جنازات الشهداء والصراع على هوية القدس

نهاد أبو غوش- فلسطين

مثّلت جنازة الصحافية الشهيدة شيرين أبو عاقلة لحظة فارقة في تاريخ الصراع على مدينة القدس وهويتها ومستقبلها السياسي، إذ برز الحضور الجماهيري الفلسطيني غير المسبوق في كثافته وتصدّيه البطولي للاحتلال، وما قابله من قمع همجي طاول النعش والمشيعين من الأجهزة الأمنية والشرطية الإسرائيلية. لكن النتيجة التي ظهرت للعالم أجمع تمثّلت في التحرير الرمزي للقدس، وفرض السيادة الشعبية الفلسطينية، ولو مؤقتاً، حيث فشلت الترسانة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية في إحكام سيطرتها على المدينة، أو على طوفان المشيعين الذين تدفقوا من كل حدبٍ وصوب، فأثبتوا أن هوية المدينة كانت وما زالت عربية فلسطينية بطابعها الإسلامي المسيحي.
تُذَكِّر جنازة شيرين بجنازات تاريخية مشابهة شهدتها القدس خلال العقود السابقة، ومنها جنازة القائد الشهيد عبد القادر الحسيني في إبريل/ نيسان عام 1948، وجنازة الشهيد عمر القاسم الذي كان يلقب مانديلا فلسطين في يونيو/ حزيران 1989، وجنازة فيصل عبد القادر الحسيني في مايو/ أيار 2001، وكلها كانت في القدس، بالإضافة إلى جنازتي الزعيم ياسر عرفات والشاعر محمود درويش في رام الله، من حيث الحجم والمشاركة الجماهيرية الغفيرة. ولكن الوداع المؤثر لأيقونة الصحافة الفلسطينية تميّز عن سواه بالتصدّي الشجاع لعنف الاحتلال، وحجم ما اكتنزه المشهد المهيب من مشاعر وشحنات وطنية وعاطفية وإنسانية، تُكثِّف الألم والأحزان والقهر، فتجمعها إلى المظالم الفلسطينية المتراكمة مع الإرادة والتصميم والتحدّي، والحبّ الجارف الذي يكنّه الفلسطينيون لرموزهم ولمن يعبّر عنهم، فتحوّلت الجنازة معركةً حقيقيةً وشاملةً مع الاحتلال.
جاءت جنازة شيرين في ذروة هجوم إسرائيلي شامل على مدينة القدس وسكانها وهويتها الوطنية وطابعها التاريخي التعدّدي الذي عرفت به. ويمكن تعريف هذا الهجوم بأنه مشروع تهويد مدينة القدس وأسرلتها، وهو بدأ مع احتلال القدس الشرقية عام 1967، وتسارع بعد اتفاق أوسلو واستقرار حكم اليمين في إسرائيل، ثم اتخذ قوة دفعٍ هائلة مع إعلان صفقة ترامب نتنياهو، وما رافقها من انخراط دول عربية في مسلسل التطبيع، واستعدادها لإقامة علاقاتٍ دبلوماسيةٍ وثيقة مع إسرائيل، على الرغم من كل ما تفعله في القدس ذات المكانة المميزة في وجدان مئات ملايين العرب والمسلمين والمسيحيين. كما جاءت الجنازة في لحظة ضعف فلسطينية عنوانها الانقسام، وتجلياتها اليومية تتمثل في الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأداء القيادي الرسمي والفعل الميداني، سواء الفردي أو الجماهيري، بالإضافة إلى غياب الاستراتيجية الكفاحية الموحّدة لمختلف الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية.
يميل محللون إسرائيليون إلى القول إن غباء حكومتهم عبر التصدّي للجنازة والنعش، ساهم في انتصار الفلسطينيين في معركة الصورة والرواية، وذلك ما ردّده كل من ناحوم بارنيع وإيتامار ايختر وجدعون ليفي، وأسرة تحرير صحيفة هآرتس وغيرهم ممن وصفوا ما جرى بأنه “جنون مطبق” أو “وصمة عار”. ولكن ما يستبعد رواية الغباء هذه أن السلوك الإسرائيلي الوحشي جرى بمشاركة أجهزة شرطية وأمنية عدة، ما يكشف أن ثمّة قراراً سياسياً حاسماً بهذا الاتجاه اتخذته الحكومة ونفذته الأجهزة الأمنية من دون تردّد.
يتأكد هذا السيناريو من خلال معاودة التعرُّض لنعش الشهيد وليد الشريف ومشيعيه بعد يومين من جنازة شيرين، والمواجهات التي وقعت في قلب القدس ليلة 16 و17 مايو/ أيار الحالي، وأسفرت عن إصابة أكثر من سبعين فلسطينياً وستة أفراد من الشرطة الإسرائيلية، واعتقال نحو مائة شاب وفتاة فلسطينيين، ثم الدعم المطلق الذي قطعه رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، لجنوده حين صرح خلال تفقده وحدات عسكرية جنوب نابلس متحدّياً سيل الإدانات بشأن إعدام شيرين، بأن “كل من يرفع يده على قواتنا في القدس أو يهودا والسامرة (الضفة الغربية) فدمه مهدور”.
واضحٌ إذن أن السلوك الإسرائيلي هو أبعد من الغباء وسوء التقدير، وما وقع في الجنازات لا يمكن فصله عما جرى من مواجهات واقتحامات للمسجد الأقصى ومشروع فرض التقسيمين الزماني والمكاني، فالموضوع يرتبط بمحاولات إسرائيل فرض سيادتها الكلية على القدس بوصفها “عاصمة إسرائيل الموحدة والأبدية”، ما ينعكس على تفاصيل الحياة اليومية في مدينة القدس، ويشمل محاولات أسرلة المناهج والتعليم، وفرض أسماء عبرية على الشوارع والمعالم التاريخية والمرافق العامة، وإعادة تنظيم شبكات الطرق بما يحوّل الشطر الشرقي من القدس إلى “ضاحية” شرقية ضمن الحاضرة الكبرى للقدس الموحدة (متروبوليتان)، والمشروع المعلن لخفض نسبة السكان الفلسطينيين في المدينة من حوالي 40% حالياً إلى ما دون 20%، وذلك من خلال إخراج أحياء فلسطينية كثيفة السكان كمخيم شعفاط، وضم تجمّعات استيطانية قريبة هي أشبه بمدن وضواحٍ مجاورة، مثل معاليه أدوميم وبسغات زئيف، والمستوطنة الكبرى التي يجرى التخطيط لها حالياً شمال القدس في موقع مطار قلنديا.
محاولات فرض السيادة الإسرائيلية الصارمة تُظهر ضيقاً هستيرياً بأيّ مظهر من مظاهر الحضور الفلسطيني، حتى لو كان رفع راية أو ترديد هتافات، أو ارتداء الكوفية، أو تولّي المقدسيين مناصب قيادية في السلطة الفلسطينية، مثل محافظ القدس ووزيرها وأعضاء مجلسها التشريعي الذين سحبت إقامتهم في القدس وأُبعدوا للضفة. وتبدو أيدي السلطة الفلسطينية مُكَبّلة وعاجزة عن توفير مقوّمات ومتطلبات التصدّي لهذه الخطة التهويدية الواسعة التي تتحد في تنفيذها سلطات الاحتلال بكل أدواتها من حكومة وبرلمان (كنيست) وجهاز قضائي وبلدية وجمعيات للمستوطنين، بل هي تبدو عاجزةً عن حل مشكلة أبسط من ذلك بكثير، وهي توحيد المرجعيات الفلسطينية في المدينة، بما يساهم في إعادة تنظيم العملين السياسي والمؤسسي. كما أن الجهات الدولية وحتى العربية المانحة، باستثناءات قليلة، ترضخ لشروط إسرائيل بمنع تمويل مشاريع القدس ومؤسساتها، استناداً إلى بنود في اتفاق أوسلو تمنع السلطة الفلسطينية من القيام بأعمالٍ من شأنها التأثير على الوضع النهائي للمدينة!
وحدهم المقدسيون من يدافعون عن هوية المدينة وطابعها الإسلامي – المسيحي، وهم مجرّدون من كل مقومات الصمود والتصدّي، ما عدا تلك العوامل التي تضطرم في قلوبهم ووجدانهم، مع أن فرصةً موضوعيةً عظيمة تهيّأت لشن هجوم معاكس على مشاريع أسرلة القدس وتهويدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى