النهضة العربية وفقدان معايير الحداثة

عماد خالد رحمة | برلين

يعبِّر مفهوم التنمية المطرد عن سمة شاملة وجوهرية في العملية المجتمعية التي تهدف إلى إجراء تحويل عميق وجذري في الحياة الإنسانية بكل مظاهرها وتجلياتها، التي تشترك العلوم الإنسانية بكل مجالاتها حسب ميادينها المحددة واختصاصاتها. بما فيها مواجهة التحديات على أنواعها وقياساتها، ولاسيما تلك الناشئة عن أخطار إرث التخلف المزمن والهيمنة الأجنبية وسيطرتها على البلدان النامية، كذلك معوقات التبيعة العميا للآخر الــ (هم) وفي حقيقة الأمر لم يكن هناك أي إمكانية لمعرفة الفرق بين مفاهيم التخلف والتحديث الذي بحث عن جوهرها الفكر النهضوي العربي عبر أجيال من القرنين التاسع عشر والقرن العشرين. لأنه كان بعيداً عن أي تنبيه صريح وواضح للفصل النهضوي والسياسي الراهن ،بما يعني أنّ الأسئلة الرئيسة للنهضة قلَّما كانت متميزة عن الظروف الحالية المحيطة بها، ومن أهمها الضغوط والتحديات السياسية التي كانت غالباً ما توصف بكونها تحدياتٍ مفصليةٍ ومصيرية، تتعدى المسؤولية الفكرية الخالصة، كيما تتناول وجود الأمة العربية واستمراريتها عينها دون غيرها. وهو أمرٌ يكاد يكون مفهوماً ومألوفاً بالنسبة لأمتنا العربية الواقعة دائماً تحت تسلط وهيمنة القوى الخارجية التي تميزت بعواملها الحضارية المتفوقة التي حُرمت منها هي لأسباب عديدة لا مجال لذكرها، وطيلة عصورٍ مغرقةٍ في الماضي. فكان الوعي النهضوي العربي مشدوداً باستمرار على وتيرةٍ وحيدةٍ. يحتلها عنف المضاهاة والمشابهة بين (الأنا) و (النحن) أي بين الذات والآخر أو بتفصيل أدق بين الــ (نحن) والــ (هم). إنه ذلك العنف والفتك الذي يغذي سيكلوجية الإضطهاد الجمعي العربي تحت وطأة الشعور بالانتقاص والدونية المسلوبة الإرادة، إزاء طغيان الآخر الـ (هم) وسطوته ليس بأدوات سيطرته المادية (العسكرية) المباشرة فقط، ولكن كذلك بأسرار الشخصية الحضارية الغامضة والمعقدة، القائمة خلفها هذه العلاقة الضدية بين الذات والآخر. بين الــ (نحن) والــ (هم) حكمت في تأسيس الأسباب والدوافع الأولى للحراك العام الموصوف بالاجتماعي. الأمر الذي أعاق نشأة الفكر العربي بما يرجع أولاً لذاته. فكان انشغال النخبة الفكرية والثقافية بابتكار الحلول الآنية لتراكم القضايا العالقة والمشكلات العامة الراهنة والطارئة، يجعل النهضة العربية في منأى عن طرح الأسئلة الرئيسية، المتعلقة بالعقل العربي نفسه الذي سعى ويسعى إلى فهم الواقع والتعامل معه بعقلانية. وفي حين تقع المتغيرات الموضوعية من سياسة واقتصاد وحتى المتغيرات العسكرية من حول الإنسان العربي، إلا أنَّ طريقة وَعْيه وفهمه لها تظل في منأى عن مساءلتها لأجهزتها المعرفية (الأبستمولوجية)، وقد راحت تمارس عاداتها الذهنية والمعرفية التقليدية، خاضعةً لذات المقاييس التي يتبناها الفهم الجمعي التقليدي لأشياء العالم المحيطة به. ما يمكن التعبير عنه فلسفياً بالقول إنَّ الحالة ما قبل المعرفية أو اللامعرفية، تتابع طغيانها وسطوتها على الحالة المعرفية البعدية اللاحقة بها. وهذا مؤداه أنّه إذا كان العقل العربي يرى إلى العالم من خلال منظار أسود مظلم، فسوف يستمر في رؤيته مظلماً إلى مدىً بعيد، وإن كانت تجتاح العالمَ عواصفُ الأهوال والأنواء والأضواء من كل جهة من جهات الأرض. فإن فهم العالم لا بدَّ أن يكون كونياً عالمياً من طبيعة موضوعه، بينما ينوء الوعي العربي تحت وطأة ظروفه القهرية الخاصة به .هكذا كانت ثنائية الــ ( النحن) والــ (هم) أي ثنائية الذات والآخر التي تحكمت في مسيرة النهضة العربية، تفجّر مراحل جدليتها التاريخية عبر معارك لا طائل تحتها لأنها عقيمة، ما دامت لا تستطيع أن تتعامل مع الآخر الـ (هم) إلا بذات أنظمتها المعرفية التي تتعامل بها مع نفسها الــ (نحن) وتدير شؤونها بحسبها. فراحت كل حقبةٍ في تاريخية النهضة تعيد إنتاج حصائل الحقبة عينها التي سبقتها من قبل. ذلك أن الفكر النهضوي العربي كان معاقاً باستمرار وعاجزاً، سواءً اتجه إلى تفكيك عِقَدِ الذات الـ( نحن) والكشف عن آليات تكوينها، أو اتجه نحو فهم الآخر الــ (هم) في محاولة لتخطي ممارساته الضدية، وصولاً إلى سبْر جذور نجاحه وتفوقه. فالأسئلة (الأبستمولوجية) المعرفية معطلة تحت وطأة البحث عن طرق ووسائل الدفاع الآنية لدى الذات الـ (نحن) للرد على تحديات الآخرالــ (هم) الذي غالباً ما يملأ الفضاء العربي بالمعارك الحدية والقاسية خلال هجوماته الحضارية المتواصلة أو غزواته الاستعمارية المتتالية. من هنا كان وقوع الوعي النهضوي العربي تحت وطأة إشكالية تظاهرات المماثلة والتقليد، وحالات التماهي مع الآخر الـ (هم) والردّ عليها بالرفض الحدّي تارة، أو تجاهل إشكالية العلاقة أصلاً، والاعتراف العاجز بخطرها الحقيقي تارةً أخرى، ما يشكّل سيكلوجية معقدة متراكبة ومتشابكة، مانعةً مقدماً، للبحث عن أيِّ عملية تجسيرِ تواصلية سليمة بين نشوء وتكون أسئلة الذات الـ ( نحن) عبر الآخر الــ (هم)، وبين عملية اكتساب وتنمية الأجوية الجوهرية التي تخصّ الذات الـ (نحن) وحدها باستقلال أنطولوجي عن عنف وشدة فتك الثنائية الصراعية عينها بين القطبين، بحيث أن غياب العقل العربي المعرفي أعاق دائماً ولادة الأسئلة الجذرية والأساسية، مانعاً خاصةً سؤال الكشف وفتح الستار عن أصول التقدم وشروطه، كما لو أنها لا تنبع من ظروف الأمة القومية، وإمكانيات مجتمعاتها الحالية خاصتها. فجدلية المثاقفة كانت ممتنعة بشكلٍ عملي عن التحقق التلقائي. وكان البديل الدائم عن تلك المثاقفة هو سهولة التقليد. إذ إن المثاقفة الحقيقية تتطلب إمكانية التبادل .

في حين أن المجتمعات المحجوزة في أسار تراجعها وتأخرها التاريخي عندما يُفاجأ بكل فعاليات الآخر الــ (هم) المتقدم عليه في كل شيء، لا تسمح له صدمة المفاجأة الدائمة أن يتجاوز عتبة رد الفعل الغريزي، وهذا الفعل يتمثل في الاندفاع وراء جاذبية التقليد والمحاكاة المباشرين، القائمان فقط على فعل الأخذ من الآخر الــ (هم)، دون القدرة على إعطائه له ولذاته الــ (نحن) معاً، ما يقابله. فالتقليد والمحاكاة هما أخذ بدون كشف للذات الــ (نحن)، لحاجاتها الأصلية، ولا معرفة بجوهر الآخر الــ (هم) ، بينما لا تولد المثاقفة إلا من جدلية تبادلية تتم بالأخذ والعطاء معاً. فالهوة قاطعة بين الموقفين: المثاقفة والتقليد. وقد يتمادى التقليد حتى التغلغل في نسيج المثاقفة. وكثيراً ما تكون علّة تعثر الفعل النهضوي العربي ناجمة عن ممارسة المثاقفة كامتداد لآليات التقليد والمحاكاة عينها، ولكن عبر التباساتها وغموضها بمظاهر التقدم الزائفة والمدّعية .

في حقبة الإثارة والدهشة والانبهارالأول باكتشاف الغرب، سيطرت ثنائية الشرق والغرب، بالطبع سيطرة الغرب الأوروبي الكولونيالي على بدايات الفكر النهضوي العربي. فاحتلت أوروبا وفق موقع النموذج الذي يفرض على الآخر الــ (هم) أفعال المضاهاة والمشابهة بين أحواله التعيسة والمتردية ومزايا النموذج الطاغي بشكلٍ لافت. والمضاهاة هنا لم تكن تخرج عن المقارنة بين مظاهر القطبين الرئيسيين، لا بهدف تفكيك عوامل كل طرف منهما، بقدر ما كانت المقارنة مشفوعة بإطلاق مواقف وأحكام القيم والنواميس من تحبيذ وتعظيم للآخرالــ (هم) أو للذات الــ (نحن)، أو من رفض وتسفيه للمعتقدات والمسلمات الدينية والمسالك العامة والشخصية الفردية. كانت الدوافع نحو المماثلة والمطابقة تصل إلى درجة التماهي الكلّي مع النموذج المتفوق تعمّق من جهةٍ الشعورَ بدونية الذات الــ (نحن)، ومن جهة أخرى تحرّض بكل إمكانياتها على المدافعة والممانعة بتطوير نزعات الاستعلاء المعاكس والرفض، والتقهقر نحو الفردوس الماضي المفقود. وفي مثل هذه الظروف التعيسة من الانغمار تحت موجات أحكام القيم والنواميس الصادرة مرة بحق الآخر الــ (هم)، ومرة أخرى بحق الذات الــ (نحن)، ما كان مقدَّراً للفكر النقدي أن يولد ولادة سليمة، أو يستقل عن سلطة المضاهاة والمشابهة الفورية وأفخاخها المعرفية (الابستمولوجية) الزائفة.

إن السؤال (الأبستمولوجي) المعرفي الذي طرحه فكر النهضة العربية عن سبب تأخر الشرق (المسلم) وتفوق الغرب (المسيحي)، لا يزال معلقاً في الفراغ لا جواب عليه. ولم تأت الأجوبة عليه راهناً، وبدءاً من روَّاده أنفسهم الذين أعلنوه باكتشافات بنيوية واقعية أو فكرية إلا من خلال سيطرة لثنائية جديدة ذات مفاعيل خاصة، وذات رنة بلاغية مميزة. وهي الحداثة والأصالة، وتناظر ثنائية الذات الــ (نحن) والآخر الــ (هم). فتغدو الذات الــ (نحن) محلاً مرجعياً للأصالة، ويظل الآخر الــ (هم) مالكاً حصرياً للحداثة، وموزّعاً لحِصَصٍ منها على بقية العالم بكل تكويناته. وبذلك فات الوعيَ النهضويّ العربي، في مختلف حقباته وأزمانه. طرْحُ إشكالية الحداثة من أصولها (الأنطولوجية) الوجودية ،تحت وطأة طغيان التقييم المعياري والمقاييس المرسومة اللذان يمارسان الفرز الاحتكاري لمصطلحيْ الحداثة والأصالة ، وذلك كلما لاحت في مفاصل ومنعطفات الحدث التاريخي، ملامحُ منطقية وموضوعية لثقافة التأسيس في المختلف والمتنوع وضرورتها المطلقة الحيوية بالنسبة لتحولات المصير النهائي العام، كما تَتَبيّنه النّخبُ الفكرية والثقافية العربية، من أزمة كارثية إلى أزمةٍ أخرى. فكيف يمكن الحديث عن الحداثة بدون عقل محدَّث ويمتاز بأنه ذو عقلٍ حديث ، ويكتفي بوظيفة التقاط شعارات وطقوس وأقانيم تتداول أشباه المفاهيم الآراء الشائعة عن التغيير والتقدم، دون أن يكون العقل هو نفسه مُنْتجَ الأفكار والمفاهيم والآراء التي تغيره، قبل أن يكون متلقياً لأفكار وثقافة سواه.
في هذا السياق يبدو أنه من الواضح إن إشكالية الحداثة، ترجع في أساسها إلى اشكالية العقل بالذات التي لم تطرح لدى مفكري النهضة العربية عامّة إلا من خلال ما ينبغي تبنيّه سواء من المذاهب أو الأفكار وصولاً إلى الأيديولوجيات وعصرها الراهن، أو ما لا ينبغي الاعتماد عليه والأخذ به. لم يجرِ التنبّه إلى المبدأ الهام القائل أن العقل الذي يتمتّع بالحداثة أي العقل الحداثوي هو ما يجب أن يكون أولاً موضوعَ استفهامه الأوّلي لذاته الــ (نحن) عبر مختلف إنتاجاته. فقد اقتصر التعامل مع العقل وبنيته وماهيته بصورة عامة، وليس الموصوف بالحداثة بَعدُ، كما لو كان جهازَ انتقاد للأفكارالجاهزة واختيارهاٍ التي يلتقطها من لدن متحفيْن هامين أحدهما لسلع الغرب وكتلة بضائعه، والآخر لمأثورات التراث بعمقها القديم . فبعد إفلاس كل جيل من طوائف هذه الاستعارات وتلك الاستلافات، يعود العقل إلى اكتشاف غربته الأولى الرئيسية إزاء كل ما كان استعاره من بضائع الآخرين الــ (هم) وألصقه بكيانه الــ (نحن)، كما لو كان من صنعه ونتاجه ومن علاماته. لكنه سرعان ما يغطي غربته واغترابه السابقتين باستعارة أيديولجيات أخرى من خارجه. إنه التفكير المنطقي والعقلاني في المنظومات الفكرية كبدائل عن بعضها، وهي المطروحة في سوق التداول السياسي والقافي والمعرفي (الابستمولوجي) عبر موجاته المتتالية والمتلاحقة، دون التفكير بعقلانية في عملة المفاهيم المؤسسة لهذه المنظومات وتلك البدائل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى