العَوَض

يكتبها : محمد فيض خالد

مرّت الأيّام يقطر في إثرها عمره ، يتألق في عينيهِ بريق الأمل، يُطالِع شبحهُ حينَ يتراءى فوقَ ماءِ التّرعة، يغرفُ غرفة بيدهِ يلَطمُ بها وجهه النّاحل عابثا، تمتزج قطراتها بدموعهِ المنسابة، يُساورهُ شعور الكَمد، لا يجد دون نيران صدره مَصرِفا، حين يشخص بصره قبالة ذراري من حولهِ من أبناءِ عمومته، الذين فَاضَ بهم الدّرب، يأمَل وجهَ النّهار وييأس آخره، يبوح بهِ الفِكر تبريحا، لا تزال كلمات أمّه ترنّ في مسامعهِ وهي تُحدِّثه حديث لهفة، تُحذِّره أن يصبِح أُحدوثةً في أفواهِ القوم:” دَعْ عَنكَ أوهامك، واتّخذ لكَ زَوجة جديدة تجلب لكَ من يحمل اسمك واهجر ثُريا ، فهي أرض سبخة تجحد بذرتها”، يعودُ بذهنهِ يكرّ دفتر أيامه مُتَحسِّرا عليها، بعدما نُفضت دونما فائدة ، يقولُ في لهجة ملؤها رنين الاقتناع :” كَيْفَ السّبيل وقد انقضى العُمر يا أمي وفاتَ الأوان ؟!”، يُمرّر يده فوقَ جبهتهِ المحتقنة يعتصرها عصرا، يعالجها بطرفِ جلبابه يدسّها خَجلا، مُستعيذا باللهِ من كيدِ النساء ، يَلح صوت الماضي ، يأتيه مقتحما بلا إذن ، تشخص فيهِ” ثريا ” شابة ملئ السّمع والبَصر ، ترفلُ في جلبابها الفلاحي الأحمر، قد عصّبت رأسها بطرحةٍ بيضاء، تتلألأ صَبابةً تَحتَ أضواءِ “الكلوب” ، وأصوات النّساء والصّبايا من حولها ، تتطايرُ مبتهجة، هي وإن تصغرهُ ، لكنّه وجَدَ فيها فتاته التي يبحث عنها، حتّى ظنّ الناس أنّها عِلة تأخير زواجه، يتيمة الأب والأم ، جلبتها خالتها ” عواطف ” بعدما انقطعت بها سُبل الحياة ، مُذ قدمت لم يعرف جنبها الرّاحة يوما ، تراها اعمل عمل الرِّجال ، تحصد وتغرس وتقلع ، وفي البيتِ تخبز وتمسح وتغسل ، من وراءها خالة زرقاء النّاب؛ لا تشبع من غلتها، حتّى ذهبت عن قلبها زهرة السّعادة ، كَانَ زواجها من “حسونة ” طوق النّجاة الذي مُدّ إليها فتعلّقت بهِ مُكرهة، آثرها دون بقية بنات العائلة ، يكيل لها الحُبّ كيلا، انطوت أيامهما قانعا يدبّ في قلبهِ دبيب الرَّاحة، لم يفكِّر يوما في أمرِ ” العَوَض” مُكتفيا بهذهِ الحبيبة التي وجَدَ من عطفها ما يُرطِّبُ قلبه، اعتَرَف بينه وبين نفسه أنّ كلام أمّه المملول نَبّه قلبه الغافل ، لكن فات أوانه ! ، فقد مرَّ على حديثها سنين طِوال، أيامئذ كان في مَيعة الشّباب، يستقبل الحياة بصدرٍ فتي لا يعرِف الخوف طريقه، أمّا الآن وقد انسلت الأيام منه ، أخيرا أدرك أن سبب التعاسة حماقته ، التي ساقته لأن يلقي بذكراه في آتون النسيان .
يحمل أبناء العائلة فوق كتفه منشرح الصّدر ، ترضيه عبارات المحبة تملأ الحنوك ، تغيّبه لحظات دافئة عن أوجاعه :” عامل إيه يا بويا حسونة ؟”، هذه تكفيه ، يرى في توقيرهم لعجوزٍ مثله ما يبلغ الحدّ، لم ينكر يوما أن تلك المشاعر الجياشة كانت تثير حفيظة ” ثريا ” ، يضحك ملئ شدقيه ، حتى يغرق جفنيه الدّمع على سذاجتها، يقول في انبساطٍ:” هؤلاء من سيحملون رمّتي بعد مماتي “، لكّن المرأة الثرثارة لا تفتأ تذكره عجزه، تفرك الأرض من تحتها تغمغم بلسانٍ موتور ، تدورُ بمخيلتها صورة حماتها الرَّاحلة ، تلقي إليها التّهم الموجعة :” اتشطري علشان نشيل عيالك “، أصبح همّ الرّجل أن يتعالى على علتهِ بعدما أضحت ظِلّ شقوته الذي يحيا معهُ ليفسد حياته، يختلي ساعات فوق سطحِ داره، يّطوفُ وسط غَمراتِ الحزن مُنكَفئا نادِبا حَظّه العاثر ، حاول أكثرَ من مرةٍ التَّخلي عن ” ثريا ” ، لكنه فَشلَ، تسائل في حيرةٍ :” أهو الحُبّ، أم الاستسلام للمصيرِ المحتوم؟!”، وهل ذنب المسكينة أن وجدت في قلبهِ دوحة حُبٍّ آوت إليها بعد مشقةٍ ؟! يَلعن في عَصَبيةٍ تلك العصابة من حنانها ورحمتها التي أنسته كُلّ شيء .
ظَلّ على حالهِ يُطالِع الوجوه الفتية التي تتحلّق بهِ، تأخذ بمجامع قلبه؛ تُغالِبُ صدى صوت أمه القادم من سجف الذِّكرى ، يُحَرِضهُ على هؤلاء، يُغريه بهم مُستَخِفا، يذكره فشله في ايجاد ” العَوض” الذي يحمل امتداده ، يَهبُّ واقفا ، ينقطع عندها سلسال الكلام ، تتطلع إليهِ العيونُ في وجَلٍ، ينفض جلبابه ويمضي في تيهه بين الحقول .
تَبدّت خيوط الشّمس النّارية من خلفِ الحُجب ، في رونقٍ جليل، لاحت الحقولُ من تحتها مع غبشِ الصِّبحِ الوليد رحبة، زاهية مليئة بآيات الحُسنِ والجمال، عندما تقاطرت حشود العائلة تودِّعُ شيخها الفاني، تخطّفت نعشه أيادي المحبين الذين أفنى عمره في حملهم ، بكتهُ القلوب التي اندفعت لاهثة لوداعهِ بالمُهجِ والأرواح ، تُردِّد سيرته ، وتَلهجُ بذكراه رحمةً وغُفرانا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى