قصيدة النثر ليست سهلة!

زياد محمد مبارك | كاتب سوداني

بعيداً عن بنائية قصيدة النثر التي سوّد كثير من الشعراء والمنظرين العرب صفحاتهم – انطلاقاً من ترجمة سوزان برنار – لأجل شرح معاييرها الشكلية والتقنية، وظاهرتها الصوتية، وتوليداتها القافزة فوق السبك الشعري المعتاد والمألوف، وغير ذلك.. بعيداً عن ذلك، فملخص المقال: أن نثرية الشعر لا تعني بالضرورة استسهال كتابته للدرجة التي تجعل ركاماً من النصوص النثرية الركيكة يطالعنا تحت مسمي شعر النثر، فليس كل منثور هو شعري لمجرد أن هنالك شعر نثري اجتهد في تقعيده – بعد عناء! – شعراء أفلتوا اللغة خارج حظيرة القالب الشعري الموروث وداخل الشاعرية، وهذا هو أساس تسميته بالشعر النثري لأنه لم يتنصل من وهج الشعرية والشاعرية كما يفعل البعض فيما يمررونه على أنه قصائد.
لا أدفع بأن الباعث على المقال لم يكن نصاً نثرياً أقل ما يوصف به أنه مثير للغثيان، فهو ليس خارجاً عن الشعرية فقط، وإنما ثيماته نفسها مقززة وألفاظه ينبو عنها الذوق ولا تحتويها معاجم الشعراء بالنظر في توظيفاتهم اللفظية.. وهذا الاستسهال في كتابة القصيدة النثرية لأنها متحررة من القيود العروضية الصارمة، لكن هذا ليس دالاً بالتالي على أنها متحررة من الشعرية، والشاعرية، والتخصيب الخيالي واللغوي والتركيبي… الخ، من خصائص الشعر الأخرى، والتي هي في الأصل صانعة للفارق بين الكلام الفني، وغير الفني.. فالسبك العروضي ليس هو الشعر وإنما هو القالب الخارجي للقصيدة، أما الشعر فهر روح النص، تصويراته، تخييله، تلاعبه باللغة، تشبيهاته، مفارقاته، تكثيفاته… الخ. فالقالب (متفاعلن متفاعلن متفاعلن… متفاعلن متفاعلن متفاعلن) المائز للبحر الكامل لا يكون شعراً لوحده بالرصف اللفظي المجرّد، وإنما يكون شعراً بمحمولاته اللفظية والتركيبية والدلالية والبلاغية المتعددة التي تبعث في النص الروح.
هنالك خط فاصل (مرئي للشاعر) بين البوح والوصف في الخاطرة الوجدانية، وبين القصيدة النثرية التي يمكن اعتبارها خاطرة مكثفة، ومدهشة، توظف فيها الاستعارة لصنع الانزياح بأنواعه مقابل خفض التحسين البديعي الذي يميز الخاطرة.. يمكننا اعتبار الخاطرة أم النثريات، ولا تمثل القصيدة بقدر تمثيلها للاستعراض اللغوي عن طريق الألوان البلاغية.. جمعني مرة نقاش مع شاعر كبير في هامش ديوان غير منشور له، المدهش أنه رد على مجموعة ملاحظات قدّمتها له – هو من طلبها في الأصل – حول جمعه بين الخواطر وقصائد النثر في مجموعة واحدة قيد النشر، بقوله أن جميع نصوصه متضمنة لموسيقى داخلية ترفعها إلى اعتبارية الشعر النثري! .. في الحقيقة لا أؤمن بالقيود الموسيقية للنثرية وإلا كان أولى الاحتفاظ بالقوالب القديمة المشروطة سلفاً بناء على الإيقاع الصوتي.. على كل حال، لم يتوافر ما زعمه الشاعر عن خواطره من موسيقى داخلية.. فأخبرته بذلك، ونصحته بمراجعة كتاب الشاعر محمود قحطان (أساسيات الشعر وتقنياته، إشكالية التمييز بين قصيدة النثر والخاطرة وقصيدة التفعيلة) وهو كتاب يعرض معلومات أولية بأسلوب سهل لا يدرس التقنيات بصورة تخصصية، ولكنه كفيل بضبط رؤية الشاعر ومساعدته على التمييز بين الأنواع الشعرية، ورصد الخطوط الفاصلة بينها.. كان رد الشاعر بأن التمييز بين قصيدة النثر والخاطرة لا يتطلب قراءة كتاب!
أجدني في مثل هذه النقاشات – دائماً – مضطراً للإجابة بأن الكاتب ينتهي دوره بعرض منجزه الإبداعي، وأن ذهن القارئ بعيد عن سلطة الكاتب مهما كان قدره! .. في هذا الموقف ربما صار لدي تأكيد وُلد من النقاش بأن كتابة النثرية ليست سهلة حتى لمن هم شعراء لا غبار على اقتدارهم وتمكنهم، لكن عند آخر نص قرأته أيقنت أن استسهال كتابة النثرية لا يُقارن مع إنتاجات شاعر وكاتب خواطر مميزة!
أحياناً، أضع في اعتباري أن الهجوم الكبير الذي تعرضت له مدارس الشعر النثري في الوطن العربي قد يكون – في المقام الأول – بسبب سيل النصوص التي امتطى المتشاعرون بها أمواج الحداثة، فلا هم وصلوا إلى عداد الشعراء، ولا انتهى المدافعون من صدّ الحملات الشعرية السلفية، التي ترفع مثل هذه النصوص مع ألويتها !

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى