حكم الرويبضة وإشكالية القدوة في وطننا العربي

عماد خالد رحمة | برلين
لم تتوقف القناعات التي تؤمن بها الأجيال الجديدة من أبناء أمتنا العربية من حيث اعتبارها شديدة الوثوق بالمفاهيم والمعاني التي يؤمن بها المحيط الاجتماعي والثقافي المنطلقة من رجال الدين. حيث أنَّ الثقة المطلقة بتلك المصادر استمرت عشرات بل مئات السنين دون أدنى مراجعة عقلية أو منطقية لهذا الماضي. بخاصة وأنّ ما نتج عن فقهاء ومدّعين ومسؤولين ورويبضة كان مقبولاً عند تلك الأجيال واعتبرته ملزماً وسليماً وأقرب إلى تحقيق عيش ورغد الناس وسلامتهم بشكلٍ عام .
لقد تمثلت تلك الظاهرة في تاريخنا العربي في المكانة القائدة المؤثرة الموثوق بنزاهتها وصدقها لكبار شخصيات فقهاء المسلمين عبر التاريخ، من أمثال مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان، ومحمد ابن إدريس الشافعي ،وابن حنبل الشيباني الذهلي ،وجعفر الصادق. وبعد إزاحة المنهج الديني من مكانة الصدارة في الحياة الحديثة والعصرية من قِبَل الحضارة الغربية وسطوع وهجها، وصعود مكانة الأيديولوجيات والفلسفة والعلوم الطبيعية وعلوم الاجتماع، حلَّ مكان القادة الدينيين الأقدمين ،الفلاسفة والمفكرون والمثقفون الأيديولوجيون والعلماء المخترعون، من أمثال الفيلسوف والكاتب والأديب وعالم النبات الجنيقي جان جاك روسو، وليو تولستوي الذي يعدّ من عمالقة الروائيين الروس وهو مصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي ،ويعدّ أيضاً من أعمدة الأدب الروسي. والفيلسوف والمفكر الألماني كارل ماكس، والعالِم الألماني ألبرت أينشتاين واضع النظرية النسبية الخاصة والنظرية النسبية العامة الشهيرتين اللتين كانتا اللبنة الأولى للفيزياء النظرية الحديثة والمعاصرة، والطبيب النفسي النمساوي سيغموند فرويد، واللورد برتراند أرثر ويليام راسل، والفيلسوف والروائي والكاتب المسرحي وكاتب السيناريو والناقد الأدبي الفرنسي جان بول سارتر، والمناضل العالمي أرنستو تشي غيفارا، وأنطونيو غرامشي الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي صاحب كتاب مذكرات في السجن. أما في بلادنا العربية فقد حلَّ أمثال المفكر الشيخ محمد عبده، والمفكر والناقد المصري طه حسين، والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، والمفكر السوري ميشيل عفلق، والمفكر الإسلامي المصري حسن البنا، والأديب اللبناني جبران خليل جبران وغيرهم كثير. وبالطبع لا يتسع المجال لذكر المئات الآخرين المنتشرين على مستوى مساحة الوطن العربي وخارجه.
المهم في الأمر أنَّ التاريخ بشكلٍ عام يعلِّمنا بأنه لا تخلوا عوالم أي جيل من الأجيال من أسماء أشخاص اعتبرتهم تلك الأجيال مصادر إشعاع فكري وثقافي أو معرفي أو نضالي سياسي جديرة بالاحترام والتقدير والاقتداء بأفكارها ،وما أنتجته من مفاهيم وأفكار ناضجة إيجابية لها دورها الفعّال ،ولها اكتشافاتها الهامة. ومع أنَّ بعض تلك الشخصيات القدوة انتهوا أحياناً بارتكاب الأخطاء الفادحة التي لا تغتفر، وأحياناً أخرى بالانتهازية والوصولية وخيانة الأمانة الفكرية والثقافية والنضالية، ومثلوا بالتالي أحد مصادر فواجع الأمة ويأس مريديهم وأتباعهم، إلا أنَّ ظاهرة وجود المثل القدوة أو الإشعاع الفكري والإبداعي المتميز ستبقى متواجدة في حياة المجتمعات البشرية إلى الأبد مهما مرّ عليها من ظروف مأساوية. إنها ظاهرة لها أسبابها النفسية والاجتماعية والذهنية والعاطفية الملازمة للإنسان. من هذا السياق وتلك الاستفاضة يمكننا طرح السؤال التالي الذي نعتبره هاماً وهو: ما أنواع وصفات الأمثال القدوة في حياة الأجيال الشبابية العربية الحالية ؟ هل هم في حقيقة الأمر قادة الفكر والاكتشافات والأيديولوجيا والنضال السياسي المثابر والمضحي المتميز؟ أم أنهم قادة جاؤوا من عوالم أخرى لهم نشاطاتهم وتميزاتهم الخاصة ؟وهل لهذا التغير والتبدل في الأمثال القدوة نتائج سلبية أخرى، بل وكارثية مميتة ؟
في حقيقة الأمر يكمن الجواب في ما طرحته التغيرات العربية المتلاحقة والسياقات العولمية الهائلة التي رانت على حياة البشر وتدخّلت في تفاصيل حباتها بشكلٍ مباشر وغير مباشر في الآونة الأخيرة. فقد كوَّن النظام الفني والإعلامي بكل ثقله الثقافة العولمية المعلّبة على خلق ونشر وتشجيع الفساد والمفسدين ونشر التفاهات على مختلف مستوياتها. وذلك من خلال تمجيد أخلاق وأفكار وسلوكيات المجتمع الاستهلاكي المبرمج، والانغلاق المحكم على الذات الفردية الأنانية المنشغلة بشكلٍ دائم بعالم الإثارة الغريزية الجسدية ،في كل أشكالها وبأي ثمن كان. وأمام هذا الفرد ألوف الكتب والأفلام والمسلسلات وأغاني التنمية الفردية التي تشير إلى مئات بل ألوف طرق الوصول إلى تلك الذات العليلة التي باتت تعاني من سقم دائم. ليس هذا فحسب بل إنَّ تلك الموجة الهائلة من الثقافة العولمية، تميز غالبية الحياة الجمعية العربية بشكلٍ عام بتجذّر ثقافة دينية وطائفية ومذهبية سطحية مظهرية، تحارب كل تجديد فكري ديني حقيقي وموضوعي ضروري، وترفض أي خروج من دائرة التجمد الفقهي والعقائدي الاجتهادي السلفي. كما تتميز بثقافة إعلامية عشائرية وأبوية قبلية متسلطة ،تعادي كل ما هو ديمقراطي تجديدي في السياسة والفكر والثقافة والمعرفة، وتنشر كل ما هو سطحي وغوغائي في عوالم الأدب والفنون والرياضة والأنشطة الإنسانية والاجتماعية .ونتيجة لتلك العوامل الثقيلة جداً، انزوى عدد كبيرمن المفكرين والمثقفين العرب عن الانخراط في الحياة السياسية النضالية الجادّة التي تحمل معانٍ إنسانية ووطنية سامية، والاكتفاء في أفضل الأحوال بممارستها بكثير من الحيطة والحذر في القول والكتابة والممارسة اليومية والتخفي وراء الكلمات والمعاني الغامضة. لقد ذهبت تلك الفترة التي كان المفكرون والمثقفون في طليعة المتظاهرين ،وفي قلب صخب الخطابات الشعبية ومن أوائل الموقوفين لدى السلطات الحاكمة والمسجونين في أقبيتها .
بالطبع، ما كان ذلك ليحدث لولا السيطرة وهيمنة القبضة الأمنية الحديدية الباطشة للسلطات الحاكمة، والمحاربة الظالمة الممنهجة في الرزق والعيش الكريم، والإبعاد المتعمد عن كل منابر الرأي والتعبير في الحياة المجتمعية الوطنية أو القومية.والنتيجة المستخلصة هي اختفاء أشخاص القدوة من المثقفين والمفكرين الملتزمين والمناضلين بشجاعةٍ وبطولةٍ دون خوفٍ أو وجل، ليحلَّ محلهم الرويبضة والمتثاقفين والمتعالمين والمتفيقهين وأبطال الرياضة والرقص المبتذل، والأغنية الهابطة البليدة المائعة، والمهرِّجون الشعبويون في أمور الدين والأدب والسياسة المبتذلة المجنونة ،والخارجون على الأعراف الاجتماعية الأخلاقية المتزنة.
لقد عاشت وما زالت أمتنا العربية تعيش حالةً من الانتكاس والنكوص نتيجة غياب الشخصيات القدوة، المعنيين بالتغييرات البنيوية والتجديدات الكبرى في مفاصل الحياة العربية ،وتعاني من فقدان الملهمين والمحركين لعقول وأرواح الأجيال الجديدة بنسب قياسية، والتي باتت تخاطب غرائزهم ورغباتهم النفسية والجسدية العليلة. هذا الغياب الذي نعتبره غياباً بنيوياً وجوهرياً يمثل كارثة تضاف إلى عشرات بل مئات كوارث وطننا العربي المنهك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى