شاهد واستمع.. قراءة في إبداع الشَّاعر المصري منير فوزي

صبري يوسف | كاتب وأديب سوري مقيم في السويد

قرأتُ مختارات شعريّة للشاعر المصري د. منير فوزي، فوجدتُ هذه المختارات تعجُّ بالمواضيعِ والأفكارِ والتّامُّلات والجموحاتِ الرّهيفة، شاعر الكلمة الخصبة المتجدِّدة، رَغم أنّ أغلب القصائد كتبها منذ قرابة أربعين عاما حيث كتب معظمها في عقد الثمانينات من القرن الماضي، مع هذا نجدُ جموحاً حداثويّاً وبناءً فنِّياً شاهقاً في الكثيرِ من عوالمِهِ الشّعريّة الشّفيفة.
يتميَّز الشَّاعرُ بلغةٍ مكثّفةٍ عميقةٍ، تحملُ قصائدُهُ في فضاءاتِها مدلولاتٍ معبِّرةً بغناها الفكري والفنّي، ويغوصُ الشاعرُ في تأمُّلاتِهِ في مرامي عوالمِهِ، ولا يتوانى أن ينتقدَّ واقع الحال العربي، أو المصري بكلِّ شفافيّة ووضوحٍ من دونِ مواربة. يصوغ جملته الشِّعريّة من وقائعِ الحياةِ، ومن تدفُّقاتِ أحلامِهِ وطموحاتِهِ، مجسِّداً رؤاه وأفكاره بطريقةٍ سلسةٍ وواضحة، بعيداً عن الألغازِ والرُّموزِ المبهمة، فهو يميلُ إلى تقديمِ آفاقِهِ الشّعريّة بسلاسةٍ ورهافةٍ متماهيةٍ معَ حبورِ الحرفِ وهو ينضحُ ألقاً وبهاءً في رسمِ تجلّياتِهِ، وما يعتملُ في لواعجِ صدرِهِ من براءةِ الطُّفولةِ وعوالمِ الطُّفولةِ بكلِّ براءَتها وجمالها، فيكتبُ لنا نصَّاً دافئاً رهيفاً عن الطّفولةِ تحتَ عنوان: هدى، ففي هذه القصيدة نتلمّسُ كم يحنُّ إلى هذه الفضاءاتِ، وكأنّهُ يقدّمُ لنا حبورَ الطّفولة بكلِّ براءةِ هذا العالمِ الفسيحِ، وكأنّ ما يرسمُهُ منبعثٌ من واقعِ الحالِ حالِهِ، أو يريدُ أن يقدِّمَ لنا رؤيةً بديعةً عن عالم الطّفولة لعلّه يرمي إلى أن هذا العالم هو الّذي يبني الجمالَ عندما ننثرُ فوقَ فضائِهِ أزاهيرَ الفرحِ والحبِّ والعطاءِ لأنّهُ على ما يبدو يستعيضُ مافاته من انكساراتٍ عبرَ عوالمَ طفولته، أقول ربّما، ولهذا يريدُ أن يقدِّمَ أجمل ما لديه للأطفالِ عبر القصيدة وعبر الحياة أيضاً، لأنّ النَّصَ يحملُ بين ثناياه رؤية عميقة في أهمِّية هذا العمر في حياة الإنسان لأنّ كل آفاق المستقبل تنبعُ من هدهدات الطّفولة بكلِّ رحابها وبهائها.
وفي قصيدة “من أسفار الهزيمة”، مرثية أهداها للشاعر أمل دنقل، قصيدة تحمل مضامين راقية، وتحتفي بالبلاد والشِّعر؟، كما تنتقد الواقع المرّ في الكثير ممَّا يتراءى له تصدُّعات صارخة، وتوغَّل عميقاً في مقاطع شعريّة حملت عنوان الإصحاح (1 – 9) وقد جمحَ في هذه المقاطع الرَّهيفة في فضاءِ المناجاةِ، والتَّأمُّلِ الفيَّاضِ، وطرحَ الكثير من التّساؤلات عن الوجودِ، وكينونةِ الحياةِ، وكأنّهُ في سياقِ تقديم مشاعر متلاطمة في فضائه الضّمني، كاشفاً الكثير ممَّا يراوده عبر هذه المقاطع الشِّعريّة، الّتي حلَّق في فضاءاتها عالياً، ووجدتُ أنّه كان بإمكانه أن يكتبَ لنا مئة اصحاحٍ على الإيقاع الّذي قرأته عبر هذه الإصحاحات التّسعة، وأتساءل هل أستوحى “عبارة” الإصحاح من الكتاب المقدّس، أم جاءت عفويّة الإنسيابيّة والإبداع لأنّ ما جاء في الإصاحات مسارات روحيّة وقصصيّة في بعضِ المقاطع، ومتناغمة في الصّور الشِّعريّة الرّهيفة؟!
تحمل فضاءات قصائده لغةً عاليةً محتبكةً بخيالٍ مجنّحٍ نحوَ الصّفاء وروحانيّة صوفية وديعة متناغمة مع رؤاه الفكريّة وجمال الحياة، وكأنّه يرمي إلى ضرورة أن يتطهّرَ الإنسانُ من أعماقهِ ويقدِّمَ أجمل ما لديه للحياة، لأنّ الجمال ينبثقُ ممّا نقدّمه من عطاءات صافية صفاءَ الماءِ والطّفولة ورهافة الطّبيعة الممراحة.
تتنوَّعُ مواضيع الشّاعر، ويتميّز بغزارة وبهاء رؤاه بما يقدِّمُه عبر قصائده، مبتهلاً لجمال الأرضِ، والطّبيعة وروعةِ النّيل، محلِّقاً بسلاسةٍ خلّاقةٍ في موشور صورهِ، ونراه يستخدم لغة الحوار كما في قصيدة: “الّذي قالت الرّيح”، وكأنّه ينسجُ لنا نصّاً مسريحاً شعريَّاً، فيه من جمالية وعمق بوح السُّؤال عبر إيقاع الحوار، بلغةٍ صافية، وكأنّه يخاطب الطَّبيعة بأزاهيرها الجميلة وبهاء جمالها، وكلّ هذا ناجمٌ عن زخمِ مخياله الشّعري!
ونراه في قصيدة: الجسد، ينسج هذه القصيدة وكأنّه في حالةِ تأمُّل وتجلٍّ، فينسابُ حرفه فوقَ مرامي الحياة، منتقلاً من فكرةٍ إلى أخرى، ومن حالةٍ إلى أخرى وكأنّه في تهاطلات حلميّة عبر انسيابه الشّعري!
ونراه في قصيدةِ “العصافير” يواصلُ مع رفرفات أجنحةِ العصافيرِ، وزقزقات شدوها الجميل، وكأنه يريد أن يقول للقارئ كم سيبدو الإنسانُ جميلاً لو حلّقَ عالياً في فضاء السَّماء بكلِّ سموّهِ ونقائِهِ ورهافةِ حبِّهِ وعطائِهِ مثلما تحلّقُ العصافيرُ عالياً وتشدو بكلِّ فرحٍ على وجه الدُّنيا.
وذهبَ الشَّاعر بكلِّ رهافته يكتبُ قصيدةً بعنوان: حصار، واصفاً الانكسارات الّتي تحومُ فوقَ صدغِ البلاد، ولا يتوانى عن ترجمة هذه المشاعر المصطبغة بالأنين والمرارات، راغباً من كلِّ أعماقِهِ أن تسودَ الأفراحَ فوقَ جبينِ البلادِ، كي يعيشَ المرءُ في حالةِ وئامٍ معَ أحبّائِهِ فوقَ ترابِ وطنه!
ونراه في قصيدة البحر، يغوص في لبِّ الحياة، بحثاً عن نضارةِ القصيدة والحياة الهانئة، بعيداً عمَّا يمكنُ أن يصادفنا من منغِّصاتِ الحياة. ويحفلُ شعرُ الأديب والشَّاعر منير فوزي بوهجِ السَّردِ في بعضِ قصائدِهِ، كما في قصيدةِ: “القطاة الَّتي احترفت مهنة الموتِ”، لكنّه يصوغ هذه الفضاءات السَّردية القصصيّة، بشاعريّةٍ حيَّةٍ على إيقاعِ فضاءِ السَّردِ الّذي ينسجُ نصَّهُ في متونِهِ، فتأتي القصيدةُ منبعثة بتفرُّعات رحابةِ الحياةِ.

^^^^^^^^
قدمتُ هذه الورقة في أمسية خاصة في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح استضافت الشاعر المبدع د.منير فوزي، مساء الجمعة 18 فبراير 2022بمشاركة نقاد وناقدات وإدارة الناقدة اللبنانية د. دورين سعد وشاركنا الأديب والشاعر السوري صبري يوسف، الناقد العراقي د. سعد محمد التميمي، الناقد الأردني د. عاطف الدرابسة، الشاعرة السورية د. ميديا شيخة، الناقد التونسي د. حمد حاجي، الناقد العراقي د. خليل شكري هياس، الناقد المصري د. نبيل مختار، الشاعرة السعودية فايزة سعيد، الناقدة اللبنانية د. درية فرحات والكثير من محبي الشاعر وأصدقائه وصديقات المنتدى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى