فلسفة التربية الروحية بين الإسلام والغرب

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري
قامت دعوة الإسلام ثلاثة عشر عاما بمكة دعوة تربوية تنغلق على تقويم هذه النفس الإنسانية تقويما صحيحا عقديا وتشريعيا وأخلاقيا وتربويا لما ينتظر هذه النفس من عظم المهمات والملمات والخِطَب الجسام؛ إنها ستحمل عبء القيام بهذه الدعوة أداء وتبليغا إلى العالمين كافة؛ ولذا .. فقد كان لزاما عليها أن تقدم من عنصر الأداء ذلك النموذج الرباني وإن كان في صورة بشرية، نموذجا يدب بخطاه على الأرض غير أنه يحمل طهارة منهج السماء بين جنبيه حتى ليضاهي نموذج الملائكة في عالمها، وحتى أنه ليحتكم في حركه وسكنه إلى منهج لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لقد كانت هذه الفترة من التربية مصنوعة على عين، ومعدة إعدادا ممزوجا بمرارة الصبر، وشظف العيش، وشدة المؤنة، وجور الأرحام والعشيرة، والخروج من الأهل والمال والولد، والحيلولة بينهم وبين ما يعبدون ودون أن يظهروا شعيرتهم فضلا أن يظهروا بدعوتهم ـــ مبلغين كما أمروا بعد ذلك ـــ أو حتى أن يردوا شيئا مما اعتدي عليهم به ..
هذه النفوس لم تكن بدون الإسلام لتحمل أو تصبر على شيء من هذا البغي أو الظلم أو الجور؛ إنها طبعت على البدء بالعدوان أحيانا إن استشعرت من غيرها ـــ حتى ولو كان من أرباب الملك من نفسها أو غيرها ــ استشعرت شيئا من دونية النظر أو محاولة التحقير، فإنها إن كانت لتشن حربا طاحنة توشك أن تسـتأصل شأفتها، وتفني نسلها، ولا تتوقف خوف المذلة والعار حتى تتدخل عناية الله فتنقذهم من الفناء.. وفي نموذج الحربين (داحس والغبراء)، و(البسوس) وقد استمرت كل منهما ــ تقريبا ـ أربعين عاما خير مثال على ما نقول ؛ وقد كانت هذه الحروب أن تفني نسلهم حتى أذن الله بنهايتها على يد بعض من أوتوا الحكمة وفصل الخطاب . وفي نموذج عمرو بن كلثوم مع الملك (عمرو بن هند) في قصيدته: ألا هبي بصحنك فاصبحينا، مثال آخر على عدم الصبر على الضيم وإن كان من ملك أو عظيم .. قال:

أبا هند فلا تعجل علينا
وأمهلنا نخبرك اليقينا
///
بأنا نورد الرايات بيضا
ونصدرها حمرا قد روينا
///
وأيام لنا غر طوال
عصينا المَلك فيها أن نهينا
///
وسيد معشر قد توجوه
بتاج الملك يحمي المحجرينا
///
تركنا الخيل عاكفة عليه
مقلدة أعنتها صفونا (1)

وفي طرفة كذلك يقول:

فليت لنا مكان الملك عمرو
رغوثا حول قبتنا تغور
///
لعمرك إن قابوس بن هند
ليخلط ملكه نوك كثير
///
قسمت الدهر في زمن رخي
كذاك الحكم يقصد أو يجور(2)

هذه النفوس العربية التي ربيت في كنف العزة والإباء، لم تكن لتصبر على عنت الظلم والجور كل هذا الصبر، وأن تخرج من نفسها ومن تاريخها وجبلتها التي صبغت عليها، لم تكن لتفعل ذلك إلا أن تكون قد أعيد صياغتها، واستبدلت تربيتها وفطرتها حتى تنخلع من هذا الطبع العربي الصعيب فيسلس قيادها، وتخضد شوكتها، ويسهل زمامها فتخرج من هذه الطباع إلى امتثال الأمر والنهي، والسمع والطاعة ، والتسليم لأمر الله .. وهكذا فقد أثبت الطبع العربي الأصيل أنه لا يلين لغير أمر الله، ولا ينصاع إلا لمنهج سماوي قويم .. وأما نظم الأرض عربها وعجمها فقد تمرد عليها جميعها وأبى أن يخضع إلا لخالقه “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)”[هود]، وقد جاء القرآن صريحا في ذلك غير موارب فقال لهم “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)“[النساء].
وقد كانت هذه التربية لزاما والتزاما، ثم صارت صبغة وطبعا لا ينفك عن أحدهم مهما عظم قدر ما تعرض له من عظائم ومصاعب، وقد رأوا ذلك واقعا عمليا رأي العين، حيث لم يكن المنهج المٌربي بمعزل عن مقدرة النفس الإنسانية، أو خارج كينونتها، أو مصادما لفطرتها التي جبلت عليها إنما هو كان ذاته الفطرة التي فطرت عليها، وما كان إلا شيئا من ترويض النفس على الإذعان للأمر الإلهي كيفما حل بساحتها دون أن تتردد او تكون لها من نفسها رجعة.
فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها حين تصف خلق النبي تقول “كان خلقه القرآن“، أي أنه كان المنهج المنزل متمثلا في الصورة البشرية، وها هو حين يشرع في قتال المشركين في بدر يأمر أصحابه (حذيفة وأباه) رضي الله عنهم، الذي عاهدوهم على عدم القتال مع محمد قائلا، وهو في أشد الحاجة إلى رجل واحد يكون معه، أو يٌخذّل عنه .. فيقول لهم “انصرفا.. نفي بعهدهم، ونستعين الله عليهم”.(صحيح مسلم).
ثم تنتقل هذه الأخلاق إلى ساحات القتال وأهوال المعارك ومقارعة السيوف، ومطاعنة الأسنة، فيقول أبو بكر موصيا أصحابه وقد خرج يودعهم: “حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ، فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ , وَكَانَ أَمِيرَ رُبْعٍ مِنْ تِلْكَ الأَرْبَاعِ، فَزَعَمُوا أَنَّ يَزِيدَ قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: إِمَّا أَنْ تَرْكَبَ، وَإِمَّا أَنْ أَنْزِلَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَنْتَ بِنَازِلٍ، وَمَا أَنَا بِرَاكِبٍ، إِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَدعهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَتَجِدُ قَوْمًا فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُؤُوسِهِمْ مِنَ الشَّعَرِ، فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لاَ تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلاَ صَبِيًّا، وَلاَ كَبِيرًا هَرِمًا، وَلاَ تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلاَ تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلاَ بَعِيرًا، إِلاَّ لِمَأْكَلَةٍ، وَلاَ تُغَرِّقَنَّ نَحْلاً وَلاَ تَحْرِقَنَّه، وَلاَ تَغْلُلْ , وَلاَ تَجْبُنْ.[موطأ مالك].
انظر، فهل عرفت البشرية مثل هذا الخلق السميّ التقيّ، الذي لا يشعل الحرب للحرب، ولا ليهلك الحرث والنسل ولكن ليحفظ الحرث والنسل وينشر دين الله في ملكه، لكن بحفظ خلقه وملكه، وإقامة الخلافة في الأرض على الوجه الذي أراد لا على وجه التسلط والاستعباد. (يتبع).
المصادر:
1. شرح المعلقات للزوزني (معلقة عمرو بن كلثوم)
2. شرح المعلقات للزوزني (معلقة طرفة بن العبد)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى