السخرية في شعر سراج الدين الوراق

د. هالة فرحان | جامعة حلوان – مصر
يتميز المصريون منذ قديم الأزل بالحس الفكاهي والسخرية، وإنها من السمات المصرية الخالدة، وإن المصريين منذ أن برزوا على صفحة الزمن وهم يسخرون ويتهكمون وألهمهم ذلك عصور الشدة والرخاء التي عاشوا فيها، وازدهرت السخرية في الشعر المصري مع ازدهار الأدب في العصر الفاطمي بسبب كثرة الاحتفالات التي جذبها الفاطميون إلى مصر .
وفي فترة مصر الإسلامية ظهرت مجموعة من شعراء الحرف والمهن ومن المعروف أن أصحاب الحرف والمهن هم طبقة من عامة الشعب يعيشون معاناة الشعب في العسر واليسر ويتحدثون بلسانهم ويتحدثون بسخرية عن حالهم فسخروا من فقرهم وقلة أموالهم حتى أنهم سخروا من ثيابهم الرثة التي ذابت من قدمها ومن أمثال هؤلاء الشعراء سراج الدين الوراق .
وسراج الدين الوراق هو عمر بن محمد بن الحسن، ولقبه الذي اشتهر به هو سراج الدين واشتهر بالوراق نسبة إلى حرفته وعمله بالوراقة ولد في القاهرة في عام 1218م لأسرة فقيرة فعاش فقير الحال يعاني من قسوة الحياة وهذا ما انعكس علي شعره .
كان الوراق خفيف الروح يميل إلى الفكاهة فهو يطل علينا من وراء قصائده فتبرز شخصيته الواضحة الميالة إلى الأريحية وخفة الروح وقد يكون للبيئة المصرية دور في هذا، فالمعروف عن المصريين أنهم لا يتخلون عن اريحتهم حتى في أحلك الظروف وعرف الوراق بتندره فهو يقول مواريا في اسمه:

جاء لسان السراج مبلولا لكم بشكر كالروض مطلولا
فقال قومٌ والقطر يأخذه فقد عاد السراج قنديلا

فمن الأزمات التي عانت منها مصر في هذه الفترة انخفاض منسوب النيل وكان هذا نذيرًا بالغلاء والمجاعة، هذا بالإضافة إلي شيوع الرشوة واضطراب الحكام ونجد في أدب هذا العصر أصداء اما عاناه الناس في ظل هذه الظروف من ندرة القوت ، وغلاء السعر، وفي موجه من موجات الغلاء يعز رغيف الخبز، والوراق يرى أن المعدم والثري أصبحا سواء فكلاهما لا يملك رغيف الخبز الذي عز كاللات والعزى يقول:

إن كان زي الناس فيما مضى
أن يشكروا من يحفظ الخبزا

فقد تساوى الناس في حفظه

إذا عز عز اللات والعزى

ومهما كان من أمر الغلاء فهو أمر ربما احتمله الناس ولكن الذي لم يكن للناس قدرة على دفعه هي تلك الأوبئة الفتاكة التي كانت تجتاح البلاد من حين إلى آخر مثل الطاعون الذي سماه الناس بالموت الأسود وإلى جانب هذه الأوبئة الفتاكة تفشت في الناس العديد من الأمراض، أعان عليها الفقر والجدب، ولعل أهونها مرض الجرب الذي أصيب به الوراق وهو يعرض لنا صورة طريفة لنفسه وقد أصيب بهذا المرض فيقول :

عُوفِيتُ مِن جَرَبٍ بهِ صِرْتُ المُنقَّبَ والمُمزَّقْ
وَأَحُكُّ لَيلي بالمَرا فِقِ واليَدَيْنِ وَلستُ أَلحَقْ
عُرْيانَ كالعُود اليب يسِ وإنَّما جَفْني مُؤَرَّقْ
وَكأَنَّ جِسمِى مِن دَمي بِأَظافِرِى الرُّكْنُ المُخَلَّقْ

وقد استخدم الوراق التهكم والسخرية وسيلة للشكوى والتنفيس عن نفسه وما سخريته وتهكمه إلا وسيلة للتمالي على أحداث الزمن فعاش الوراق فقير الحال لا يملك إلا رحمة ربه فهو رب لأسرة لا يتسع دخله لنفقاتها وقد جسم لنا فقره بشعره وكاد يتغنى من كثرة تردده لنغمة الشكوى فيقول واصفا حالته وحال بيئته وأسرته ويصف مطبخه وإفلاسه:

قَدْ عَقَدَ الإفْلاسُ لي تَوْبَةً مَاخِلْتُها من قبلهِ تَنْعَقِدْ
وَقَدْ كَفاني وَاعِظاً زَاجِراً أَنَّ مِن العِفَّةِ مَالا نَجِدْ
وَجَاءَ شَيْبي لِيَزِيدَ الجفَا فَقُلْتُ يكْفِي مَا جَرَى لا تُزِدْ

وقد غلب على الأدب العامي روح الفكاهة المصرية فمن الشعراء من اتخذ الفكاهة للإضحاك والمداعبة ومنهم من اتخذها للسخرية اللاذعة والنقد الشديد كما هو الحال مع شاعرنا، وكان الوراق يستخدم سخريته وتهكمه حتى في فن الهجاء فوجدناه يتسم بالتهكم والسخرية، وهذه طريقته في الهجاء، وأسلوب التهكم والتندر يعتبر من أقسى الأساليب في الهجاء، وهجاء الوراق لاذع؛ فهو يتناول جانبين من المهجو الأول هي شخصيته والثاني نفسيته، ولعل أبرز من تناولهم بالهجاء هم البخلاء إذ نجد له شعرًا كثيرًا في هجائهم وذلك بسبب الحرمان الذي قاساه فإذا ما طلب من أحدهم حاجة ضن بها عليه، وتبدو لنا طرافة تصويره وسخريته منهم في أغوار نفسياتهم والبخيل عنده عديم الشرف، وأن من يمعن النظر في شعر الوراق يجده يشكو الواقع حقا، وذلك لحياته البائسة ؛ فهو يشكو الفقر وتقلب الأيام، لذا جاءت صورة الشكوى منبعثة عن معاناة حقيقية فهو يائس، فيصف الدراهم وصفا يفجر في نفس القارئ الألم والإشفاق لحالته فالدراهم عنده يعسر عليه حبسها لأنها تحبس منذ أن تضرب في أيدي اللئام وهذه الدراهم المسكينة تعاني الحبس، وهى لخشيتها من محاسبة اللئام تفر من أيدي الكرام دائما وهذه صورة طريفة لتصويرها بهذه الصورة ، صورة حبسها ومقاساتها وهروبها فيقول:

إنَّ الدَّراهِمَ مَسُّها أَلَمٌ يَشُقُّ على الكِرامِ
الضَّرْبُ أَوَّلُ أَمرِها والحَبْسُ في أَيدِي اللِّئامِ
ماذا على شؤم الدراهم من مقاساة الأنام
ولخوفها من ذا وذاك تفر من أيدي الكرام

ولا ريب أن هذه الصور الساخرة استمدها الشاعر من واقع مجتمعه، تم أضاف عليها من روحه الفكهة، وحسه الشعبي، ما جعل لها هذه الحيوية وهذا النبض، وكأننا نراها تعيش بيننا .

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك رداً على محمود احمد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى