يوم أن كان حُلْونا (اللفت)!

صبري الموجي|رئيس التحرير التنفيذي لجريدة عالم الثقافة
خرجنا مع شروقِ الشمس في جولة بين الرياض الغناء؛ لننعمَ بظل الأشجارِ مُتصافحة الأغصان، التي تراصت علي جانبي طريق تُرعة(العموم)، وحطتْ فوقها أسرابٌ من البلابل تشدو، ووفودٌ من العنادل تُغرد.
كان منظرُ الخُضرة التي كست الحقولَ أشبه ببُساط من السُندس الأخضر تُسرُ العينُ برؤيته، كما كان الهواءُ عليلا رطبا بفعلِ قطرات الندي التي بدت كورا صغيرة لامعة علي وريقات الأشجار والنباتات، والتي سرعان ما تذوب مع أول رسولٍ من رُسل أشعةِ الشمس، أخذنا نلهو ونمرح ونتسابق لنري أيَّنا يصلُ إلي الساقية أو (الحلوفة) أولا؛ ليستمتع بخرير الماء، ورذاذه الذي كان يُداعب وجوهنا فيملأ النفسَ نشوة والقلب سعادة، كان منظرُ الجداول التي سار الماء فيها صافيا عذبا، وبدت في قيعانها الحشائشُ الخضراء، أشبه بلوحة جميلة برع فنانٌ في رسمها، والتنسيق بين ألوانها، كما كان منظرُ أسماك البلطي مُتفاوتة الأحجام وهي تتقافزُ في ماء التُرعة الصافي لتلتهم قطع الخُبز مثارًا للدهشة والعجب.
وفي خضم استمتاعنا بتلك الجولة بين الرياض الغناء، شعر ثلاثتُنا بالجوع، فلم يكُن في ترتيبنا أننا سنقضي كلَ هذا الوقت خارج البيت، ولكنْ كان لسحرِ الطبيعة قرارٌ آخر، فعزمنا ألَّا نقطع جولتنا في تلك الطبيعة البكر والجو الصحو، إلا أن الجري واللعب، أيقظ فينا كلبَ الجوع، فاتفقنا علي أن يذهب كلٌ منا إلي بيته، ويُحضرَ سريعا بعضا من الطعام، ثم يؤب راجعا لنستأنف اللعب والمرح.
كانت حياتُنا بسيطة خالية من عُقد المدنية ومُكِدراتها، فنكصتُ إلي البيت أفُتش عن شيء من طعام فلم أجد، حيث كانت أختي الصغري (سلوي) مُنشغلة بتقطيع شرائح من البطاطس والباذنجان لتقوم بقليها، فقلت في نفسي لو انتظرتُ حتي تُجهز (المسقعة)، فسأتأخر علي رفيقي، ويضيعُ اليومُ هدرا، فهرعتُ إلي (برطمان) المُخَلل، واستخرجتُ عددا من كور الليمون (المُعصفَر) ووضعتُها في طبق، وصررتُ إلي جانب الليمون عددا من أرغفة الخُبز، وقلت في نفسي: شيءٌ من الغموس أفضلُ من عدمه، مُمنيا نفسي بما سيُحضره رفيقاي محمد النادي، ومحمد علي العطار ممَّا لذَّ وطاب من الطعام، وربما أسعدنا الحظُ وأحضر محمد علي قطعة من (الحلاوة الطحينية)، التي كان يُحضرها والده – رحمه الله – في صورة قوالب مُستطيلة ليبيعها في محل بقالة لهم كان مَقصد الجميع من شتي جوانب القرية.
إلا أن ما فكرتُ فيه فكر فيه رفيقاي أيضا، واتكل كلٌ منا علي أخيه، فلم يجد الاثنان طعاما مُعدا، فأسرع محمد النادي إلي (جَرة) التخليل، وكان في إقدامه علي (الجَرة) أشبه بفاتح حصن بابليون، واستخرج عدة قرون من الفلفل المُخلل، مُمنيا نفسه بأن رفيقيه سيأتيان بما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ به الأعين.
وأخذ محمد علي هو الآخر، يجوبُ أرجاء الدار عساه أن يجد شيئا من طعام فلم يجدْ، فرنا بناظريه صوب باب محل البقالة، ولكنه كان موصدا بقفل من حديد، فهرع إلي (جرة) المُخلل، وكانت تُسمي في ريفنا المصرى (زلعة)، واستخرج ثلاثة أصداغٍ من اللفت، واللفتُ هو نباتٌ يشبه البنجر، كان يُخَلل رأسه وعروقه، فيُقطع الرأس إلي شطرين، يُسمي كلُ شطر (صدغا)، ووضعها – أقصد الأصداغ الثلاثة – في طبق صغير بصحبة رغيف من الذرة شبيه بالطبق الطائر، وخرج من بيته يُوسع الخُطي صوب رفيقيه والرياض الغناء.
وفي موعد الإياب، التقي ثلاثتُنا، وشرع كلُ واحد يفضُ بكارة صُرته، ويكشفُ عما بها، فأسرعتُ مُعللا أنني أحضرتُ ليمونا مُخَللا، حيث لم أجد طعاما مُعدا، واستغرقت بخيالي فيما ستُحضران معكما، وإذا بمحمد النادي ينفجرُ ضاحكا، ويُخرجُ من صرته قرون الفلفل الحار، التي بدت أشبه برماحٍ معقوفة تقطُر دما، فصرخ محمد علي مُستلقيا علي ظهره من شدة الضحك، وقال : لم أكن أفضل حالًا منكما، إذ أحضرتُ ثلاثة أصداغٍ من اللفت.
فرضينا بما قدره الله مُحوقلين ومُحسبنين، واتفقنا بعد المداولة علي أن نبدأ بأكل الفلفل؛ اعتمادا علي أن هناك صنفين آخرين من المُخلل يُخففان من وطأته، بعدها نُثني بالليمون المُعصفَر، ثم نُحلي باللفت ظنا أنه سيكون بَرْدا وسلاما، فإذا به نارُ الله الموقدة، وكان قرارُنا بئس القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى