رحل ابني باكرًا، وتركني على ناصية الحزن

محمد المحسن | إعلامي وأديب تونسي

ذات زمن سافر وكافر ليس ببعيد رحل إبني وتركني وحيدا كزيتونىة أحرقها الصقيع..كنخلة بلا ظل.. واليوم.. وقد نال مني الحزن في نخاع العظم..بي حنين عاصف إليه،ذاك البرعم الباسق الذي انتهى قبرا واجما،زاده البياض حيادا.. أين منّي وجه – غسان – في مثل ليل كهذا.. بسمته العذبة..بسمته الأصفى من الصفاء.. مواساته لي حين يعتصرني الأسى.. أين منّي حضنه الدافئ وهو يهدهدني حين يصهل الخراب في داخلي..؟
لم أعرف اليتم يوم غاص أبي الرحيم إلى التراب..


واليوم تشهد كائناتي وأشيائي بعد وفاة إبني أنّي اليتيم.. -شيخ- تجاوز الستين بخمس عجاف.. ولكنّي أحتاج إبني بكل ما في النّفس من شجن وحيرة وغضب عاصف.. واليوم تحلّقوا في كل بؤرة وحضيض لينهشوا لحمي وحروف إسمي .. آه يا – غسان – كيف سمحت لنفسي بتسليمك إلى التراب..؟
حنيني شائك ومتشعّب مثل حزني تماما،وكياني مكتظّ بالوجوه والذوات.. لقد ّ عضّني الدّهر بنابه الأزرق المتوحّش- ونالت المواجع مني في نخاع العظم..ولم يعد يذكرني أحد..غير الطريق..ووحده صار يكفي..“أنا لا أمدّ يدي لغير الله..فلست شحاذا أو متسولا..رغم المصاعب،المتاعب والمواجع التي تنخر-دون رحمة-جسدي..سيما بعد رحيل نجلي إلى الماوراء،حيث نهر الآبدية ودموع بني البشر أجمعين..
لكن.. ما يحزّ شغاف القلب ويزيدني إيلاما،ظلم ذوي القربى و-نفاق-بعض الأصدقاء،فضلا عن-نكران فضل-لكتاب كثر ومبدعين أكثر كتبت عنهم بحبر الروح ودم القصيدة..لمعت أسماؤهم-بحبري-لكنهم تركوني وحيدا في عين العاصفة..ومضَوا دون تحايا وداع..ولا عناق وجيع يترك القلبَ أعمى..ولا مواساة ترتق فتقي..وترسل إلى تضاعيف النفس رسائل تشحذ العزائم..وتشدّ آزري في مثل زمن لئيم كهذا.. واليوم. أيضا. صرت وحدي..لا رفيق ولا صديق،غير الطريق،ووحده صار يكفي..ولارغبة لي في الدّموع..
وإذن؟
ماذا بقي لي إذا،في مثل زمن كهذا مفروش بالرحيل سوى قصيدة،أراها -تليق بسكينته في قبره الرحيم-أهديها لروحه الطاهرة..في نومها الأبدي..علها تمسح عني دموع الأسى والوَجَع :
غسان:
كنت أجمل الفتيان
في تاريخ بلادي
كنت أطول الباسقات
في أرض أجدادي
كنت إذا تمشي..
ترافقك السنابل
وزهرة اللوز وكل الفصول..
وتتبعك غزلان و أيائل ..
غسان..
يا مهجة الروح ..
يا وجعي ..
ويا وجع القصيدة..
حين تلمسها الأنامل
ترى؟
هل ترى..
ما أرى..؟
نجم هوى..فبكته الحقول
وأدمعت كل السنابل..
///
بيديّ سلّمت -غسان-للترابْ
ونثرت بعض الدمع بين مشيّعيه
كي أبرّر للحياة خيانتي
بيديّ أطعمت الترابَ -كبدي-
باكيا.نادبا..
لكني متمسكا بديانتي.
يا هول ماحدث..
انتهيت من التعازي
والتهاني بالنجاة من الغيابْ
وتركته في حبسه الطينيّ
مفردا ومطفئا
كأنّي لست والده الرحيم وزنده
أربعة وعشرون عاما
وهو يشدو لي
ويخفيني عن الأحزان تحت جناحه
وأنا أجاهد منذ كانت خصومه
الأيام اللئيمة..
والغربة
والإغتراب..
والحظّ الغرابْ
معذرة-غسان-
إن واريتك قسر الإرادة..
طينا رحيما..
وركاما من التراب..
///
لم يملأ الطين عيونك الجميلة-يا غسان–
من عشقها ملأته
بك تكتحل الأرض
ينبت زيتونهـــــــا
لن يضغط الطين
إلا كما رحم الأمّ
طين رحيم..
كربّ رحيم
لا صرفا كوجهك
كل الحدائق المزهرة..
وكل حنان القمر
من أين هذي الرشاقة للقدر الضخم
أم أنتَ مما صَبَرتَ
نحتّ القدر
ثب من سباتك
كأنّك تذلّل ظهر الزمان
بعيونك الجميلة الأرض عشقا
تدور بها مشرقا
في غياهب الكون
ولا صبر لوالدك أكثر مما صبر..
///
مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات..
ومقصوص..
كجناح أبيك،هي المفردات
فكيف يغني المغني؟
وقد ملأ الدمع كل الدواه..
وماذا سأكتب يا بني؟
وموتك ألغى جميع اللغات..
“أحملك،يا ولدي،فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة تونسية ..
وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي
وألثم قمصانك العاطرات..
ورسمك فوق جواز السفر
وأصرخ مثل المجانين وحدي
وكل الوجوه أمامي نحاس
وكل العيون أمامي حجر
فكيف أقاوم سيف الزمان؟
وسيفي انكسر..”
///
أيا غسان..
لو كان للموت طفل..
لأدرك ما هو موت البنين
ولو كان للموت عقل..
سألناه كيف يفسر موت البلابل والياسمين
ولو كان للموت قلب ..
تردد في قتل أولادنا الطيبين.
فيا قرة العين ..
كيف وجدت الحياة هناك؟
فهل ستفكر فينا قليلا؟
وترجع في آخر الصيف
حتى نراك..؟
///
إنّها الريح إذن ..
ولا لوم علي حين أبكي إبني..
أو أحنّ إلى مهجة الليل فيه
أنا أُبكي بصمت في هدأة الليل..
حين يهدهدني الشوق إليه..
أنا أبكي بصمت
عينين عسليتين يغمرهما التراب
ولا عتاب..
ولا عقاب..
لمن يبكي مثلي
في مثل ليل كهذا
لكَم تكرهني الحياة ولم أفعل لها شيئا
سوى ما يفعل بمن تاه
في غياهب الصحراء السراب
وأحيانا أنا أبكي
على أمي التي أنجبتني..
ذات شتاء
يصهل في ليله الخراب
أو أبحث في جيبي عن الدنيا..
التي عذبتني..
أصرخ في هدأة الصمت :
أماه..أستغيث..
ولا جواب
ولا أبرز كفّي للدنيا
كي لا تراني..
أجن
“خائن مثلي تماما..
من لم يجنّْ”
///
“سيّدي
هل بوسعي الجلوس إليك قليلا
سأنثر حولك
بعض النصوص على عجل
وأعود إلى معهدي
ابتسمتُ لها وبكى جسدي
قدمتْ من أقاصي الخرافةِ،من شهوتي
من مخابر آلهة الفنّ
واقتحمت وحدتي
وأنا لست حبلا
تعلّق فيّ البلاد مفاتنها في النهار
وتتركني ذاهلا في المساءْ
وأنا لست ربّا غبيّا
لكي أطرد امرأة من غيومي
ولستُ مدرّس شعر
ولستُ طبيب نساءْ
إنّما هذه الطفلة المتلعثمة الخائفةْ
هذه الوردة النازفةْ
هذه العاصفةْ
لا تعي ما أصاب المغنّي
وكرّاسها المدرسيّ على ركبتيها يصلّي
ويدفعني للصلاةْ..”
لكنها..
بكَت
ثم بكيت..
حين قلت لها :
غسان مات..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى