبال كريمة وسوزان، ثم هو معلم ناجح لضُحَى ابنة الحاج – صاحب الفندق – على الرغم من أنه طالب جامعي مثلها يسبقها بسنتين فقط!، ثم هو أمين مع ابن خالته، وحافظ له على وظيفته بالفندق؛ لأنه صاحب فضل عليه، ثم هو متفوق في دراسته على الرغم من انتظامه في الدراسة عند منتصف العام، وهو مُحبُّ لأهله وبارّ بأمه ورفيق بزملائه؛ ولهذا كله أعتقدُ أن ظلالا رومانسية تسربت إلى الراوي الخارجي وإذا بمعالجته الواقعية في الرواية، قد تبدلت إلى رومانسية؛ لأنه قَدَّمَ بطلَهُ في صورةٍ أكثر من نموذجية، ترتفعُ فوق مرحلته السنيّة، وترتفعُ فوق مُعوقات الواقع المصري العراقي معًا آنذاك.

وبتوزيع جيد للأضواء السردية عَمِلَ (الجيزاوي) على التناوب المُثمر بين الراوي الخارجي، والراوي الداخلي المُشارك في علاقة سردية تبادلية مَكَنَّتْ لمستويين من الوعي داخل الرواية، فالراوي المُشارك يظهرُ كلما خلى البطل إلى نفسه؛ ليُديرَ حوارًا داخليًا منولوجيًا تتفجرُ معه استدعاءات للماضي القريب بتفعيل اللاوعي؛ وليمكنَ المُتلقي من الاطلاع على أعماق البطل ودواخله؛ لتكتملَ صورة البطل في مُخيلة المُتلقي، على ظهر السفينة استدعى معاناته في البحث عن عملٍ مُناسب في مصر، ولمَّا خلى إلى نفسه في حجرته داخل الفندق استحضرَ (كريمة) وبادلها الأحضان والقبلات في رؤية حلمية تعكسُ أعماق مشاعره العاطفية الدفينة، وعندما عَادَ إلى كليته بمصر ينفتحُ باللاوعي على ذكرياته القريبة بالعراق، فيرتشفُ على مهل لذاذات الأحاسيس والمشاعر مع جميلاته العراقيات وبخاصة (ضُحَى)، هذه الأحاسيس العذبة من مخزون اللاوعي، قد قفزت إلى عتبات النص، فيخصهن بالإهداء:

“إلى ضُحَى وكريمة وسوزان، أجمل بنات العراق، وأحلى أيام العمر”، وكأنَّ المسافةَ بين الوجهِ والقناعِ قد ذابتْ، فأصبحَ القناعُ مُطابقًا للوجه حيث لا مسافة بينهما.

إن رواية واقعية بهذا التركيب الفني المائز، بثنائياتها الضدية الجمالية؛ لجديرة بأن نُعجبَ بها، وجديرة بأن نقرأها ونستمتع بها، ونوسّع لها في نوافذنا الإعلامية؛ لأن صاحبها اعتنى بفترةٍ مُهمة من تاريخنا العربي الحديث، واستطاعَ أن يُحققَ بهذه الرواية الوظيفتين الجمالية والنفعية معًا.

هوامش الدراسة:

1 ـــــ راجع: معجم البلدان، ياقوت الحموي، ص 458- 460.

2 ــــ الروائي خليل الجيزاوي قَدَّمَ ست روايات بداية من عام 2000 إلى 2019، ومن رواياته: (يوميات مدرس البنات – أحلام العايشة – الألاضيش – مواقيت الصمت – سيرة بني صالح – أيام بغداد)، وله ثلاث مجموعات قصصية: (نشيد الخلاص – أولاد الأفاعي – حبل الوداد).

3 ــــــ رواية (أيام بغداد)، خليل الجيزاوي، دار المعارف للنشر والتوزيع بالقاهرة 2019.

4 ــــــ تقوم الفلسفة البنيوية على فكر الثنائيات الضدية التي تمثلُ أساسيات الحراك الكوني، والممارسات الدنيوية، وقد تحولت هذه الفلسفة البنيوية إلى منهجية تطبيقية في تحليل النصوص الأدبية بتطبيقات مُتباينة للثنائيات الضدية نحو البنية العميقة والبنية السطحية عند تشومسكي، وجاكبسون صاحب الثنائيات الصوتية المتعارضة بين حروف العلة والحروف الصامتة، وليفي شتراوس الذي اعتمدَ في تحليله لأسطورة أوديب على التمثيل للبعد الإنثربولوجي اعتمادًا على ثنائية التقسيم الرأسي والأفقي.

5 ـــــ التحفيز Motivation مصطلح ظهر مع دراسة السرديات، راجع: معجم المصطلحات الأدبية الحديثة لمحمد عناني، الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان، ط2 1997.

6 ــــ الصورولوجيا مصطلح دراسة الصورة في مجتمع مُغاير، وهو من مصطلحات الأدب المقارن.

7 ـــــ وجهة النظر مصطلح قال به (هنري جيمس) يتصل بتحديد موقع الراوي وتنوعه أو تعدده في الرواية تفصيلا، ويمكن مراجعة كتاب (وجهة النظر في روايات الأصوات العربية)، د. محمد نجيب التلاوي، منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق 2000، ص 12 وما بعدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى