جائزة البوكر العربية.. إلى أين؟!

د. عبير خالد يحيي | ناقدة ذرائعية -من سورية
تردّدت كثيرًا قبل أكتب هذا المقال عن جائزة البوكر العربية لهذا العام, وكنت قبلًا – ولا أزال- لا أهتم بشأن الجوائز الأدبية, خصوصًا بعد أن اطلعت على قصة قصيرة كانت فائزة بجائزة الطيب صالح قبل أربع سنوات تقريبًا, حيث كانت قصة قصيرة دون المستوى بشكل ملحوظ, مع كم هائل من الأخطاء النحوية والإملائية في نص قصير نسبيًّا, وأقولها صراحة, هناك الكثير من الاعتبارات الخفية التي تؤخذ بنظر الاعتبار في هذه الجوائز, فعملاق الأدب العربي نجيب محفوظ لم ينل جائزة نوبل عن أفضل أعماله, نالها عن (أولاد حارتنا) ولم تكن أعظم أعماله, بل كانت رواية مدعاة للجدل في وقتها وما تزال, وليست هي الشاهد على عبقرية هذا الأديب التي ما زالت إلى الآن مثار إعجاب وانبهار, لكن ما دفعني هذه المرة إلى تناول هذا الموضوع هو الجدل الذي أثير حول استحقاق هذه الجائزة لهذا العام, ست روايات وصلت إلى القائمة القصيرة لهذه الجائزة, هي” بريد الليل” للكاتبة اللبنانية هدى بركات, “شمس بيضاء باردة” للكاتبة الأردنية كفى الزعبي, ” الوصايا” للكاتب المصري عادل عصمت, ” صيف مع العدو” للكاتبة السورية شهلا العجيلي, ” النبيذة” للكاتبة العراقية إنعام كجه جي, ورواية ” بأي ذنب رحلت؟” للكاتب المغربي محمد المعزوز.
هناك ثلاث كاتبات كن قد سبق لهن الوصول للقائمة القصيرة لهذه الجائزة, وهن إنعام كجه جي, وشهلا العجيلي, أما هدى بركات فكانت وصلت للقائمة الطويلة عام 2013
تكوّنت لجنة التحكيم لهذا العام من :
– شرف الدين ماجدولين ( رئيس اللجنة ) أكاديمي وناقد مغربي مختص في الجماليات والسرديات اللفظية والبصرية والدراسات المقارنة.
– فوزية أبو خالد: شاعرة وكاتبة وأكاديمية وباحثة سعودية في القضايا الاجتماعية والسياسية.
– زليخة أبو ريشة: شاعرة وكاتبة عمود وباحثة وناشطة في قضايا المرأة وحقوق الإنسان من الأردن.
– لطيف زيتوني أكاديمي وناقد لبناني مختص بالسرديات
– وتشانغ هونغ يي: أكاديمية ومترجمة وباحثة صينية.
صدمني جدًّا أن يكون في لجنة التحكيم شاعرات تم التعريف بهن بصفة (شاعرة) بالدرجة الأولى! حتى ليظن أننا في جائزة للشعر وليس للسرد, بالإضافة إلى المترجمة الصينية التي لم أعرف ماذا يمكن أن يكون دورها في لجنة تحكيم مسابقة أدبية عربية! حتى لو كانت باحثة في الأدب العربي فهي قد قُدّمت كمترجمة وأكاديمية وباحثة صينية. والسؤال الذي يطرح نفسه, هل تكفي هذه اللجنة بعدد أعضائها الذي لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة لتحكيم جائزة أدبية كبيرة بحجم جائزة البوكر؟
لفتني وزاد من استغرابي وجعلني أفتح فمي على آخره ما قاله رئيس اللجنة وهو يحدد المعايير التي اعتمدتها اللجنة لاختيار الرواية الفائزة, قال بالحرف : “لا توجد في نهاية المطاف معايير ثابتة لاختيار النصوص الروائية الجيدة من النصوص غير الجيدة, نحن نضع معايير كلجنة تحكيم لأنفسنا, ولهذا تختلف صيغ التحكيم من لجنة إلى لجنة, ولهذا قد تنتصر لجنة إلى اختيارات قد لا تنتصر لها لجنة أخرى, نحنا كان أمامنا مشهد روائي متنوع, وكان من الضروري لنا أن نختار نصوصًا تقنع شرائح مختلفة من القرّاء, نحن لا نقدم رواية للأكاديميين _ ولو أننا أكاديميين _ لكن نقدم رواية يستطيع أن يقرأها كل الناس وأن تمتّعهم وأن تقنعهم, هذا الشرط كان شرط أساسي أن تكون الرواية ممتعة في نهاية الأمر”.
وهنا أقف وقفة طويلة, كيف تقام جائزة أدبية عربية كبيرة دون أن يكون لها معايير؟! هذا يحيلها وبشكل سافر إلى المزاجية, لا أقول الانطباعية لأنني أشك بأنها انطباعية بريئة, ولم أظلمها إن قلت مزاجية, لأنني نحّيتها عن الشللية والاعتبارات الخفية, والغريب أن من يقول هذا الكلام أكاديمي, أفلم يجدوا في مدارسهم الأكاديمية الكثيرة معيارًا واحدًا يمكن أن يعادل كفة المزاجية؟!على الأقل العمل بالمعاير السبعة للنص المعروفة بشكل عالمي في الأدب، أومعاير هاليدي أو المعايير المفصلية للنص الروائي الموازي….!؟
ثم ما هذه الديكتاتورية التي يمارسونها على القرّاء بتقديمهم نصوصًا روائية أمتعتهم هم وأقنعتهم هم؟! القرّاء وضعوا ثقتهم بكم على اعتبار علمكم النقدي والأكاديمي, وليس على ذائقتكم (الشعرية) أو البحثية ( السياسية والاجتماعية) أو علومكم الترجمية, على أساس اختصاصكم في الجماليات والسرديات اللفظية والبصرية ( وقد خلت منها الرواية الفائزة / بريد الليل/ ) الرواية التي ضجّت بالكثير من الألفاظ والتراكيب الخارجة عن علم الجمال والأدب!
يضيف رئيس اللجنة قائلًا:
” المسألة الثانية هي في كتابتنا الروائية أننا يجب أن نتجاوز شيء اسمه موضوع جديد, نحن أمام صنعة روائية قد تستطيع أن تجد لها اختراقًا أسلوبيًّا ضمن موضوع مرمي على الطرق, الكل يكتب عن الحرب, الكل يكتب عن الذاكرة, الكل يكتب عن التاريخ, والكل يكتب عن خيبة الأمل, حتى التقنيات, تقنيات كتابة الرسائل هي تقنية شائعة في الصنعة الروائية, لكن الصيغة التي قدم بها النص هي صيغة شديدة الاتقان وصيغة مقنعة وصيغة جذابة بالنسبة لهذا النص الذي كان من الممكن أن يكون طويلًا جدًّا لكنه هُذِّب ونُقِّح- كما أفترض_ عشرات المرات كي يقدم بهذا الشكل” .
في هذا الكلام أتوافق معه, لا موضوع جديد, ولا أحداث جديدة, وإنما هي أحداث مكرّرة على اعتبار أن الحياة طويلة والأحداث فيها لا تتجاوز بضع وثلاثون حدث على أبعد تقدير, وأيضًا التقنيات, مع أن هناك تقنيات معاصرة لكنها باتت معروفة, وعليها تقاس حرفنة الكاتب, بالاعتماد على مقدرته على استخدامها أولًا, وحسن توظيفها بما يخدم النص ثانيًا, بالنسبة لتقنية الرسائل, والرسائل تعتبر من أهم المصادر التي تعطي صورة واضحة عن الأحوال التاريخية والسياسية في الفترة التي وضعت فيها الرسائل, وتظهر التغيرات في الجوانب المختلفة على مرّ العصور, ويطلق لفظ الرسالة على ما ينشئه الكاتب من نسق فني جميل في غرض من الأغراض, ويوجهه إلى شخص آخر, أو هي مخاطبة كتابية يوجهها شخص لآخر في موضوع أو مواضيع لا يمكن حصرها, تتوزع بين إبداء مشاعر وجدانية أو عاطفية, أو ما يدخل ضمن اللياقات الاجتماعية, وللرسالة عناصر كثيرة ينبغي مراعاتها – حتى وإن كان الكاتب يستخدمها كأداة أو تقنية في عمله الروائي, حتى لا يفقد خاصية الإقناع- أهم هذه العناصر :
– العنوان الجغرافي وهو ما أغفلته الكاتبة, حتى أنها في إحدى الرسائل جعلتنا في لبس بين كندا أو فرنسا او لبنان.
– ذكر اسم المرسل إليه كاملًا, لم نشهد أي اسم, فقط اللقب ( أبي , أخي , أمي…)
– مقدمة الرسالة : تقديم مختصر وعام لموضوع الرسالة
– موضوع الرسالة: وهو الجزء الأهم الذي يحمل الموضوع والفكرة الرئيسية التي تمت من أجلها الرسالة, وقد استخدمت الكاتبة هذه الجزئية بتقنية الاعترافات وتدفق سيل الوعي والذكريات, والمونولوج الداخلي, وهذا يُحسَبُ لها, وإن كان هناك مباشرة وتقريرية في مواضع كثيرة.
– التوقيع: وهو العنصر الذي تختتم به الرسالة, وهو ما حرمتنا الكاتبة منه, وأوقعتنا في دوامة البحث عن كل شخصية بعد الانتهاء من الرواية لنستطيع التمييز بينها, وإن كان هدف الكاتبة تسطيح الشخصية بالأبعاد الجسدية, والهوية الشخصية, فأقول أن ذلك أفقدها خاصية الإقناع, لنجد لاحقًا أننا فقدنا أيضًا خاصية الإمتاع لتوهاننا بين شخصيات متتالية ومتداخلة دون أن يكون لها دلالة, حتى ولو كانت دلالة اسمية.
– تسجيل التاريخ : تاريخ تدوين الرسالة, طبعًا كان هذا التوقيع غائبًا, ما أربكنا – كقرّاء- في تمييز الخط الزمني (Time-line ) الذي امتدت عليه الرواية.
الملاحظة الهامة جدًّا هي أن الكاتبة قدّمت لنا الرسائل بأسلوب واحد, فالرسالة هنا تنوب عن الحوار, الحوار الداخلي الذي تتحدث به الشخصية عن نفسها, نوازعها, انفعالاتها, مستواها الثقافي والاجتماعي, بمعنى أدق, الحوار الداخلي يصف الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصية, وهنا قدّمت لنا الكاتبة شخصيات تملك تقريبًا ذات الأبعاد, شخصيات توحّدت بالنفي عن وطنها, مُهَجَّر أو مُهاجر, توحدت بالشذوذ عن الفضيلة المجتمعية ( العربيد, المخنث, المومس, القاتل, الإرهابي, السارق….) مسطّحة بالأبعاد الجسدية وهذا مألوف في الرواية المعاصرة, لكنها جعلت الشخصيات تكتب بذات الأسلوب, ذات الألفاظ والتراكيب والعبارات, ما يجعل القارئ فعلًا لا يميز بين رسالة وأخرى, أي لا يميز بين شخصية وأخرى إلا بالأحداث التي تسردها, حتى تلك الأحداث متشابهة, هذه الرواية كان ينبغي أن يبذل عليها جهد أكثر حتى تستحق الفوز, أن تكون الحبكة محكمة أكثر, النهاية ( موت البوسطجي) لم تقنعني ولا حتى رمزيًّا.
وأنا قرأت من القائمة القصيرة روايتين, (بريد الليل) الرواية الفائزة, ورواية ( النبيذة) للكاتبة العراقية إنعام كجه جي, والحقيقة أن الرواية الثانية كانت رواية احترافية من الطراز الرفيع, توفّر فيها عنصر التشويق من العنوان إلى النهاية, كما أجادت الكاتبة في حبك محاور الروي بالشخصيات والأحداث وتضفيرها بتشابك سردي متقن, مستخدمة كل التقنيات السردية من حوارات خارجية (مفتقدة بالرواية الفائزة) وحوارات داخلية وتدفق سيل الوعي والذكريات والخطف خلفًا, وناقشت موضوع الجنس بطريقة غير مبتذلة, جماليًا, للكاتبة قاموس راق من الصور والتراكيب والجمل المرسومة بريشة فنان, تخدم سياقات النص بأسلوبية مدروسة, خط الزمن محدد بدقة, كما المكان, ما جعلنا نعيش الأحداث بالبيئات التي حدثت فيها وبالزمان والشخصيات, رواية لم تقصّ الكاتبة بجعلها رواية نفسية حال الروايات المعاصرة, لكنها أيضًا لم تخرجها عن إقناع الرواية الواقعية وإيهامها, وبالمقارنة مع الرواية الفائزة من حيث الإقناع والإمتاع والتقنيات (وهي المعايير التي وضعتها اللجان لنفسها) أرى أن رواية ” النبيذة” مستوفية لشروط الفوز أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى