الجنس والمخدرات كحل سحري.. في سياق آخر وعلى ذكر هزيمة 67 المستمرة

سيد أحمد | باحث أكاديمي

   هُنا. ستُثَبت نظرتك على شجرة، تتلاعب الريح بأوراقها، وفي ثوانٍ قليلة، يصبح ما يمكن أن يكون تشبيهًا بليغًا في ذهن شاعر، حقيقة بالنسبة إليك. ستضع في الشجرة أهواءك ورغبتك وحزنك، وستصبح تنهداتها وتهادي أوراقها في داخلك، وبعد قليل، ستصبح أنت الشجرة! (بودلير). 

في كتاب لنصر حامد أبو زيد “دوائر الخوف، قراءة في مشكلة المرأة” يحدثنا فيه عن مصر بعد هزيمة 67 وهذا يفترض مُقدمًا أن الهزيمة أحدثت تغيرات جذرية في تكوينات المجتمع المصري، ولعل معظم هذه التغيرات كان سلبيًا، بل ويرجع أسباب الزيادة السكانية أو بعضها على الأقل، إلى عودة الرجال منكسين رؤوسهم من الهزيمة، وعليه فلم يكن بدٌ من إثبات النفس بأي شكل. ولم يكن سوى الشره في ممارسة الجنس، كنوع من التحقق والسيطرة المدعاة، وهي محاولة بائسة أيضًا للتخلص من العار. فضلًا عن ظهور الجماعات الدينية التي دفنت رأسها هربًا، في لحيً طويلة وجلابيب لا تمت للواقع بصلة، ربما من تلقاء نفسها، وربما بإيعاذ من السادات فيما بعد! الأكيد أن تجاوز السقوط حينها وإلى اليوم، يحتاج خطط حقيقية للتثقيف والبناء والتنمية، وقبل كل شيء، معرفة أسباب الهزيمة أصلا، وهو ما لم يحدث على كل حال مع الأسف! 

يقول “نصر” أن الرجل الذي عاد مكللًا بالهزيمة يريد أن يدفع عن نفسه هذا العبء الذي لا يحتمل وكمدعاة لهذا الدفع ذاته، عمد بشكل مَرضي إلى فرض رأيه على أهله بالقوة، وظهرت مثلًا طائفة المنتقبات، واختفت بشكل تدريجي بعض الممارسات التي كانت تعد من قبيل الحرية الشخصية، بل تم فرض عوضًا عنها مجموعة من القيم التي تعمد إلى تكبيل الفرد بقيود متكلفة، تتعدى في معظم الوقت على المساحة الخاصة بالفرد ذاته، ليتم استحقاقها تعسفيًا من قِبل الأسرة ومن ثم المجتمع ذاته.  

ثم اليوم، يُقطع سكون الليل دومًا، جراء تأوهات هذا الهوس الجنسي المفرط، الأمر الذي له تكوينات سابقة من حيث الجذر المتكون من الهزيمة، ولأسباب أخرى بالتأكيد. فأخذ شكل الطابع الأساسي، الهوسي بامتياز، وعليه فإن عدد العقاقير الطبية التي يتم استهلاكها لأغراض جنسية يفوق الخيال، لتقوية الانتصاب أو بهدف تأخير القذف، وإطالة عمر العلاقة بشكل لا نهائي، وهي في معظمها عدد لا يحصى من مضادات الإكتئاب، يتم استخدامها بشكل عشوائي تمامًا، كثير منها يسبب الغياب الجزئي للإنتباه الذهني. أو قُل أنه يكون إنتباهًا وهميًا!

وبالإشارة إلى الأفلام الإباحية والتي ساعد الإنترنت في رواجها بشكل مباغت ومع غياب التعليم والجهل شبه التام، فقد صار الأمر على نحو أكثر بشاعة، زاد هذا الشره الجنسي ممتزجًا مع خليط الجهل، من تصور خاطيء للعلاقة نفسها، وللوقت اللازم والمناسب لها، وليس انتهاءً برغبة عارمة في الانتشاء والخدر طوال الوقت، عن كل شيء، عن الفشل الشخصي، الاجتماعي والعملي، وفشل البلاد نفسها في تجاوز هزيمة مستمرة ومتحققة على أكثر من صعيد، وإن لم تعي ذلك جيدًا، أو تغافلت عنه عمدًا!  

إنها مهزلة!

بهذه الكلمة يصف “عدلي” بطل رواية (قصة حب من يونيو 67) لعصام دراز، الوضع إجمالًا، وضعه كفرد من القوات المسلحة في طريقها للحشد التعبوي داخل سيناء استعدادًا للحرب، التي وحسب ما قاله الدكتور خالد فهمي (أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية) في مقالاته بصفحة الموقف المصري، قد أتُخذ بشكل هزلي تمامًا، وفي أحسن الأحوال دون دراسة وتقييم حقيقيين، بل دون استشارة عبد الناصر ومعاونيه كما يصف، وكما يؤكد أو يدشن مصطلح هزيمة يونيو المستمرة، كعلامة فارقة على ما جرى من التاريخ والذي خبىء عنّا كثيرًا من معطياته، كما يجري الآن تقديمه تحت رعاية الألوية العسكرية ذاتها، بل تقول عنه المؤسسة الرئاسية: أنها سعت لتقديمه في حياتها، خوفًا من خلطه بالكذب الصريح، وطمعًا في بياض الجبهة ونصاعة الثوب من الدنس! هُنا، حيث يبكي البطل، وتغرق الكاميرا في بحر من الرمال والدماء والخيبة!  

  ويُحدثنا بودلير في كتابه “الفراديس المصطنعة” عن بعض أشكال السكر وأحد مظاهره الهامة، أو متأملًا حالة الوقوع تحت سطوة عجينة/ زيت الحشيش. قائلًا: ثم أنت تعي جيدًا أن الحشيش -مثلًا- لا يؤدي إلى تضخم الذات فقط، بل تضخم الأشياء، وتضخم المكان من حولك أيضًا، لن يكون لديك أي واجب يقتضي دقة القيام به في وقت محدد، ولا أي حزن عائلي، ولا أي ألم متعلق بالحب! وقريبًا تصبح العلاقات بين الأفكار غامضة، ويرتخي الخيط الناظم الذي كان يربط تصوراتك ببعضها البعض، ولن يفهمك أحد غير أولئك الذين يجلسون معك، وحتى في هذا المستوى، لا يوجد أي شيء يمكن أن يثبت ذلك. ربما يعتقدون أنهم يفهمونك، وربما كان هذا الوهم متبادلًا. ستبدو هذه الحماقات والضحكات العالية الأشبه بانفجارات قوية، جنونًا حقيقيًا، وفي أحسن الحالات هرطقة مجنون، بالنسبة إلى أي شخص ليس في الحالة نفسها التي تكون عليها، مثلما ستُضحكك حكمة ذاك الذي لم ينتشِ، وستُضحكك عقلانيته وانتظام الأفكار في رأسه، وسيبدو لك كلامه كله نوعًا من الخرف. وستقلب الأدوار. وستدفعك برودة دمه إلى السخرية منه إلى أبعد حد. أليست وضعية مضحكة إلى درجة الغموض، تلك التي يكون عليها رجل مستمتع بنشوة غير مفهومة، بالنسبة إلى ذاك الذي لم يُسافر إلى المكان نفسه الذي سافر إليه الأول؟ يُشفق المجنون على العاقل، ومنذ تلك اللحظة، تبدأ فكرة تفوقه في التلويح من بعيد. بعد قليل، ستكبر وتكبر حتى تنفجر مثل نيزك! 

بين النوم في العسل والمبيعات الخرافية 

وحسب بعض الإحصائيات فقد بلغت مبيعات شركات الأدوية خلال عام 2021 من أدوية علاج ضعف الانتصاب لدى الرجال فى مصر نحو 2.2 مليار جنيه، بإجمالى بلغ 44.353 مليون علبة. ولن نشير إلى إحصائيات الأصناف وقيمة حصتها من البيع في السوق المحلي، وهي ذات دلالة كبيرة، إذ يتصدر قائمة أكثر عشرة أصناف مبيعًا هو الصنف الأقل من حيث الثمن، فيما يشير إلى علاقة ذلك بالفقر في كل صوره، فكلما زاد فقر الفرد المادي والفقر من حيث التعليم والصحة الجيدة، فضلًا عن الحق في الراحة من ساعات عمل غير آدمية بالمرة، زادت معه محاولات بائسة للتلهي. لكننا نشير بالطبع إلى الغلو في الممارسة وفرط استخدام أدوية من شأنها أن تزيد شعور المرء بالوهم. كما كشفت بعض التقارير أنه من بين 139 صنفًا دوائيًا تقدم فى السوق المصرية لأصحاب الأمراض النفسية، 49 صنفًا يحمل مادة «جابابنتين»: وهي مادة لعلاج الصرع وآلام الأعصاب الناتجة عن إصابة الحبل الشوكي وغيرها، موضحًا، أن إجمالى مبيعات أدوية الأمراض النفسية منذ أكتوبر 2020 وحتى أكتوبر 2021، بلغت 2.5 مليار جنيه. وهي أرقام ولو من ضمنها بالطبع حالات لأمراض نفسية حقيقية تستلزم علاجًا عضويًا لا السلوكي والمعرفي منه فحسب، لها دلالتها الخطيرة في تقديم تصور عن المجتمع كاملًا في السنوات الأخيرة. في المقابل أصدرت هيئة الدواء المصرية، منذ عدة أشهر، قرارًا بإدراج 14 نوعًا من الأدوية على قائمة “جدول المخدرات” التي لا يمكن الحصول عليها من الصيدلية إلا بوصفة من الطبيب. ومن بين هذه الأدوية ما يتم استخدامه للتخفيف من أعراض البرد وارتفاع درجات الحرارة، وهما من أكثر الأدوية مبيعًا في البلاد. وتم الإعلان عن القرار، بسبب تداول الدواء بشكل كبير دون أي ضبط لعملية البيع، رغم أن عددًا من تلك الأدوية تحتوي على مادة تتسبب الجرعة الزائدة منها في إدمان متعاطيها، وعدم السيطرة الكاملة على سلوكه الشخصي. 

الأكيد أننا لن نطرح أسئلة من نوعية هل تصرف هذه الأدوية طبقًا لآليات القرار الصادر فعلًا؟ أم أنها تخرج بكميات أكبر دون وصفة/ استشارة طبية؟ ستبدو أسئلة هزلية حقيقةً، ألقِ نظرة بالشارع يا عزيزي، ستعرف! ولنستعيض عن ذلك بسؤال من المتسبب في هذه الحالة؟ الهزيمة؟ الفقر؟ غياب الرأي والشعور بانعدام القيمة جملةً؟ وعلى عاتق من تقع مسؤولية تفسير ما يحدث؟ فضلًا عن تفكيكه بغرض هدمه لا تصديره كأحد آليات عمل الواقع التي لا ينبغي أن نحيد عنها بأي شكل، وهي في حقيقة الأمر حلقة واحدة ضمن ماكينة فساد متكاملة، كأحد الآليات التي تضمن بشكل أساسي بقاء الحال على ما هو عليه، بقاء الفساد والتربح والاستبداد، وقبل كل ذلك، ممارسة التجهيل بأسباب الهزيمة وتداعياتها من 67 التي لم تكن مجرد نكسة، وحتى اليوم. 

هو ما يستدعي عمدًا قراءة هذه الحالة من السُكر الجزئي –باعتبار هزيمة يونيو وما تلاها إلى اليوم أحد مسبباته المباشرة-، طويل المفعول، نتيجة الأقراص التي تهدف إلى إطالة مدة الجماع أو تحسين المزاج، أو دفع الجراح وشعور الخيبة بعيدًا بعيدا. وهو الأمر الذي يساهم بشكل ما في فهم ظاهرة التحرش من جهة أخرى، ليس من باب الهوس الجنسي فقط، ولكن من حيث غياب الإنتباه تجاه التصرفات الشخصية نظرًا للوقوع المستمر تحت تأثير هذه العقاقير التي لا تسهم في الغياب التام للوعي، وبالتالي لا يقع متعاطيها تحت طائلة القانون الجنائي. 

بالطبع هذه التحليلات خاضعة للرأي كما أنها عرضة للتغير حسب ما يقدم الواقع من معطيات جديدة قد تسهم بدورها في تعميق عملية الفهم لدى الجميع، وهي كذلك محاولة بائسة لتوقيف/ لإبطاء عجلة العنف على منحدر شديد وعر، التي لا محالة ماضية في طريقها، أو على الأقل محاولة لفهم ما يحدث، لماذا نموت كل يوم في بلد تعيس كهذا؟ ضل فيه طريق الصواب، وأضلنا الساسة الكبار ومسؤولي الدولة جميعًا، ومن يدفع الثمن؟ نحن؟ أبنائنا؟ الكل؟ الأكيد أن هناك ثمن، وهناك حتمًا من يدفع بالنيابة عن البقية، من فتاة جامعة المنصورة، لقس الإسكندرية، لأيمن هدهود، لحوادث الانتحار والخطف والاغتصاب والتحرش والابتزاز، وغيرها كل يوم، في مشهد يزدحم بالقسوة والدماء، والكثير من البلادة. ضع هنا كل الأسباب أو جميعها، وانظر عزيزي القارىء لما يطرحه علينا الشارع يوميًا مرةً أخرى من استعار جنوني وحوادث قد تظن عند سماعها لأول وهلة أنك داخل حُلم كابوسي بامتياز. 

في الوقت نفسه ستكون محاولة بائسة لو حاولنا استكشاف الأزمة بالنظر فقط لعلاقة الرجل بالمرأة، وبالمثل التعويل على غياب الدين جملةً أو سطوته في الحضور مخطىء الفهم. الحقيقة أن أي محاولة لتقديم قراءة للمشهد الحالي فضلًا عن طرح حلول ناجزة، دون النظر للغياب التام للمبدأين الأهم على الإطلاق لصلاح أي مجتمع، أي العدالة والقانون، ستكون مجرد قراءة فارغة من القيمة بدايةً، إذ الحديث دونهما ولو كان منمقًا، رائعًا، ظاهريًا، فهو محض هراء كامل، هراء فحسبُ!

بعد أن أُجهضت محاولات تغيير العالم 

في حواره مع جريدة المصري اليوم، يقول المخرج الفائز بجائزة الدولة التشجيعية لعام 2022م. وحين سُئل عن تطرقه فى فيلم «الكيت كات» إلى أزمة العجز.. هل مازلت ترى أننا مجتمع عاجز فكريًا وروحيًا؟

– “نحن لم نعبر عجز نكسة 1967 حتى الآن من الناحية الثقافية والفكرية؛ فالفكرة ليست في الانتصار الحربي الذي حققناه في 1973، الفكرة في دخول عصر جديد وأنت كمجتمع مسلح بالعلم والثقافة وحرية الرأي والتفكير، وهذا لم يحدث بعد مرور كل هذه السنوات، فأسباب الهزيمة المجتمعية التي حدثت فى عام 1967 لاتزال كما هي”. أضف إلى ذلك الخوف المرضي من العجز الجنسي، أو العجز المتحقق بالفعل! 

يعلق “حسام الخولي” في مقاله على موقع “مصر 360” قائلًا: “داوود عبد السيد الذي كرمته الدولة. بينما هو المخرج ذاته حسن السمعة الذي تعطل إنتاج فيلمه الأخير لسنوات نتيجة غياب ممول وتجاهل الدولة ذاتها مساعدته. ما المفيد في حصول رجل لا يمكنه العمل على جائزة أساسًا؟ لا شيء”. حاول داوود تعرية العجز كقيمة مارست سطوتها على الكل، هل نجح؟ هل تلقت الدولة خطابه فدعمته بجائزة؟ هل فعلًا أدركنا لحظة الهزيمة؟ أم أننا نتجاوزها بالوقوع في شراك هزائم أخرى أكثر بشاعة؟! الأمر الذي يفتح بدوره الباب لأسئلة أكثر، عن طبيعة سوق العمل في مصر والضاغط بشكل لا يوصف؟ عن انهيار منظومات الصحة والتعليم وغيرها؟ عن غياب تام للمساحات الخضراء والحدائق التي من شأنها الترويح عن نفوس المتعبين من ضغط الزحام وقتله البطىء؟ عن الشواطىء التي تآكلت لصالح مستثمرين وفنادق يستلزم دخولها أموالًا طائلة لا يمكلها الجميع بطبيعة الحال؟ وبالنظر لكون هذه الأسئلة ليس لها محل من مخططات حكوماتنا وبالنظر لكون هذه مساحات للترفيه والمتعة والاهتمام المستحق رغمًا عن كل شىء، فإن الأمر للأسف، سيبقى على ما هو عليه، وعلى المتضرر، أن يجد نوعًا جيدًا من مغيبات الوعي والسؤال! 

كنتُ، قال، مثل حصان جامح، أركض نحو الهاوية، أريد التوقف، ولا أقدر على ذلك. في الحقيقة، لقد كان ركضًا مروعًا، وشرعت أفكاري بخضوعها التام لما أنا فيه، ولما يحيط بي، ولكل ما يمكن أن يرتبط بكلمة صدفة، تأخذ منعطفًا عاطفيًا بحتًا. لقد فات الأوان! (بودلير). 

20 يونيو 2022م. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى