التاريخ والحضارة.. فلسطين أنموذجاً

بقلم: عفاف عمورة

منذ الصيرورة الأولى للخلق وعبر السيرورة التاريخية، تنحصر الدوافع والرغائب والحوافز الإنسانية. ويبدأ التدافع نحو بناء حاضر قائم على ركائز ودعائم متجذرة لخوض غمار مستقبل أفضل للوطن وللإنسانية. من هنا نؤكِّد أنه من لا تاريخ له لا حاضر له. لأنَّ التاريخ كما أسلفنا هو الحافز للإنسان كي يتقدّم ويحرز شيئاً مهماً وإيجابياً. ولأنه ـ أي التاريخ ـ جزءٌ مهم من حياتنا، بخاصة ذلك التاريخ الذي يحمل بين أسفاره أسرار الحياة الأولى ومعانيها على هذه الأرض. يُعتبر من أهم عوامل التغيير والتطوير والتحديث في وقتنا الحاضر، كما أنّه قد يؤثر في المستقبل القريب تأثيراً كبيراً .إضافةً إلى أنه يمكن أن يؤثر في مستقبلنا البعيد.
وقد يتساءل البعض عن جدوى عودتنا إلى الماضي ونبش دفاتر التاريخ السحيق. وماذا سنجني من دراسة تاريخ الأولين والسابقين ومعرفة أخبارهم ،ومسيرة حياتهم ،وما تركوه لنا من آثار عمرانيةٍ وفكريةٍ وعلميةٍ وفلسفية، ومنجزاتٍ إنسانية، وما الدافع لنا للاطلاع على المخطوطات والرقم الأثرية ،والكتب القديمة، التي اندثرت وراح زمانها، وبليت علومها، وتبدَّدت معانيها واسراراها وأخبارها. هذا ما قد يقوله البعض في السر والعلن، لكن هؤلاء وغيرهم إذا ما عرفوا قيمة هذا الاطلاع وأهميته ،وضرورة معرفة واستقراء الأحداث والتجارب التي مرَّت بها الشعوب، وما بنته من ممالك وإمارات ودول ،لما أضاع فرصةً أتيحت له إلا وقد غرق فى بحر تجاربهم الغنية وتاريخهم الثر الممتزج بالقيم والنواميس والأخلاق والقوانين والتشريعات الناظمة ،وحصد من نتائج أخبارهم الكثير. هنا يمكننا أن نتساءل بطريقةٍ مختلفةٍ حول تلك المراجعة التريخية .ما الذي يمكننا أن نستفيده من تاريخ السابقين ،وما الذي سيحملنا على الاطلاع على كتبهم وأسفارهم وأخبارهم ومنجزاتهم، فالتاريخ يعلِّم الإنسان الدروس والعبر، ويجعله أكثر وعياً ومعرفةً،وأقدرعلى اتخاذ القرارات والإقدام عليها بخطوات واثقة ومناسبة. والتاريخ فنٌ فيه عمق ،يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم والشعوب في أخلاقهم وحضاراتهم وإنجازاتهم الإنسانية ،يعرِّفنا بالأنبياء والرسل والأولياء الصالحين في سيرهم، والملوك في ممالكهم ودولهم وسيرتهم ،حتى تتم فائدة الاقتداء في أحوال الدين والدنيا بكل تلاوينهما. ويشكل التاريخ بالنسبة للعديد من الأفراد شغفاً حقيقياً وحباً عميقاً، ومتعةً لا تعادلها أيّ متعة أخرى، ونحن الفلسطينيون نفخر بأننا أصحاب حضارةٍ إنسانيةٍ عريقةٍ امتدت إلى نحو أربعة آلاف سنة. فكان أجدادنا الكنعانيون بناة حضارةٍ وعلمٍ وقوانينَ إنسانية. وأسَّسوا منظوماتِ تفكيرٍ جماعيّة تركت آثارها في المعابد والقصور والأوابد التاريخية والأثرية، والكتابات التي جسَّدت الحياة اليومية للكنعاني الفلسطيني. والانتصارات الساحقة على المعتدين والغزاة. وفلسطين تاريخياً كانت وستبقى قطعةً من الجنة على الأرض ففيها أنهار من اللبن والعسل والنخيل والأعناب. وهي مهبط الرسالات السماوية ،ومهد الحضارة الإنسانية ،ومنها وما حولها انبثقت الأبجدية الأولى. وهي همزة الوصل بين الماضى والحاضر، وهي بحق أرض الخيرات، يؤكد ذلك تاريخ الحضارة الكنعانية وما شكَّلته من ممالك. ونظراً لأن فلسطين هي المشكلة في آنٍ معاً. وهي أيضاً الحل في عصرنا الحاضر ،وجب علينا العودة إلى تاريخها المجيد وتنقيته من الشوائب والعوالق والأدران التي علقت بها عبر سيرورتها الطويلة. من هنا نعود إلى المربّع الأول كيف يمكن أن تكون فلسطين هي المشكل وهي الحل في آن. سؤال هام يجيب عن نفسه. ففلسطين بموقعها الجغرافي الفريد الذي يتوسط قارتين:آسيا وإفريقيا . ويتوسط وطننا العربي بين مشرقه ومغربه، وهي على مقربة من أهم الممرات البحرية العالمية (قناة السويس). وما تملكه من أماكن مقدسة لها أهميتها الدينية والتاريخية . ففيها كنيسة المهد وكنيسة القيامة في بيت لحم . وفيها ولد السيد المسيح والنبي موسى. وفيها المسجد الأقصى في القدس الذي أسرى رسولنا الكريم منه إلى السماء السابعة، وفيها قبة الصخرة ،ومغارة المكفيلة التي دفن فيها نبي الله أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام في مدينة الخليل، والمقابر التاريخية التي دفن فيها الصحابة والأولياء الصالحين في القدس .وفيها غزة العزة وعكا ويافا وحيفا وطبريا وصفد والخليل ونابلس وزهرة المدائن القدس.ومنها برز أهم العلماء والفقهاء والشعراء والأدباء والقادة الذين جسدوا كل معاني العطاء والإنسانية.كل هذا جعل منها مطمع للغزاة والمعتدين الطامعين بخيراتها وما تملكه أيضاً من موقع جيواستراتيجي هام. جعلها تواجه تحدياتٍ وتهديداتٍ خطيرةٍ بصفةٍ مستمرة . وهي الحل لأنَّ سكانها الأصليين العرب الفلسطينيين الكنعانيين هم من بنوها وأسسوها وبنوا فيها الممالك والحضارة الإنسانية. وأنَّ كل الغزاة والمعتدين اندحروا على أسوارها ودفنوا في أرضها، ولاقوا مرارة الهزيمة ،وعاد منهم من عاد مكسوراً مدحوراً بعد أن ترك فيها آثار الخراب والدمار والحرائق. فانكسر الصليبيون واندحروا في معركة حطين. وانهزم العثمانيون بعد انهيار دولتهم التي باتت مريضة. واندحر فيها نابليون بونابرت الذي مات جنوده على أسوار عكا بعد أن حاصرهم الجزار بقواته، واندحر البريطانيون قبل رحيلهم لكنهم زرعوا بدلاً منهم الكيان الصهيوني الذي جمع شتات يهود العالم على أرض فلسطين التاريخ والحضارة والإنسانية الطاغية. كل تلك الانتصارات كانت بفضل الثوار والمجاهدين والأحرار الذين دافعوا وما يزالوا يدافعون عن كل حبة تراب من هذا الوطن المقدس الذي ذكره الله في كتابه العزيز حين قال : (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) سورة الإسراء الآية 1 . والمقصود هنا في قوله وما حوله كامل فلسطين التاريخية . وهنا لا بدَّ من التعبير الصريح والقوي بأحقية شعبنا الفلسطيني بأرضه ووطنه وتراث أجداده. ولا بدَّ من أن يرحل الغاصب المحتل مهما امتلك من آلة القتل والدمار ، ومارس السحل والقمع والاعتقال ووضع الحواجز وبنى الجدران . وأغلق الحدود والمطارات والمنافذ البحرية . حتى منع الصيادين من اصطياد لقمة عيشهم .

من هنا علينا أن نقرأ التاريخ فهو مدرسة بحدِّ ذاتها، فهو ملىء بالعبر والدروس التى يمكن للإنسان أن يستفيد منها فى كل زمان ومكان، ويؤكِّد على الحق الفلسطيني التاريخي في الأرض ،حيث تعتبر مادّة التاريخ من أكثر المواد غنى بالأفكار والمفاهيم والأحداث، والمعتقدات المختلفة. فلا يمكن لأيّ إنسان أن ينهض دون معرفة التاريخ وتحديداً تاريخه الذي يمجد الأجداد والآباء ، والتعمق فيه، لذا وجب علينا أن نقرأه قراءة واعية وصحيحة له، فتشويه التاريخ سلباً أو إيجاباً يعود على الأمم بالوبال والضياع، إذ يحب أن يقرأ قراءة واعية غير مغلوطة وبعيدة عن التضليل والتشويه ، لأن التاريخ هو تراث الأمة وكنزها وركيزة حاضرها ومستقبلها. وهو مقياس عظمتها في بابى الثقافة والحضارة ، وهو ديوانها الذي تحتفظ فيه بذاكرتها وعقلها ووجدانها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى