تلف النوم

د. أيمن يوسف – مصر
اخصائي الأمراض العصبية والصحة النفسية والتأهيل
أخصائي متلازمة الفيبروميالجيا وال “إم إي”

لم يعد خافيا على العامة قبل الخاصة في عالمنا اليوم أن لتحولات أنماط النوم وجودته وكفاءته اثارا سلبية عديدة على الصحة العامة وعلى السلوك البشري وعلى الإنتاجية في العمل والتحصيل الدراسي والعلاقات الاجتماعية وكافة مناحي الحياة الأخرى، بل أصبحت اغلب المدارس الطبية الحديثة تذهب الى ان النوم هو مركز كافة امراض العصر وهو بداية التعافي وعلاج اي مرض مزمن او عارض يمر به الانسان، فلم تعد النظرة السطحية القديمة لوظيفة النوم لدى الانسان تنصب على وظيفته السيكولوجية والشعور بالراحة او تجديد الطاقة فقط؛ بل كشفت بيولوجية النوم عن اسراره في كونه حجر الزاوية لدى جسد الانسان في صناعة البروتينات البنائية وإزالة البروتينات الضارة غير المرغوب بها، وهو جسر التآلف الحيوي بين الأجهزة الرئيسية والغدد الصماء ومراكز بناء الهرمونات والتمثيل الغذائي لكافة العناصر التي يحتاجها الجسم، وهو مفتاح قدرة المناعة وكفاءتها في التعامل مع كل ما هو منوط اليها من اجل الدفاع عن الجسم وضمان اتزانه واستمراره.

تأخذ دورة النوم في الدماغ فترة من 90 الى 120 دقيقة ومن ثم تتكرر تلك الدورة عدة مرات خلال ساعات النوم، وتنقسم كل دورة الى مرحلتين رئيسيتين هما مرحلة النوم غير الريمي NON REM SLEEP والتي يتم التعبير عنها بمرحلة حركة العين غير السريعة، ومرحلة النوم الريمي REM SLEEP ويتم التعبير عنها بمرحلة العين السريعة، وعادة ما يستيقظ الشخص في مرحلة وسيطة تسمى المرحلة “W” وهي مرحلة قصيرة لا يشعر بها الفرد غالبا، ولكل مرحلة من هذه المراحل صفات خاصة وادوار تتغير بتغير النشاط العصبي وموجات الدماغ التي تتشكل مع كل مرحلة من مراحل النوم، فمع بداية النوم -وهي مرحلة النوم غير الريمي او مرحلة العين غير السريعة- تتشكل موجات الفا وثيتا التي تحفز التعلم والذاكرة والحدس، ومعها تعود الحواس للتركيز نحو الداخل والتقاط الإشارات، ومن ثم تزداد موجات الدماغ بشكل مفاجئ وتنخفض وتتباطئ معدلات ضربات القلب وتنخفض درجة الحرارة إيذانا للدخول في النوم العميق، حيث يبدأ الدماغ باطلاق موجات دلتا، وهي موجات بطيئة التردد وعالية تفصل وعي الانسان عن المحيط الخارجي، ومع سريان موجات دلتا تستحث الخلايا للتجدد والاستشفاء وتدارك التالف وتعويض الناقص وبناء المستنزف، وتتجدد معها أيضا أنماط عمل المناعة وتتعزز ويتم بناء الانسجة والعضلات ومحاربة الامراض، فيما انه وبعد مرور 90 دقيقة تبدأ مرحلة النوم الريمي او مرحلة العين السريعة والتي تستمر لما يقرب ال 60 دقيقة لتنتهي دورة النوم عندها وتبدأ دورة جديدة، وفي هذه المرحلة يصبح المخ اكثر نشاطا وتتحرك العينان باتجاهات مختلفة وبحركة سريعة للغاية مع ملاحظة لارتفاع وتيرة ضربات القلب وضغط الدم ومعدلات التنفس مع عدم انتظامه، وهي آلية توضح مجهودات الجسم والدماغ في معالجة المعلومات من اليوم السابق وبرمجتها في الذاكرة طويلة الأمد، حيث ان هذه المرحلة هي المسئولة عن تنسيق وتوزيع وبصم تجارب اليوم السابق في اللاوعي وفي الذاكرة الممتدة، ومن هنا تأتي أهميتها في تشكيل وظائف الوعي والادراك للمحيط والأشخاص والتجارب وفي وظائف التعلم والادراك والذاكرة والبرمجة العصبية للسلوك والتوجهات القادمة. 
 
يعاني هذا الميكانيزم المعقد من ضغوطات عديدة ومتشعبة في عصرنا الحالي وتتأثر كفاءته وتتعطل هذه الدورة او تتداخل مراحلها نتيجة نمط وسلوك الحياة الحديثة، بل ان مراحلا ولحظاتا عديدة من هذه الدورة لا يستطيع العديد من الافراد المرور بها مما يشكل بيئة خصبة لتزايد فرص الاصابة بامراض القلب والشرايين والسكري والسرطان والعديد من الامراض النفسية المعروفة، وذلك في ظل غياب الوعي والادراك بمنشأ تلك الامراض التي يجنيها الافراد كصورة نهائية لتلف دورة النوم، كما اننا نلحظ تلف النوم أيضا في إضطرابات الحياة الاجتماعية والعنف الاسرى وتباعد الافراد وانخفاض القدرة على تحمل الاخرين وتقبل الاخر، كذلك في نقص الإنتاجية المهنية وفقر القدرة على حل المشكلات او استثمار الفرص وعدم القدرة على تجاوز الازمات والتجارب السيئة، الى اخر ما نظنه انه امور معنوية وما هو بذلك بل هز تلف وانخفاض في قدرات الدماغ للتعامل مع ما ظنناه انه امر معنوي نتيجة تلف النوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى