أطفال غزة في الحافلة

زياد شليوط

صعد إلى حافلة الرّكاب، التي لم يصعد إليها منذ سنوات، وكاد أن يتعثر وهو يصعد سلم الحافلة الداخلي، وهذه من علامات ابتعاده عن ركوب الحافلات، منذ أن امتلك سيارة خاصة به، وصار يتنقل بها من بلدة إلى أخرى، وفق ما يقتضي عمله. وقف لثوان بعدما نجح في صعود درج الحافلة يتأمل الركاب، اقترب من مقعد تجلس عليه سيدة وبجانبها مكان فارغ، سألها:
هل المقعد شاغر أم مشغول؟
هيك وهيك!
كيف؟
يعني نعم ولا.
فرد عليها وهو يأخذ مكانه إلى جانبها:
اذن أجلس في مكان.. لا.
تركها بحَيرَةٍ حيث أعجَزَها اختيارُهُ عن معارضتِه.
بعدما أخذ مكانه وقبل أن يتّخذَ شكل الجلسة المريحة بالنسبة له، فاجأته بالقول:
كيف تقبل على نفسك أن تحتلَّ مكانهم؟
ومن يكونون؟ سأل ببرود، وهو يواصل تركيز جلسته.
أطفال غزة المتعبون..
توقف عن تحريك جسده وجمُدَ في وضعه الذي كان عليه، ثم ألقى بجسده على المقعد كيفما كان، وهو ينظر بعينين واسعتين إلى جارته في المقعد.
من هم؟ هل سمعتُ جيدا؟ أطفال غزة قلتِ؟ سألها متلعثما، مشتّت التفكير.
نعم.. ألا تسمع جيدا؟
بلى أسمع، ولكن يُهيّاُ لي أني لا أفهم! قال بشيء من السخرية وشيء من الجدية.
أشفقت عليه وأخذت تشرح له بأناة وصبر كبيرين:
أطفال غزة يا محترم.. إني غارقة بالتفكير بهم وبمعاناتهم. خاصة أولئك المصابون بالهلع والخوف والاضطراب النفسي، جراء ما مرّ عليهم في العدوان الأخير على غزة، وما رأوه بأعينهم من غارات جوية دمرت بيوتهم وقتلت أبناء عائلاتهم. ونحن، أي الجمعية التي أعمل بها، نتواصل مع المعالجين الذين يرافقونهم ويقدمون لهم العلاج بأنواع الفنون المختلفة.
نعم، هذا أمر فظيع. قاطعها متعاطفا ومتضامنا وأردف: لكن ما علاقة ذلك مع جلوسي على المقعد؟
يا أستاذ يا محترم. أجابته وقد بدأ صبرها ينفذ: أنا كنت غارقة في التفكير بهؤلاء الأطفال، وأراهم يجلسون إلى جانبي، وكنت أهمّ بمحادثتهم والتخفيف عنهم، فجئت حضرتك وأفزعتهم وهربوا، لأن عقدة العدوان من كل غريب وكبير الحجم ما زالت ترافقهم.
نهض عن مقعده وسار نحو المقاعد الخلفية، وهو يتمتم: لا شكّ بأنها معتوهة.
وفيما هو يبتعد، أدارت رأسها وخاطبته قائلة: الحمد لله على أنك عدت إلى رشدك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى