تهشيم المستقبل.. «النهج البربري» للرأسمالية العولمية

د. مصعب قاسم عزاوي

يقوم مبدأ عمل النظام الرأسمالي في مرحلة الليبرالية المستحدثة بشكلها العولمي المتوحش على ثلاثة مبادئ أساسية، أولها السعي لتحقيق الربح السريع بأقصر الآجال؛ وثانيها اعتبار كل الأضرار والعقابيل الناجمة عن عملية مراكمة الربح خسائر جانبية لا بد من حدوثها، و تدعى باللغة الإنجليزية «Externalities»، ولا بد من تجاهلها وعدم الاكتراث بها؛ وثالثها خصخصة الأرباح بحيث تذهب إلى جيوب الأثرياء الأقوياء، وتعميم الخسائر بكل أشكالها بحيث تتحمل المجتمعات التي تم تخليق تلك الأرباح على أرضها عقابيل مفاعيل تخليق تلك الأرباح سواء تمثلت بتلوث بيئي عميم، أو استنزاف لحق الأجيال القادمة في المصادر الطبيعية غير المتجددة، أو التي تحتاج إلى أمد طويل لتعيد تجديد نفسها مثل المياه الجوفية، والتربة الصالحة للزراعة وما كان على شاكلتها.
وقد يكون أحد أهم الأمثلة على ذلك المثلث الجهنمي الذي يحكم آليات عمل نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر مشخصاً في الخطر الكوني المحدق بحيوات كل بني البشر المعاصرين، وخاصة الأجيال التي سوف تأتي من بعدهم ويتمثل في المعضلة المهولة المتمثلة بنفايات الصناعات النووية، وخاصة ما يدعى اليورانيوم أو البلوتونيوم المنضب، والذي يمثل الوقود النووي في محطات توليد الطاقة الكهربائية في المحطات النووية بعد نفاد قدرته التفاعلية الكيميائية لتوليد الحرارة التي يتم من خلالها تسخين مراجل الماء الثقيل في المحطات النووية؛ وهي المواد التي أصبحت نفايات صناعية لا بد للدول والمجتمعات التي تتراكم في بواطنها تلك النفايات من البحث عن طرائق لإبعاد شبح تسربها إلى المياه الجوفية أو التربة أو تبخرها إلى الهواء والذي لا بد أن يجلب معه كارثة صحية شاملة لا تبقىي ولا تذر، ولا تختلف كثيراً عن كوارث التسرب النووي في مفاعلات تشرنوبل في الاتحاد السوفيتي السابق في العام 1986، ومفاعل Three Miles Island في الولايات المتحدة في العام 1979، ومفاعل فوكوشيما في اليابان في العام 2011، والتي لا بد أن تكون مسؤولة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عن ازدياد وقوعات مرض السرطان على المستوى الكوني بعد تسرب تلك المواد الإشعاعية ودخولها في الدورة الحيوية للماء الذي يتبخر مطراً يساقط في كل أصقاع المعمورة، ويأكل من سقياه كل بني البشر، بشكل لا يعرف أي حدود سياسية مصطنعة واهية لتقي بني البشر في أي من أرجاء الأرضين بعد تسرب المواد الإشعاعية إليها، وهو التسرب الذي لم تعد الرأسمالية البربرية المتوحشة ووكلائها من السياسيين المصنعين يخجلون من القيام به بشكل فاعل وعامد متعمد حينما تعييهم الوسائل المستخدمة من قبل لتزويق أخطائهم بستارات التورية والتدليس، كما هو الحال في عدم خجل الحكومة اليابانية من تسريب أكثر من مليون طن من الماء الثقيل الملوث شعاعياً من بقايا مفاعل فوكوشيما إلى مياه المحيط دون خجل أو حياء أو وجل بذريعة أن المياه الملوثة بالمواد المشعة التي سوف يتم نبذها إلى لج المحيطات سوف يكون «تأثيرها على صحة بني البشر منخفضاً»، وأن عملية التسريب المبرمج هذه هي «عملية اعتيادية يقوم بها كل مشغلي المحطات النووية» سواء بشكل معلن أو غيره، وهو ما يعني بأن النظام العالمي يحكمه حفنة من المجرمين المتفلتين من كل عقال أخلاقي أو قانوني، ولا يمتلكون في قاموسهم «الرأسمالي» أي معايير أو اعتبارات أخلاقية، ولا ضير في أن تتكاثر قائمة جرائمهم الكونية يومياً، إذ أن ذواء حيوات بعض الملايين من البشر بأمراض السرطان هو «تأثير منخفض» لا بد من قبوله من كل من يعيش في كنف الرأسمالية راهناً، و يستمتع برفاهيتها الخلبية التي جوهرها مقايضة خاسرة مع الشيطان للعيش في كنف سراب تلك الرفاهية الزائفة مقابل خسارة سنين أو عقود من حياة الفرد صحيحاً معافى.
وقد يستقيم في هذا السياق الإشارة إلى الحل السحري الذي استنبطه ساسة مجتمعات الأقوياء المُصَنَّعين إعلامياً من قبل نفس تلك الشركات العابرة للقارات التي قامت بتمويلهم ودفع فواتير حملاتهم الانتخابية التي لا تختلف في فحواها عن أي عملية تسويقية اعتيادية تقوم بها تلك الشركات سواء لتبييض وجهها الكالح، أو تسويق منتجاتها، وإيهام النظارة من البشر المظلومين بأن منتجاتها «حاجة جوهرية ضرورية» في حيواتهم التي لا تستقيم دونها، على الرغم من أنهم عاشوا دهوراً من غيرها من قبل؛ وجوهر الحل «السحري» المستنبط يكمن في التخلص من النفايات النووية عبر «تلفيق» نموذج جديد من الأسلحة لا سبب علمياً أو تقنياً يقف وراءه فعلياً، يدعى «القذائف الخارقة للدروع المحملة برؤوس من البلوتونيوم المنضب»، والتي يزعم مصمموها بأنها أكثر قدرة على اختراق العربات المصفحة، والملاجئ تحت الأرض، وهو زعم لا بد من النظر إليه بعين الريبة لوجود كم هائل من الأسلحة التقليدية التي يمكنها القيام بتلك الأفعال التدميرية البائسة. والحقيقة التي يخفيها مستخدمو تلك الأسلحة تتعلق بأن أطنان اليورانيوم و البلوتونيوم المنضب المستخدمة في تلك الأسلحة تشع بنسبة لا تقل عن 60% من عنصر اليورانيوم الاعتيادي، وأن البلوتونيوم المنضب يحتوي على ما لا يقل عن 19% من النظائر المشعة في البلوتونيوم الطبيعي. والحقيقة الأليمة المحزنة هو أنه قد تم التخلص من أكداس هائلة تقدر بملايين الأطنان من تلك النفايات النووية المرعبة عبر إلقائها على بلدان مثل العراق وأفغانستان وكوسوفو بكميات مهولة دون أن يشعر بالخجل من ذلك أي من سياسي العالم «الحر» أو أي من وكلائهم من نواطير الفساد والإفساد مستبدي دول العالم المفقر المنهوب.
والرعب المهول الذي يحيق بالأجيال القادمة، والتي لم تقم أي من الشركات العابرة للقارات باستفتائها عنه، وأخذ موافقتها عليه، قبل البدء بجني الأرباح الهائلة من نتاجها «النووي الجهنمي» يكمن في حقيقة أن النفايات النووية جميعها بشقيها الحربي والسلمي، مع التحفظ الشديد على إمكانية قرنها بالسلم والسلام، لا تتنكس وتفقد خواصها الإشعاعية إلا بعد مرور حوالي تسعة مليارات سنة، وهذا لا بد أن يحيلنا إلى تساؤل مهم حول أين هي تلك الخبرات والتقانات البنائية التي يمكن أن تخزن في باطن الأرض بشكل آمن منيع لا يمكن للنفايات النووية التسرب من متاريسه إلى التربة المحيطة به، و منها إلى المياه الجوفية لمدة تسعة مليارات سنة. والأرجح أن تكون الإجابة هي أننا لا نعرف مدى استقرار وتوازن تقنيات البناء الراهنة بعد بضعة قرون، وليس مليارات من السنين؛ وهو ما يعني ترك الأجيال القادمة للتعامل مع نفايات الرأسمالية المعاصرة بالنظر إليها على أنها خسائر جانبية لا بد من حدوثها، ولا بد من عدم الاكتراث بها، إذ أن الالتفات إليها قد يعيق تحقيق الهدف الذي لا تبصر الرأسمالية الوحشية المعولمة سواه من أهداف، ألا وهو هدف تحقيق الربح السريع بأقصر الآجال، وبغض النظر عن أي عقابيل على صحة وحيوات بني البشر وسلامة محيطهم البيئي والحيوي.
ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى موضوعة محورية تتمثل في أن «النهج البربري» للرأسمالية العولمية بشكلها الليبرالي المستحدث لا ينبع من جشع أو طمع أشخاص بعينهم بقدر ما ينبع من نظام إنتاج وعلاقات إنتاج متسيدة عمادها وضالتها تحقيق الربح السريع بغض النظر عن أي اعتبارات جانبية لا وزن لها في منظارها حتى لو كان حيوات الكثير أو القليل من البشر؛ وهذا يعني بشكل عملي بأن الأشخاص القيمين على إدارة الشركات العولمية العابرة للقارات والشركات المحلية العملاقة، والتي تمثل العمود الفقري لنمط الإنتاج الرأسمالي المعولم المهيمن حاضراً، ليسوا «شياطيناً مقنعين» وإنما «بشراً أدركوا اشتراطات اللعبة الرأسمالية»، وفقهوا بأن واجبهم الوحيد هو تعزيز أرباح شركاتهم وقيمتها السوقية وحصتها من الإنتاج في عموم السوق الكونية، مقابل منحهم بعض الفتات المالية والميزات الرديفة هنا وهناك، والتي قد تصل إلى رواتب خيالية بمقياس الفرد الواحد، ولكنها لا تمثل إلا جزءاً مجهرياً من الأرباح الفعلية للشركات العملاقة التي يقودون دفتها. وفي حال «صحا ضمير» أي من أولئك المدراء المفوضين، وبدأ بالتفكر بأي اعتبارات أخرى من قبيل صحة وسلامة عماله أو البشر المتأثرين بآلية عمل شركته سواء من الأحياء الموجودين راهناً، أو الذين سوف يأتون من بعدهم من ذريتهم، أو بسلامة المحيط البيئي الحيوي الذي يعيشون فيه، وقام بإدخال تلكم الاعتبارات في نهجه الإداري، فإن مجلس إدارة الشركة التي يديرها أو مالكو أسهمها سوف يكونون له «بالمرصاد» قبل حتى أن تتكامل أفكاره، ويقومون بخلعه واستبداله بغيره ممن يلتزم بشروط «اللعبة الرأسمالية الجهنمية» ولا يحيد عنها قيد أنملة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى