عندما يُصبح الشّعر منهجا وحياةً.. قراءة في مجموعة، (هي ذي العُهود) للدكتورة، عهود العكيلي

د. أمل سلمان حسان | ناقدة أكاديمية – العراق
تقول الكاتبة الأمريكية أودري لورد في مقال لها تحت عنوان، الشّعر ليس ترفا: “إن الشعر يعدُّ أكثر طُرقنا الحقيقية نحو المعرفة والطريقة التي تُساعدنا في منح اسم لما لا يمكن تسميته، وهكذا نعرف آمالنا ومخاوفنا، وحين تصبح مقبولة تجد مشاعرنا ملاذا يمكن أن يقودنا لأكثر الأفكار جموحا وجرأة” .


أسوق التصدير هذا وبين يديّ المجموعة الشَّعرية الأوّلى للأديبة العراقية الأستاذة الدكتورة، عهود عبد الواحد، الموسومة بـ (هي ذي العهود)، والصادرة عن دار قناديل في بغداد، ٢٠١٩ م في طبعتها الأولى. إذ وجدتْ الشاعرة ملاذها الآمن في الشعر، فاتَّخَذَت منه منهجا وحياة، تقول: “الشّعر يجري في دمي ، هذا هو واقعي وحقِّ الله تعالى، أحبُّهُ إلهاماً وسمعاً وشدَواً، وهو مِلءُ سمعي وبصري، وكثيرا ما تحتويه عباراتي بل باتَ منهجاً لحياتي”.
قسَّمتِ الشاعرة مجموعتها هذه على قسمين، ضمّ القسم الأول الذي كان تحت عنوان، (بوحٌ في دياجير الكتمان)، أغراضا شعرية مختلفة كتبتها في مناسبات شتَّى على نحو ما سيأتي التفصيل فيه لاحقا، وأما القسم الثاني الذي وسم بـ(هَمَسَات الشِّعر في أُذُنِ التَّوَاصل)، فقد خصّتْهُ الشاعرة لكلّ ما كتبته على مواقع التواصل الاجتماعي ولاسِيَّمَا الفيس بوك ، من ردود شعرية ومساجلات وإخوانيات وتعليقات وغيرها، إذ يثير قريحتها الخبر المُوْجِع والصديق الرَّاحل والذكرى الأليمة، ساعيةً من وراء ذلك على نحو ما تقول أن تُبَيِّنَ “أنّ وسائل الاتِّصَال الحديثة قد تُسهم في إثارة مُخَيِّلة المبدعين وتنتج نوعاً جديدا من التعبير الأدبي الذي يلائم السرعة التي تتصف بها هذه الوسائل التقنية المتطورة وتؤثر في الثقافة الجديدة ” .
وإذا نظرنا لمجمل نصوص هذه المجوعة بوصفها نصّاً واحداً، نلحظ تعدد الأغراض الشعرية وتنوعها وعمق التجربة الشعرية وثراءَها، وغناها بالسمات الجمالية والدلالية التي يمكن أن تكون نواة لفرادة إبداعية بالغة النضج والاستواء، فالشاعرة تكتب نصوصها على أسْطَرَة الحنين، فاتسمت برهافة الإحساس ورقته، وصدق العاطفة وحرارتها، والثراء اللغوي المتدَفِّق، والخزين البديع من الصور الفنية الموحية التي أضاءت النصوص، ساعدها على ذلك تخصُّصُهَا العام في اللغة العربية وآدابها، وتخصُّصُهَا الدقيق في علوم البلاغة العربية وأساليبها وفنونها، وتبحُّرُها في أوزان شِعْرِهَا وزحافاتها وعِلَلِها، زيادة على ذلك فقد حبَاها الله -عزَّ وجَلَّ- بموهبة الشعر، ووفَّقَها إلى الإمساك بزِمَام الكلمة الفنية المعبِّرَة.
وأمَّا الملمح الأسلوبي الأبرز الذي رصدناه في هذه المجموعة فهو طغيان (الأنا) بوصفها البؤرة المركزية والعنصر الحيوي الفعال الذي تنطلق منها اغلب نصوصها في بنائها النفسي والدلالي، وقد تمحورت هذه الأنا في مركزين، أحدهما، الذهنية الشعرية الداخلية والآخر، الواقع الخارجي ودليلنا على ذلك تكرار اسم الشاعرة ومشتقاته في مجمل نصوصها من قبيل، (عهد وعهدتي والعهد والعهود)، زيادة على عنوان المجموعة الرئيس (هي ذي العهود)، فهذا العنوان يمكن قراءَتُهُ من زاويتين على النحو الآتي:
جاء العنوان من الناحية التركيبية، جملة اسميَّة متكوِّنَة من ضمير الغائبة (هي) مضافا إلي سم من الأسماء الخمسة، والضمائر عناصر حضور بحسب الدراسات النصية، ومن ثم، نلحظ الحضور البارز للآنا في المجموعة وبقوة، وكأني بالشاعرة تُعرف عن نفسها في مجموعتها هذه لمن لا يعرفها، تقول في نصها المعنون بـ (أنا ذي عهود)
قيثارةٌ للصَّبْرِ …للصَّمْتِ المخبّىء فيضَ نطقٍ في تراتيلِ الزمانْ
الليلُ بعضُ نوافذي ، والبِيْدُ همسُ أماكني ، والخيلُ تنتظرُ الرّهانْ
لا أنثني مهما تحاول عصفها ريحٌ فثقلُ مَـــرَاكبي يلوي العِنانْ .
وأما الزاوية الأخرى، فيمكن أن يدلَّ ذلك العنوان على مجموعة العهود والمواثيق التي أخذتها المبدعة على نفسها وألزمت نصوصها بها، إذ جاءت تلك النصوص عامرةً بالخير والمحبة وقِيَم التَّسَامي والنبل والأخلاق الحميدة، فهي يمكن أن تصنف ضمن خانة الشعر الملتزم .
وربَّما كانت هذه الأنا إظهارا للقوة التي تواجه بها من أرادوا بها كيدا فجعلهم الله الأسفلين. فكانت “قيثارة للصبر، للصمت الناطق” وقد استعانت بالطبيعة لتكون ملاذا لها لتقول “فالليلُ بعضُ نوافذها، والبِيْدُ همسُ أماكنها”،((والخيلُ تنتظرُ الرّهانْ)) على تلك القوة التي تكسر بها شوكتهم .
والسمة الأخرى الواضحة في الأغراض جميعا رسم المشهد الذي يتخلله الحوارُ المنسابُ المتخيَّل في أكثر أماكنه وقد تفنَّنت فيه فتنوَّعت أساليبه فمنه ما ترسمه قائما بين الشخصيات، فتشدُّ المتلقين مما يعطي للقصيدة طرافة وجمالا. كقولها مخاطبة أرض العراق الحبيب:
((ما زَالَ يَسْقِيْ رُوحَنَا نَهْرَاكِ

عِشْقَ ذُرىً وَحَقِّ اللهِ طَاْهِرْ
للآن يَهْمِسُ صَوْتُ أُمِّي:

أينَ أنْتُمْ؟ أسْرِعُوْا، فالشَّايُ خادِرْ
والدِّفءُ يَجْمَعُنَا ومَدْفَأةُ العَلاءِ

الدينِ زَرْقَاءُ المَشَاعِلِ ..
قَدْ أجَبْنَا أُمَّنَا يا أمُّ : حاضرْ .
جِئْنَا نَحِنُّ لِحُضْنِكِ الأدْفَىْ فَذَا للقَلْبِ جَابرْ
وبِنَا اشْتِيَاْقٌ مِثْلُ صَيْفِ بِلادِنَا… والحُبُّ للعشَّاقِ قَاهِرْ))؛ لتصلَ من بعد هذا الحوار إلى الغاية من القصيدة وهي شدة الحب للوطن والحنين إليه(لا تَعْجَبُوا ..حُبُّ العِرَاقِ وَحَقِّ رَبِّ الكَوْنِ قَاْهِرْ)، وقد دخل في هذا الرسم ذكر شيء من الموروث الاجتماعي العراقي وهو التحلق حول المدفأة مع الأسرة وأبة مدفأة تلك التي تدل على ذلك الزمن الجميل (مدفأة العلاء الدين) بعد أن تنادي الأم على الأولاد تعالوا : فالشاي خادر ومما دعاها الى هذا الاستحضار أنها تتحدث عن مهاجرين يعيش الوطن في دمائهم فيحنون الى كل ما هو تراثي فيه. ومما تمازج فيه الحوار بالموروث ما قالته عن أبيها حين وصفته:
وتشرق من عينه ألف شمس

فتملأ رحب الفضا بالسَّناء
وفيها نســـــيم الإباء رطيبٌ

تلذُّ له الروح عند المســاءْ
تنام المنازل فــــــي مقلتيــه

تُصلِّي وراء هداه السَّـــماءْ
لتمـــلأ أرواحنا بالأمــــان

وتمنح أرضي دفء الشِّتاءْ
بعدها تأخذ بإدخال الموروث التراثي من خلال ذكر الأغنية الشهيرة (نخل السماوة) بعد صياغتها بلغة فصحى مع الإفادة من التناص مع الشعر العربي في محاورة سرب القطا، في قولها :
فلا رُعْبَ يقفو دروبَ الحَمَامِ

لِسَمْــرَتِها بانتظارِ اللقـاء
فيبسمُ إذ ذاكَ سِــربُ القَطَا

إذا مَرَّتِ الغِيْدُ حيثُ تشاءُ
تُغَنِّيْ نَخِيْلُ السَّمَاوَة

طُــرَّاً لِنَسْــبِرَ جَنَّاتِهِ بِاقْتِفَــاءْ
فَتَحْمِــــــلُ تَمْرَاً لَذِيْذَ المَذَاقِ

إذا مَرَّتِ الغِيْدُ حَيْثُ تَشَـاءْ
وكان نخيل د. عهود يحملت مرا لذيذ المذاق بينما كان النخل في الأغنية لا تمرَ فيه. ما البيت الشعري الذي استوحت منه د.عهود فهو بيت قيس بن الملوَّح، حيث قال محاورا سرب القطا:

أسِرْبَ القَطا هَل مِنْ مُعيرٍ جَناحَهُ

لعلّي إلى مَنْ قَد هَوِيتُ أطِيْرُ
وقد وفِّقت الشاعرة في هذا التوليف بين الشعر العربي والأغنية المكتوبة باللهجة المحلِّية بعد أن أبقت على معانيها مع صياغتها بلغة فصحى سهلة ممتنعة معبِّرة ومن جمال حوارها الشعري ما أدخلت في التشخيص من خلال حوارها مع الجمادات أو المعنويات، مما يجعل صورتها متحركة تعجُّ بالحياة كقولها في الرد على تعليق طالبتها د. أمل سلمان على قصيدتها (بالحبيب ترفَّق):
مرحبا بالخير مُنْهَــلًّا أتى إثر أملْ
جاءني يسعى وئيدا قال في القلب وجَلْ
قلت:ويلي ما لخيري شفَّهُ لسعُ الخجلْ؟!
إنَّ قولي فيض إحساسٍ تروَّى بالغزل
ولقد أعجبَ خِلِّي ختمُ أبيات نزل:
قدري أنت عجيبٌ لستَ مني في عجل

والجميل أن الشاعرة صاغت البيت الذي أعجبت به د. أمل وأدخلته هنا بلفظ مختلف قليلا وهو قولها
ولقد أعجبَ خِلِّي ختمُ أبيات نزل:
قدري أنت عجيبٌ لستَ مني في عجل

وقد يرسم تشخيصها مشهدا مؤلما كما في وصفها مشهد ألعاب الأطفال الباكية وهي تسائل النخلة عن أصحابها الذين كانوا يلعبون بها أين اختفوا؟ فتقول:

((بكتْ للقولِ ألعابٌ تصيحُ بملعبٍ مُلهَبْ
وتخرقُ سـَـمْعِيَ المَكْلُومْ :
دُلِّـينِي علــى أحمَـدْ
على ليلـى علـى أسْـعَدْ
وصـاحتْ نخلةُ الملعبْ
على جِذْعِي بَقايا لَحمِ أحبابِيْ
على سَعْفِي دمٌ يبقى يُذكِّرنِي بأصحَـابِي
على كَرَبِي يُصرِّخ رأسُ الدميةِ المقطوعْ
يُنَاديهِـمْ تعالَـوا عَــلَّنا نلعـبْ
أجاب دخـانُهُـمْ : مَهْـلاً
فقد نامُـوا جميعـاً في ثَرَى الملْعَبْ
والجميل أنها لم تجعل الصغار ميتين بل أشارت الى أن دخانهم أجاب بأنهم ((ناموا جميعا في ثرى الملعب)) خوفا من آلام الموت التي لا يقوون على تحملها. ويمكن تقسيم الأغراض الشعرية بشكل عام في هذه المجموعة على النحو الآتي :
أولا : الرثائيات .
ثانيا :الوطنيات .
ثالثا : الوجدانيات .
رابعا : أدب الأطفال .
خامسا : الإخوانيات
سادسا . المساجلات الشعرية والمعارضات والردود .

وسنقف على السِمات النّصيّة لكلّ غرضٍ من هذه الأغراض وعلى النحو الآتي:
الرثائيات: الرثاء من الأغراض الشعرية الرئيسة في المنظومة الشّعرية العربية، ناله التهميش والإقصاء وتجاوزته الحداثة الشعرية بسبب من زيف العاطفة وبرودها، وعدم صدق الإحساس على نحو ما يرى أغلب النقاد، إلا أننا في مراثي الشاعرة هنا نلمس صدق العاطفة وحرارتها ، ونشعر تحت سطورها دمعة حرّى، وعبرة مرة، وذكرى موجعة، كيف لا وهي ترثي الوالد في أكثر نصوصها ومنها، (حوتك بأوساطهنَّ القُلوب، وفي موكب الصمت، وفي كل وجه أراك وروحي فداك). نقرا في سبيل المثال قصيدتها في موكب الصمت، إذ نشعر بلوعة الفراق وهي تستذكر الوالد الحنون وطفولتها الغضّة بين أحضانه فترسم لوحة فنية بديعة، حيث الحقل الصغير في وقت السحر، وضفاف النهر ولذيذ الثمر ونغمات الطيور، وحفيف الشجر تقول :
أمَا قدْ ذكرتَ حبيبا عزيزا
تباعَدَ عنك بخطِّ القَدَر
فتأخذني موجة الذكريات
لتُلقي بي في ضفاف النّهر
وإذ أنا طفلة غضّة عود
يرنُّ بأذني حفيف الشجر
ونسمة برد تلذ ضلوعي
وهبّة ريح تطير الشَّعَرْ
فيركض بي زرع حقل صغير
فيغري عيني لذيذ الثمر
وتطربني نغمات الطيور
تغرّدُ في مأمن من خطرْ
ونجد قصائد أخرى قالتها الشاعرة في رثاء المعمارية العراقية زُها حديد، وأخرى في شهداء جسر الأئمة وهناك رثاء موجع قالته الشاعرة مستذكرة تفجيرات منطقة الكرادة، ونقرأ قصيدة لها في رثاء الأطفال الذين استشهدوا بعد تفجير انتحاري في ملعب كرة قدم للصغار في مدينة الثورة ونجد أخرى في رثاء ابنة خالتها كتبتها ساعة سماعها خبر احتراقها، وقصيدتها التي نالت بها جائزة نازك الملائكة للإبداع النسوي عام ٢٠٠٩ م، الموسومة ب(مراثٍ لأربعاتنا القادمة) عندما كان العراق في تلك السنوات يصحو على تفجيرات الانتحاريين في الأسواق الشعبية والشوارع العامة، وقد كانت تتكرر اغلب الأحيان في كل يوم أربعاء، يغلب على هذه المراثي الطابع القصصي ويشعر القارىء معها أنّه يعيش الحدث ذاته بسبب من تمكن المبدعة من أدواتها الشعرية ، ورهافة حسها ، وصدق عاطفتها .

ثانيا : الوطنيات
مجموعة نصوص حماسية تعلن فيها الشاعرة عن حبها لبلدها العراق وعشقها لبغداد الحضارة وعبق التأريخ، فالشعر يحلو بحضرة الوطن من هذه القصائد، (بغداد قبلة التقديس، وأحبك بغداد ،وسلام عراق، ورمز البطولة والإباء بلادي، وأنشودة أنت نبض الزمن، وليلاي، ومنبع الشيم ومعاني الوطن، وقصيدة قلعة الكبرياء) الملاحظ على هذه النصوص، التغني بأمجاد الوطن وبث قيم الحرية والعدالة والكرامة والتأكيد على أرادة الشعوب في عيش حياة كريمة وهي تبعث الأمل في نفس القارىء وتوكد على اعتزازه بهويته الوطنية. نقرأ في أنشودتها، أنت نبض الزمن :
يا بلاد الخير هُبّي من جديد
واعزفي للكون ألحان الخلود
هشّمي القيد الثقيل
وأهزئي بالمستحيل
شعبُك الحرُّ الأصيل
سلَّ سيفهُ الصَّقيلْ
وامتطى العلياء جسرا للصعود
يا بلاد الخير هُبّي من جديدِ
واعزفي للكون ألحان الخُلودِ

ثالثا : الوجدانيات .
يقال إن الشعر مرآة للذات الإنسانية تعكس عوالمها الجوانية بما فيها من مشاعر وأحاسيس وأنفعالات، وهو فهم أراه قاصرا؛ لأن حضور الذات لا يعني إلغاء المحيط الاجتماعي الذي يتحرك فيه الشاعر، هذا الفهم الواعي هضمّته الشاعرة في نصوصهاالوجدانية، فجاءت مغايرة قائمة على تذويب الذات في الآخر بنكهة روحانية متسامية وقد أشارت الشاعرة إلى هذا النوع من النصوص بقولها “لم تكن إلا حديث روح، قد تحاور حبيبا مفترضا أو متخيلا فتروي لنا قصصا من نسج خيال أخذني الإلهام إليها، لتبلّ صدى روح تصحّرت بفعل قيود وهمية من التقاليد والمعايير والسمات المفترضة للشخصية العالمة التي تمثلت بجانب مني، لكوني بروفيسورة جامعية متناسية مشاعر الشعراء الحساسة ” ومن هذه النصوص التي جاءت على هذا المنوال قصائدها، تكلَّم، وترنيمة العشق، والوجه الصبوح، وهوت صروح العشق ، نقرأ في سبيل المثال :
عهدتي …هات يديك فقد جلبت لك الجمان
ولتتركي تلك المراكب ..لن تضرَّ وحق ربي بالرَّزانْ
أنا نخلة فاهنأ بظلي واسترح فلسوف تنعم بالأمان
واهزز بجذعي يسقط التمر الكثير فخذ لقد آن الأوانْ .
وهي تتغزل بذاك الحبيب بلغة رشيقة وبثقة عالية بالنفس تقول في قصيدتها الوجه الصبوح:
أحببتُ فيك وسامة يا رقة متواليةْ
تهفو القلوب لوصلك وعلى المحبّة باقيةْ
منك الورود تعلمتْ صفة الوداعة الحانية
ما إن دخلت قلوبنا وبلغت منها الناصية
حتى ذهلت عقولَنا فغدتْ لشخصك جارية .
يا ليت أني قد عرفت ك من سنين خالية .

رابعا : أدب الأطفال .
أمنت الشاعرة بأن لأدب الأطفال تأثيرا كبيرا على الناشئة والصغار بوصفه عاملا مقوّما ومغذيا لحاجات الطفل الاجتماعية والنفسية،فخصّت الطفولة وعالمهم الجميل بعدد من النصوص وهو ما يُعدُّ خطوة جريئة، إذ لا يمكن لأي أديب الكتابة بسهولة للأطفال مالم يكن متسلحا بآليات تمكّنه من الوُّلوج لذلك العالم النقي، حيث تتطلب الكتابة للأطفال عددا من الشروط والخبرة والمعارف العلمية والإنسانية ومن هذه النصوص التي كتبتها (الحروف العربية، والوعد الصادق،والحفيدة والجدة، والعمل حياة ،وروضتي الجميلة، وأحلى الأوطان وسنسبق الزمن، ومن الأسماء الحسنى، وأنا وحمامتي، والحفيدة الجميلة) انمازت هذه النصوص بعنصر الجذب والتشويق، وسهولة لغتها وبساطتها، والاختيار الموفق لموضوعاتها، والعفوية والصدق فكانت ذات هالة سحرية ينساب وراءها الطفل ويتعلق بها ويسهل عليه حفظها، آمل من وزارة التربية أن تدخلها ضمن مفردات القراءة العربية للصفوف الإبتدائية، فهي نصوص تربوية هادفة، نقرأ في قصيدتها الحروف العربية:
ألف باء تاء ما أبهى الأضواء
ثاء جيم حاء جاء الأصدقاء
خاء دال ذال فيكم الآمال
راء زاي سين سيفرح الحزين
وهي تحبب للناشئة اللغة العربية، وتيسر حفظ هذه الحروف على الصغار ولم يخلُ أسلوبها من طابع قصصي محبب للاطفال ضمّنته أغلب قصائدها .

خامسا: الإخوانيات
لون شعري أخر تجاوزته الحداثة الشّعرية، وقد احتل سابقا مساحات واسعة من دواوين الشعراء، عُرف على إنه شعر المودة والصداقة الذي يديم التواصل بين الأهل و الأحباب والأصحاب وكثيرا ما يقوم مقام الرسائل النثرية التي تكتب في مناسبات شتى، وربما لو نظرنا إليه اليوم من وجهة نظر معاصرة نلحظ أن مواقع التواصل الاجتماعي كانت كفيلة بمثل هذا النوع من الشعر ، المبدعة هنا في مجموعتها أشتغلت على هذا النوع من الفنون بشكل واسع وأعادت له هيبته ووقاره وسموه ونبله، فخصّت به القسم الثاني من مجموعتها هذه على نحو ما أشرنا مسبقا، فكتبت إلى الأبناء والإخوان والصديقات والأصدقاء وطلابها، أجمل النصوص، بلغة رشيقة عذبة تلمس فيها دفء عاطفتها وصدقها ،إذْ أتخذت من هذا النوع من الشعر منهجا لحياتها، ترتجله ارتجالا ،وتخاطب به شفاها ، وتكتبه على مواقع التواصل ردودا وتهنئة وعتابا في بعض الأحيان، نقرأ في سبيل المثال، ما كتبته للأستاذة الدكتورة، ابتسام مرهون الصفار :
أنت لي أمٌّ حنونْ حارَ فيك العالمونْ
قرُبتْ رؤياك دوما رُغم بُعدٍ لا يهونْ
دام َفي الروح مداكِ والهوى بعضُ الجنون
وإلى صديقاتها كتبت في سبيل المثال: إلى الأستاذة الدكتورة ساجدة مزبان في يوم ميلادها:
القلب فيك معلق يا ساجدة
في كل ناحية به متواجدة
والروح نادت باسمك يا مرحبا
حصّنتُ نورك من عيون حاسدة
أهلا بسيدة الأناقة دمت لي
أختا حنونا في الشداد ساندة
وممّا كتبته لطالبتها، أمل سلمان التي تشرف على أطروحتها للدكتوراة:

كان صبحي أملا منك بدا
زانه الورد وتقطيرُ النَّدى
أنتِ أحلى من ورودي كلها
عندما تبدينَ يعْرُوها السُّدى
أنت صوتي يا حبيبا لا يُملْ
وهي والله لك محضُ صدى

سادسا: المُساجلات الشّعرية والمُعارضات والرّدود
أغراض شعرية بدأت تنحسر شيئا فشيئا، على الرغم من أهميتها، فهي أغراض فنية لا تخلو من اللفتات الإنسانية الناقدة واللحظات الطريفة، انتشرت بشكل واسع قديما ولاسيما في العصرين الأموي والعباسي، وانحصرت بشكل عام عند طبقة العلماء والأدباء الذين يتبادلون القصائد المتفقة الوزن والقافية فيما بينهم كنوع من المفاكهة وأداة للتسلية وشحذ القريحة، وأحيانا يكون هدفها الظرافة والطرافة. وهي لا تؤتى لأيّ شاعرٍ فقط، لمن حبّاه الله بسرعة البديهة واصطفاه بها، وقد كانت هذه الفنون تزين مجموعة الشاعرة، فنجدها تعارض الأصدقاء الشعراء وتساجل المواقف الطريفة التي تمر بها شعرا، نقرأ في سبيل المثال معارضتها لما كتبه الشاعر باسم جبار في قصيدته (صرخة أنثى) إجابته بقولها:
لا تعجلي بالهجر …بالإبعاد …إن الهجر حتف
لا تكفري بالحب واصطبري
وإن أعياك بين الناس عرفُ
لا تهمسي بالوصل …وليعلو ببوح العشق هتف
ونجد قصيدة أخرى لها كتبتها ردا على قصيدة للدكتور هيثم الزبيدي كتبها يبرُّ بها والده:
أنيق بكل حروف البهاء
وبسمته للفؤاد شفاء
به نستظل فتنأى الهموم
وتهرب منَّا صنوف البلاء .
وأحيانا تأتي المساجلة عبر موقف يستفز الذات الشاعرة، ولاسيما في مناقشاتها العلمية للدفاع عن طلبتها، ففي سبيل المثال، استفزها موقف أ.د.عدنان الجميلي في مناقشة الطالبة أمل سلمان، عندما عاتبها بنوع من الزجر في عدم رجوعها لما كتب من دراسات، فأجابته مشرفتها عند انتهاء المناقشة بعدما اثنت على اللجنة وذكرت أسماءهم وعددت مناقبهم شعرا فقالت :
وعزيزُ فخرُ سَمَاَوة ٍصَدَحَتْ بِرُتْبَتِهِ العِظَامُ
عدنانُ طابَ حِوَارُهُ وَ بِهِ سينقشعُ الظّلام ُ
لكنّه في ذي الصبيحَةِ هاربٌ منهُ الوِئَامُ
يا ليتَ شِعْرِي مَا دَرَيْتُ لِمَ التَّعَصُّبُ والخِصَامُ
أوَ كُلَّمَا قال (الجُمَيْلِي) واجبٌ فيهِ التزامُ ؟!
وهكذا نجد الشاعرة ، تسجل كل شاردة وواردة شعرا فكتبت للأبناء والإخوان والأصدقاء ولم تدع صديقا وزميلا إلا ومازحَتْهُ شعرا؛ لكنّه (المزاح الجاد) وقالت فيه بيتاً، بنوعٍ من التلقائيَّة والعفويَّة فكان الشعرُ جليسها وونيسها ومنهجها في الحياة .
وأخيرا أقول: مجموعة (هي ذي العهود) مجموعة شعرية غنيَّة بالقيم الإنسانية والتربوية ذات لغة شعرية هادئة جميلة تنساب إلى روح القارىء بكل سهولة ويسر بسبب من تلقائيتها وعفويتها وصدقها ، أدعو طلاب الدراسات العليا أن يتخذوا منها منطلقا لدراسات أسلوبية وموضوعية، وأتمنى للشاعرة الدكتورة عهود القديرة كل التوفيق والتألق والسداد مع دعائي بمزيد من العطاء والإبداع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى