العواطف العميقة

أ.د. محمد سعيد حسب النبي

يروي الزعيم الهندي “نهرو” قصة تستحق التأمل الطويل، حيث كان يرافق عدداً من الطلاب الهنود في لندن مع بداية القرن الماضي، وكان هؤلاء الطلاب كثيري الاعتراض على ما يحدث في الهند، وكانوا يبالغون في انفعالاتهم ويوجهون اللوم لنهرو حيث لا يشاركهم حماستهم، فقد كان نهرو صامتاً دائم التأمل والتفكير، ومع الأيام تغير حال هؤلاء ولم يعودوا على حماستهم نفسها، بينما كان نهرو في طليعة حركة الاستقلال الهندية الكبرى، التي كان غاندي قلبها، ونهرو عقلها المفكر، يشارك فيها ويقودها، أما المتحمسون الصاخبون فكانوا أقل الناس عاطفة نحو الهند، كانوا كأصوات الطبول التي ترتفع عالياً وقلبها أجوف، أما نهرو فكان ذا عاطفة عميقة قوية، التي لم تلجأ إلى الزخارف والمبالغات، بل كانت هادئة تواجه الظروف القاسية بثبات ويقين.

ولعل القصة تجلي حقيقة مهمة وهي أن العواطف غير الناضجة تتخذ مظهراً متحمساً غير راسخ دافعها هو التظاهر، وإبراز التفوق الشكلي والجموح الذي لا يفضي إلى شيء، أما العواطف الصادقة فهي التي تضبط النفس حتى لا تنساق مع الأوهام، وتسير بقوة نحو الهدف المطلوب لتحقق الغاية المرادة. إن الاستسلام إلى العواطف الزائفة يمثل نوعاً من الخداع الذاتي كما يرى علماء النفس، والخداع الذاتي ضرب من الضعف العاطفي الذي يتمظهر في المبالغات والعنف والبعد عن البساطة والهدوء.

ومن المظاهر  التي تتجلى في حياتنا ظاهرة الانفعال السريع، سواء في الغضب أو السرور، والتي تقود إلى مشكلات اجتماعية عنيفة، حيث يتمركز الإنسان حول ذاته؛ فيفسر أي تعليق أو مناقشة بأنه هجوم على الذات، مما يستدعي الدفاع عن النفس، والانفعال بشكل مبالغ فيه. أما الموصولون بالحياة في أعمق معانيها؛ فتراهم يفتحون صدورهم للعالم والوجود بشكل رحيب، يتعالون على الانفعال السريع، والسطحية والشكلية، والذاتية والزخارف غير الحقيقية.

إن تنظيم الدورة النفسية للإنسان يرتفع بها إلى مستوى العاطفة العميقة التي تصمد في وجه الحياة والأيام، حيث تمكن الإنسان من أن يعيش حياة بسيطة وعالية الهدف في الوقت ذاته، كما أشار المفكر والفيلسوف الأمريكي “هنري ثورو”، فأصحاب العواطف الكبيرة هم في الوقت نفسه أصحاب العواطف البسيطة، إنهم يديرون عواطفهم فلا يعبرون بكل ما يشعرون، بل بأجمل ما يحسون، وفي أبسط صورة ممكنة، وبكلمات قليلة لكنها غنية وعميقة.

إن قواعد الرقي السلوكي في المعاملات يقضي بضبط النفس، والتخلص من المبالغات، وإدارة الذات، واستبدال العواطف الساذجة بالعواطف الناضجة، وإحلال المشاعر الداخلية الهادئة محل الطقوس الخارجية الزائفة؛ فنكتسب بذلك الشعور العميق الذي تستقر معه النفس وتصلح به الحياة. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى