صمت..مقطع من رواية قيد الكتابة (4)

هبة وفيق الأحمد | سوريا

بعد رحيل جسد أختها قررت صمت أن تنام في سريرها.كانت تتخيلها نائمة بجوارها وتبتسم ؛مرات عديدة لمستا النجوم ودثرتا القمر كي لا يتسلل ضوءه إليهما.
في تلك الليلة صمت كانت مستغرقة بنومها …مستغرقة لدرجة أنها لم تلمس النجوم ولم تدثر القمر مع أختها تركت له الحرية …حرية التسلل
إلى عينيها اللتين لم تأبها له .
شعرت بقوة سحبتها ..قوة لم تدر ماهي …فتحت عينيها لتدرك ماهية ذاك الشيء الذي يقوم بسحبها من فراشها الصغير ..ظنت في البداية أن أختها تريد أن تلعب معها لكن سرعان ما تذكرت رحيل جسدها ..لم يبق سوى الروح المتأصلة بداخلها..
فمن كان يسحبها?…
ولم?…
رأته ..نعم …إنه أخاها الأكبريسحبها بهدوء كي لا تستيقظ…يسحبها كذئب خسيس يريد الظفر بفريسته .
استغربت صمت فسألته: مابك ? ماذا تريد ? !!!!.
أجابها بصوت خافت :أريد أن تنامي بجانبي هذه الليلة سأحكي لك حكاية جميلة كنت قد قرأتها اليوم ….حكاية عن الرمال الذهبية ..!!! رمال مسحورة !!!
شدها الخسيس بالعنوان فالرمال نقطة ضعف صمت .
قفزت من السرير وذهبت لتنام بجانبه وكلها آذان صاغية ؛تريد سماع الحكاية …
بدأ يلمسها لمسات غريبة مؤلمة موجعة لدرجة أنها أرادت أن تصرخ..لم تكن تدري ما مغزى تلك اللمسات.
رأت وجهه منتشيا يداعب جسدها الصغير بلمسات لعينة تهز عرش السماء .
-أنت تؤلمني !!!! وأين حكاية حبات الرمل المسحورة ?!.
سأرويها لك غداً اذهبي الآن لسريرك .
ركضت باتجاه سريرها دثرت جسدها المتألم والتفت على نفسها .
لم تستطع النوم ؛وأعلنت (لم )? قدومها بوحشية مستفزة …
لم تلك اللمسات المؤلمة ???!!!
لم كانت تعابير وجهه غريبة ??!!!
نامت على وقع قرع (لم )لطبول الخوف بداخلها .
في الصباح الباكر أرادت صمت أن تسأله (لم ) لكنها تراجعت ؛اكتفت بصمت رهيب قاتل …اكتفت بصمت قابيل بعد قتل أخيه هابيل .
قرع الليل طبوله معلنا قدومه الوحشي …بدأت تخاف الليل …الظلام …حتى القمر والنجوم.
بدا الظلام لها وحشا يعطي الحرية للذئاب سامحا لهم الافتراس ….احست به يسحبها مرة أخرى ..!!!
مالذي تريده ?..قالت له بصوت مرتعش يملؤه الخوف .
أجابها : الحكاية!!! سأرويها لك اليوم!!.
ردت عليه قائلة : لا لا لا أريد أنت تؤلمني .؛لا أعرف مالذي اقترفته بحقك حتى تؤلمني …لا أريد الحكاية ولا أريد الألم ؛فقط اذهب هيا اذهب ..
لم يرضخ لرغبتها سحبها بكلتا يديه وحمل جسدها الصغير إلى سريره وبدأ بلمساته المؤلمة …كانت مؤلمة لدرجة أنك تسمع فرقعة عظامك ..تشعر وكأن قفصك الصدري قابلا للطي …قلبك يعتصر من الألم ..
وظهرك متفكك الفقرات ..
قاومته ..أرادت الهرب فازداد وحشية ..لأول مرة صرخت ..أطلقت العنان لصرخاتها الواحدة تلو الأخرى حتى استيقظ جميع من في الدار
قالو لها : مابك??!!
أجابتهم:إنه يؤلمني …يعتصرني ..
ضحك أخاها بخباثة : لقد كانت تحلم حلما مخيفا وأتيت أسقيها كأس ماء فتخيلتني وحشا وبدأت بالصراخ …
ضحك الجميع وعادو للنوم راقبت ضحكاتهم الموجعة ..وجسدها يعتصر ..يفكك من الألم
ذهبت إلى سريرها لتبكي إلا أن دموعها خانتها لم تستطع أن تذرف الدموع …أرادت أن تبكي لتنسا …لتغسل الذاكرة الموجعة لكنها لم تستطع …وكأن القدر أراد لهذه الذكرى أن تبقى محفورة في ذاكرتها للأبد …
قررت صمت في صباح اليوم التالي أن تكلم والدتها …كانت تحب الحقيقة فالحقيقة بالنسبة لصمت هي الله …هي الضمير…
سردت لها حقيقة ما جرى ليلة أمس ؛ردت والدتها ضاحكة :كنتي تحلمين …تحلمين اذهبي والعبي هيا ولا ترددي تلك الحماقات مرة ثانية
أحست صمت أن والدتها تعرف الحقيقة …تعرف حقيقة صدقها …تعرف أنها لم تكن تحلم …لكن والدتها آثرت تصديق الكذب لأنه يمنحها الشعور بالرضا …الرضا الموجع …الرضا عن -تربيتها الصالحة-
اكتفت والدتها بوعد لصمت كان أن تبقيها بجانبها أثناء نومها ..
كان هذا اعتراف غير مباشر من والدتها بأنها صدقتها ….صدقتها بكل حرف لكنها كانت أضعف من أن تضع -تربيتها الصالحة -على المحك .
اتكأت صمت على جذع شجرة رمان صغيرة قرب المنزل وبدأت تنظر إلى السماء من بين الأوراق …رأت طيورا وغيوماً..تمنت أن تكون عصفورا في السماء لايسحب من فراشه ليلا ليعتصر ويغتصب وينكل بجسده الصغير .
كانت يائسة بائسة تركض ورء حلم طفولتها الضائع باحثة عن بصيص أمل تختبئ بين ذراعيه وتوغل رأسها الصغير بين كتفيه وتبكي بحرية ..
بائسة فتحت عينيها فوجدت نفسها في غابة ملأي بالذئاب يسود فيها حكم القوي على الضعيف ..غابة بقانون بدستور قذر ..
انتزعت منها أحلامها البريئة وزرعت مكانها أشواك غرست بمخيلتها .
لم تجد لليل مستقر فقد كان كابوسا لا بل وحشا يتربص لها .
أمسكت بالأمل وألقته في حضن والدتها الذي كان من المفروض أن يكون ملاذا آمنا لها ..لكنها خذلتها ..فقد كان مقبرة صمت ..سكون …وخوف.. .
أرغمتها علئالصمت وهي التي لطالما كانت تحثها على الكلام ..إلا أنها الآن مستمتعة بصمت ابنتها …لأن صوتها كان مؤلما ..وموجعا ..تقشعر له الأبدان ويهز عرش السموات..
علمتها أن تغوص في الصمت …التخاذل …الخنوع ..السكوت حين يسلب الحق زرعت بقلبها الصغير الخوف ..الخوف من الغد ..الخوف من الزمن…
لم يكن لتلك التعيسة سوى أن تحتضن نفسها وتلزم الصمت …الصمت القاتل الموحش.
كانت تحب طقوس الصمت إلا أن صمتها الآن أصبح مؤلما..خانقا …موجعا …كرهت الليل ..كرهت مسار الكرة الأرضية وتمنتها أن تتوقف عن الدوران ليبقى النها ثابتا في عينيها كي لاتضطر أن تعيش الليل وهواجسة المؤرقة …
لم تستطع الكف عن التساؤل ؛أصبحت (لم) طقس من طقوسها وصديقة لصمتها الرهيب .لم تشعر يوما بالأمان بالرغم من نومها بالقرب من والدتها فذئبها خسيس يستطيع انتشالها بهدوء وحذر ولو كانت محشوة برحم والدتها .
إلا أن هذا الذئب كان قد توقف عن افتراسه لها خوفاً من أن تفضح حقيقته اللعينة ..اعتقد بانسحابه هذا أن نفسه قد طهًرت من رجس ذاك الذنب القذر…ظن أن الوقت كفيل بمسح تلك الطعنات من ذاكرتها …لكن صمت لم ولن تنسى …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى