من شجاعة اللغة العربية.. استخدام المفرد بمعنى الجمع

أ.د. مصطفى رجب | جامعة سوهاج

مما يدخل في باب شجاعة العربية أن هناك مزايا تتفرد بها اللغة العربية ، يجيء فيها الاستخدام اللغوي مخالفاً للقياس، ومع ذلك فإن الذوق لا ينبو عنه، ولا يرفضه بل يستسيغه ويقبله بلا تردد. فمن هذا الباب يرد استخدام المفرد معنياً به الجمع، أو يرد الجمع معنياً به المفرد، وهناك ثلاثة أوضاع للمفرد الذي يطلق ويراد به الجمع هي:

1- أن يكون المفرد معرفاً .

2- أن يكون المفرد نكرة .

3- أن يكون المفرد مضافاً .

وقد ورد من ذلك في القرآن الكريم شيء كثير، فمما جاء على الوضع الأول قوله تعالى {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فقد أطلق لفظ “الدبر” هنا وهو معرفة وأريد به الجمع، والمقصود ويولون الأدبار.

ومن ذلك قوله تعالى {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} والمقصود الغرفات أو الغرف جمعاً لغرفة بدليل ورودها مجموعة في آيات أخرى {لهم غرف من فوقها غرف مبنية} .

ومن هذا النوع أيضاً قوله تعالى {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} والمقصود والملائكة بدليل قوله تعالى في آية أخرى {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} . وقوله تعالى {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} والمقصود الأطفال.

ومن أمثلة ما جاء على الوضع الثاني: أي يكون اللفظ المستخدم نكرة ويقصد به الجمع قوله تعالى {إن المتقين في جنات ونهر} والمقصود وأنهار بدليل قوله تعالى في آية أخرى وصفاً للجنة {فيها أنهار من ماء غير آسن}.

ومنه قوله تعالى {واجعلنا للمتقين إماماً} والمقصود أئمة، وقوله تعالى {ثم نخرجكم طفلاً} والمقصود: أطفالاً. وقوله تعالى {وحسن أولئك رفيقاً} بمعنى رفقاء.

ومما جاء على الوضع الثالث: أي أن يكون اللفظ مفرداً ويقصد به الجمع قوله تعالى {إن هؤلاء ضيفي} أي: ضيوفي ، وقوله تعالى {أو صديقكم} عطفاً على ما ذكره من البيوت التي لا جناح على المؤمنين أن يأكلوا فيها ، والمقصود: أصدقائكم، وقد ورد في الشعر العربي القديم استخدام المفرد مقصوداً به الجمع فمن ذلك قول علقمة بن عبدة:

بها جيف الحسرى فأما عظامها

                            فبيض وأما جلدها فصليب

والمقصود : وأما جلودها فصليبة.

وقول عقيل بن علقمة المري:

وكان بنو فزارة شر عم

وكنت لهم كشر بني الأخينا

                      يعني كانوا شر أعمام

وما يجوز في الألفاظ من استخدام للمفرد معنياً به الجمع ، قد ينسحب على الضمائر كذلك . فمن ذلك قوله تعالى {ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم} فالضمير المجرور بمن في قوله {منها} عائد على شجر . والشجر – كما يقول أبو حيان صاحب البحر المحيط – اسم جنس يؤنث ويذكر. غير أن هذا التخريج ليس كافياً لمجيء الضمير التالي المتصل بعلى {عليه} مذكراً، في حين جاء الضمير المتصل بمن {منها} مؤنثاً.

ولعل ما ذهب إليه ابن عطية من أن الضمير في {عليه} عائد على المأكول أو الأكل من أفضل التأويلات المقنعة لهذا التركيب.

ومن ورود ضمير المفرد مقصوداً به الجمع، كذلك قوله تعالى {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس} فالضمير المستتر في الفعل {تحمل} مفرد مؤنث جيء به من باب معاملة الجمع غير العاقل معاملة المفرد المؤنث، وهو شائع في لغة العرب فلك أن تقول: هذه الكتب، فتستخدم اسم الإشارة المخصص للمفرد المؤنث مع جمع غير العاقل، وقد يستخدم اللفظ المفرد معنياً به الجمع ثم يعود عليه ضمير الجماعة كما قلنا آنفاً، ويكون المعنى مقبولاً سهل الإدراك وغير قابل للتأويل كما هو الحال في آية شجر الزقوم السابقة، فمن ذلك قوله تعالى في معرض حكاية قصة سيدنا داود عليه السلام {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب، إذ دخلوا على داود ففزع منهم. قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق} فجاءت هنا كلمة الخصم بمعنى الخصوم، وإليها يعود ضمير الجماعة “الواو” في الأفعال التالية لها “تسوروا” ، “دخلوا” ، ” قالوا “.

وهكذا نجد أن من أبواب الاتساع والمرونة في لغة العرب التي سماها ابن جني “شجاعة العربية” أن يأتي المفرد ويراد به الجمع. كما قد يأتي الجمع ويراد به المفرد وله حديث آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى