قراءة في كتاب: “سيميائيّة السّرد – بحث في الوجود السّيميائي المتجانس” للدكتور محمّد الدّاهي

أمين خالد دراوشة

بين سيميائية العمل والأهواء تقتضي العلاقة البشرية من الغاضب أن يتسلح بجهة الرغبة في الفعل للانتقام من المغضوب عليه، وتحقيق المتعة المرجوة من خلال تعذيبة وتألميه.
الكتاب، ص 103

قسّم المؤلف كتابه إلى بابين، الباب الأول أحتوى على فصلين في التأطير النظري للسيميائية، أما الباب الثاني فكان دراسة تطبيقية على ستة مؤلفات أدبية، وهدف الكتاب إلى استيعاب آمال السيميائية التي تسعى إلى فتح آفاق جديدة لمقاربة الخطاب، وركز الباحث على المربع السيميائي (التشاكل والتطويع والأهواء والصورية).

وقسم الإطار النظري إلى مبحثين هما:
– سيميائية العمل، إذ يعد العمل العنصر الأساسي في انتقال المعنى من وضعية إلى أخرى، وتتمثل سيرورة العمل ونشاطه في المهمة التي كلفت الذات بإنجازها، وهذا يعني توفر الذات على مؤهلات تحتاجها للاضطلاع بالعمل الأفضل.
– سيميائية الأهواء، ويقصد به الحالة النفسية، فالعامل يعمل ويملك الحس، وهو يحتاج الحالتين لإثبات ذاته ووجوده، وما يعتمل في داخله من مشاعر ومواقف.
وتناول الباحث النظريات الثلاث التي تعالج العمل من زوايا متنوعة. الأولى توضح بيان علاقة العامل بعمله، والثانية تحدد العلاقة الموجودة بين العمل والعالم، أما الثالثة فتهتم بإمكانيات وصف العمل وتشخيصه.
النظرية الأولى متعلقة في فلسفة العمل التي تتناول تمييز العمل وتحديده، ومعرفة الحركة التي تؤدي إلى تحقيق غرض ما. فالتوحيديون أقروا بوجود عمل واحد، أما التعدديون فقالوا إن العمل القاعدي المولد يتفرع إلى ثمانية أعمال.
ونظرية العمل والعالم اهتمت بما يربط العمل بالعالم، وأثر العمل ونتائجه على العالم.
وينقل الداهي عن جورج هنريك إن العمل هو: “إحداث تغيير في العالم أو منع هذا التغيير على نحو مُتعَّمد (قَصَدي)”. (ص 20)
وتطرق إلى ثمانية أنواع من تدخل العامل في العالم، والتفاعل معه ومحاولة تغييره، ويشير إلى كتاب “مقدمات إلى نظرية العمل” لبتر ستوكنجر، الذي ناقش أربعة أواع من التدخل، وهي: ص20-21
– العامل يحدث الحدث
– العامل يوقف الحدث
– العامل يحافظ على الحدث
– العامل يعيق الحدث
وأربعة أنواع من عدم التدخل وهي:
– العامل يترك الحدث يتحقق
– العامل يترك الحدث يتوقف
– العامل يترك الحدث متواصلاً
– العامل يحترس من إحداث الحدث
لقد استخدمت السيميائية مفهومين لوصف التفاعلات في المستوى السيميا- حكائي هما: العمل Acte والفعل Faire ورغم إنهما يقومان بالوظيفية نفسها إلا أنه يمكن التفريق بينهما. فالفعل يلائم “الإيجاز جزئيا، ويفترض كفاية جهية بوصفها كمونا للفعل. لذا يتحدد العمل كانتقال من الكفاية إلى الإنجاز، ويُفسر هذا الانتقال على المستوى التركيبي باعتباره جهة الفعل”. (ص 31) وهذا يعني إن العمل له معنى أكثر اتساعا وشمولا من الفعل، فهو يقوم بتشخيص مظاهر الانتقال من الكمون إلى الوجود، ومن الافتراض إلى التحقق.
يحتاج العمل إلى ذات تقوم بالفعل من أجل التحول من حالة إلى أخرى، والانتقال من الكفاية إلى الإنجاز، ودون الفعل لا يمكن الوصول إلى الموضوع المبحوث عنه. ولا بدَّ أن تكون الذت مؤهلة لتحقيق آمالها وإلا فأنه سيعتريها الخمول والنكوص.
وناقش المؤلف الخطاطة الحكائية، وتطرق إلى تشخيص بروب للبنية الحكائية في ثلاث محن أو تجارب إنجازية، وهي: التجربة المؤهّلة (اكتساب الذات لجهات معينة)، والتجربة الأساسية (إضطلاع الذات بالمهمة)، والتجربة الممجِّدة (المجازاة)، وكذلك تطوير كريماص للفكرة، الذي طرح نموذج تنظيمي منطقي مكونا من أربع مراحل، أولا: التطويع وهو مرحلة تسبق الفعل، ومحددة له من باب الافتراض والتقدير، وبواسطة تحرك الأحداث وينبني على علاقة تراتبية “تقتضي تكليف المرسل (المطوِّع) لمرسل إليه (المطوضع) بامتلك الموضوع، وبممارسة عليه فعلا إقناعيا ذا طبيعة معرفية (التعريف وفعل الاعتقاد). وفي حالة انضباط المرسل إليه للأوامر أو اقتناعها بأهميتها وجدواها، فإنه يصبح ذاتا فاعلة في برنامج حكائي موجه نحو هدف محدد”. (ص 46).

ثانيا: الأهلية، لا شك إن بحث الذات عن الموضوع يستلزم أن تتوفر الذات على الأهلية الضرورية لتحقيق الإنجاز، فهي المسبقات والمفترضات التي تجعل العمل ممكنا.

ثالثا: الإنجاز، ويعد الوحدة أكثر تميزا في التركيب الحكائي، لأنه يحدد طبيعة العلاقات بين مختلف العوامل، ويسير إلى تصارع الذاتين المتنافستين (الذات، والذات المضادة) واحتكامهما إلى المواجهة لتحديد المؤهل لامتلاك الموضوع.

رابعا: الجزاء، يتصل الجزاء بالتطويع منطقيا وجدليا، فالتطويع يؤطر بنية تعاقدية متمحورة حول طبيعة العمل المراد تحقيق الإنجاز فيه، أما الجزاء فيدخل في إطار تقويم ما تم أنجازه من أعمال، حسب الاتفاق التعاقدي، ويمكن أن يكون الجزاء إيجابيا أو سلبيا (مكافأة- عقاب).
ويناقش الداهي في الفصل الثاني الأهواء والفلسفة، وآراء الفلاسفة بمفهوم الأهواء منذ أفلاطون، ويركز على أفكار دافيد هيوم، فالعقل ينقسم إلى الأفكار والإحساسات، ويعمل الهوى على تنظيم الذات “يحفز الفرد على استعادة توازنه في الحياة وتحويل إخفاقاته وإحباطاته إلى قوة”. (ص 61)
أما علاقة الأهواء بالأخلاق فإن الأخلاق تقوم على التقارب بين البشر غير أن الهوى له دوره، فالإنسان مجبول على حب نفسه وحب أقاربه، ولكنه في نفس الوقت يشعر بعذابات الآخرين من البشر الذين لا تربطهم بعه صلة قرابة، فيحس بالتضامن والتعاطف معهم. وبالنسبة للأهواء والمنطق الاجتماعي، فأنه بحكم إندماج الإنسان في نسيج المجتمع فأنه ينطبق على قلبه أحاسيس متنوعة ومختلفة (الحب، والكراهية، والعدالة، والكبرياء…)، فالأغنياء مثلا يشعرون بتميزهم عن الآخرين لقدرتهم على الوصول إلى امتيازات مادية، ومنطق الهوى هنا يعمل عند الحاكمين والأغنياء في إثبات الذات بالتميز عن الآخرين والسيطرة عليهم.
وعمل هيوم على جرد الأهواء وتصنيفها حسب طبيعتها ووظيفتها، وقوتها وضعفها، وعنفها وهدوئها. وجسد حدتها ومفعولها من خلال علائق القرابة والصداقة والعداوة والصراع، والوضعية الاجتماعية وظرفيتها، والأمراض المزمنة، والطموحات الفردية والجماعية”.(ص 65)
وعنى الهوى في الثقافة الإسلامية حسب معاني القرآن الكريم الظلم في الحكم، والأعمال التي تقود إلى ارتكاب الكبائر، والبعد عن الإيمان. وهو يدخل في “باب الفحش المطاع وشهوات الغي والمهلكات والمضلات. أي كل ما يخرج عن سواء السبيل أو عن الطريق القصد الذي رسمه الله في كتابه العزيز”. (ص 67)
وعمل هرمان باريت على تقسيم الأهواء إلى ثلاث فئات، الأولى سماها الأهواء المتقاطعة، وترتكز على جهتي الرغبة والمعرفة، ويأتي هوى الفضول في المرتبة الأولى فيها، وموضوعه هو البحث عن الحقيقة، وزمنيته تكمن في استشراق آفاق المستقبل، والفئة الثانية تتعلق بالأهواء الانتعاظية، وتقوم على جهتي الواجب والقدرة، وتخص العلاقة بين ذاتين وتعمل على تقنينها، ويعتبر الاهتمام هو الهوى الرئيس فيها، أما الفئة الثالثة فهي الأهواء الحماسية، وترتكز على جهة الرغبة، وجهة الواجب، وتتميز بكونها تشتغل في مرحلة ما قبل توفر الشروط التي تسعف على تكون العالم الانفعالي، وهي مجردة من الزمنية، “وقادرة على تشبيك ومماثلة هوى بآخر (على نحو التقدير (موضوعي ونظري) = الاحترام (ذاتي وعملي)، والأمل (عملي) = الاضطراب (نظري)”. (ص 82-83)

الفئات الثلاث للأهواء (ص 83)
الأهواء المتقاطعة
1- الفضول 9- الهروب
2- المضايقة 10- الكرب
3- الجلد 11- اللامبالاة
4- الصفاء الذهني 12- التناقض
5- الجهل 13- الضجر
6- الخشية 14- القلق
7- السذاجة 15- النفور
8- الوهم 16- التردد

الأهواء الانتعاضية
17- الاهتمام 23- اللامبالاة
18- الثقة 24- الاحتقار
19- الكراهية 25- العودة
20- الحذر 26- التقدير
21- الصداقة 27- الاستخفاف
22- الحب 28- الازدراء.

الأهواء الحماسية
29- الحماس 33- الاعتراف
30- الافتتان 34- الخيبة
31- الإعجاب 35- الاحترام
32- الاضطراب 36- الأمل
والأسس التي يقوم عليها تولد الأهواء هي: إعادة التوازن بين القيم الانفعالية وبين حدة توترها، ورصد الذات إبان تحققها ودخولها في تفاعل مع ذات مُنافس للتبادل مختلف الأدوار العاملية. ولزيادة الإيضاح، فإن كريماص خصص دراسة لهوى الغضب، وانطلق من شرح معجمية الغضب، واستخلص برنامجا حكائيا مكونا من المراحل الآتية:
الحرمان—السخط—العدوانية
ووضع الغضب في إطر دلالي أوسع، يشمل مرادفات الغضب ( الكآبة، والحقد، والإهانة) فالعلاقة البشرية تقتضي أن يسعى الغاضب للانتقام من المغضوب عليه، وتحقيق المتعة من خلال تعذيبة وإحداث الألم له.
وتحدث جاك فونتاني عن مكونات البعد الشعوري للخطاب، فينبغي مراعاىة الجانب الشعوري في المسار العاملي، وأخذ الردود الجسدية مأخذ الجد لكونها تجسد ما ينتاب الذات من أحاسيس ومشاعر، مثل أحمرار الوجه، اصطكاك الأسنان…
وتتكون الخطاطة الاستهوائية (ص 104) المقننة من مراحل تبين تَدَرُّج الهوى من المستوى العميق إلى المستوى السطحي:
– الانكشاف الشعوري: ينكشف شعور الذات لما تعبر عمّا ينتابها داخليا من أهواء. وتمثل هذه المرحلة بروز الذات الاستهوائية في الخطاب إذ تصبح في حالة الشعور بهوى معين.
– التأهُّب: تتوفر الذات على المؤهلات الضرورية للتعبير عن هوى معين.
– المحور الاستهوائي: وهي مرحلة أساسية لتحقيق الهوى، فعبرها تتعرف الذات أسباب اضطرابها، وتدرك القيم الانفعالية التي كانت موضوعا لها في المرحلتين السالفتين.
– العاطفة: وتبين ردود فعل الجسد إزاء الإحساسات المحزنة أو المبهجة. وفي هذه الحالة تصبح العاطفة حدثا استهوائيا قابل للملاحظة والتقويم.
– التقويم الأخلاقي: تُقوّمَ الأهواء من منظور جماعي لبيان موقعها داخل إطار سوسيو- ثقافي (موقف ثقافة معينة من الحب) أو من منظور فردي لكون المُقوِّم نفسه يعد جزءا من المشهد الاستهوائي (موقف الغيور من ميل عاشقته إلى منافسه).
ووضع جاك فونتاني الخطاطة الاستهوائية المقننة مقابل الخطاطة الحكائية المقننة لبيان مدى تقابل مراحلهما (ص 106): الخطاطة الحكائية المقننة الخطاطة الاستهوائية المقننة
– الميثاق/ التطويع
-الكفاية
– الإنجاز
– النتيجة
– الجزاء – الانكشاف الشعوري (التكوين)
– التأهب
– المحور (أو الصوغ) الاستهوائي
– العاطفة
– التقويم الأخلاقي

واقترح مارسيلو كاستيانا سيميائية للجسد الطبيعي مرتكزا على قصيدة الجحيم لدانتي، وانطلق في تحليلة من إشكالين هما: كيف يتشخص الخوف في مختلف تمفصلات القصيدة؟ وكيف يتجلى من خلال الردود الجسدية؟
بالنسبة للإشكال الأول، يعني بالخوف “اقتراب شيء خطير” (أرسطو). وهو يتشخص في مظاهر مختلفة: الخوف من المجهول، الخوف من الظلمة، الخوف من الشجرة، الخوف من الحيوانات المفترسة. والإشكال الثاني يتتبع ردود فعل الجسد في مواجهة المخاوف التي تنتابه. “وإذا كانت حالة الجسد تدرك من خلال حالة النفس، وحالة النفس تمثل حركية الجسد، فإن الخوف يعد بمثابة تلاقيهما المثالي”. (ص 107) واعتمد في إعداد دراسته على ثلاثة مفاهيم قاعدية لإرساء دعامات سيميائة الجسد الطبيعي وجمع بين التحليلين السيميائي والفيلولوجي، وهي (ص 108):
– الوسم: وعنى به أن الجسد يشتغل كذاكرة لتخزين ردود فعله التي تمت بصلة إلى تجاربه السابقة، سواء أكانت إيجابية أو سلبية.
– التشاكل العاطفي: وهو التسلسل الدلالي الناجم عن التوجه المفروض على مجموع التوترات والأحاسيس الجسدية.
– المفعول القبلي، وهو نوع من التقويم ينصب على تصحيح الردود الخاطئة والناقصة وتقويتها وتعديلها.
وفي نهاية الباب الأول، يشير إلى رؤية جاك فونتاني وكلود زلبيربيغ في كتابهما “التوتر والدلالة” “أن الحركة الجهية تتأثر بخصوصية ثقافة ما. “فالاستعمال هو الذي يحدد، داخل ثقافة معينة، التأليفات الجهية الممكنة والتأليفات التي لها أثر استهوائي”. (ص 113)
ويطبق الداهي المنهج السيميائي في الباب الثاني الذي قسم إلى ستة فصول على ستة أعمال أدبية. وسنركز على الفصل الأول والثاني كونهما الأوسع والأشمل.
يتناول المؤلف التشاكل الحكائي في رواية “ذات” لصنع الله إبراهيم، في الدراسة الأولى، ويحاجج فيها من خلال المنهج السيميائي النقاد الذين قالوا بتشظي الرواية وعدم ترابطها، بسبب وجود الكثير من القصاصات والاستشهادات، وقال صلاح فضل عنها: إن السرد يفتقر إلى عملية التنامي الدرامي الضروري للوصول به إلى لحظة الذروة، مما جعل الرواية ينقصها العمق الترابطي فظهرت في بعض الأماكن مسطحة، وكأن أجزائها تم الصاقها بشكل مصطنع.
ويناقش العنوان وأهميته كونه يحدد هوية النص وإغراء المتلقي، فالعنوان هو “بمثابة مركز منظم يقضي على الاضطرابات، ويجمع شتات ما تفرق وتصدع، ويضفي الدينامية على المواقع والمتغيرات، ويمد الجُسيْرات بين البنيتين المتناوبتين، ويرتقي بما هو خاص إلى ما هو جماعي عام لبيان ما عاشته مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر من تحولات عميقة وسريعة مست نمط عيش الإنسان المصري ورؤيته للعام”. (ص 129-130)
أما بالنسبة للتجنيس فأن وسم ذات بالرواية يعني “أنها بوتقة تنصهر فيها مختلف العناصر والمعطيات غير المتجانسة للبحث في الحياة من كلية خفية، ولبيان مسيرة الذات وهي تواجه القوى الغربية وتنزع إلى إعطاء معنى لحياتها وفهم طويتها، ولتشخيص حنينها إلى الاكتمال الطوباوي الكامن في الملحمة حيث التناسب بين أفعال الروح ومطالبها، وغياب الألم وأمن الكينونة، “وحينئذ تكون الكينونة والمصير، والمغامرة والاكتمال، والوجود والماهية، أفكارا متطابقة”. (138) فالرواية لا تأخذ شكل نسقيا إلا بالتجريد، وجعلها محسوسة كتجربة يعيشها الروائي.
ويرى لوكاش “أن الجنس الروائي يتضمن عناصر غير متجانسة ومنفصلة مدعوة إلى تكوين وحدة عضوية، ويشكل “منظومة الأفكار المنظمة التي تكون الكلية” لوكاش وتسهم في إقامة “شكل الفحولة المنضجة” (الانغلاق الروائي)”. (ص 137)
وأشار إلى بعض القضايا التي تدعم تماسك العالم الروائي، على نحو دمج عناصر غريبة، وتوحيد أجناس أدبية، وإضاءة الشكل المركزي بالتضاد،…، وإيجاد علاقة وطيدة بين الأجزاء المستقلة والمنعزلة وبين البنية العامة للعمل، وإدخال موضوعات خفية تشكل مطلعا للرواية، ويكون لها دور حاسم في النهاية. “يتلقى كل ذلك تمفصلا موحدا عن طريق إدخال كل عنصر منفرد في علاقة مع الشخصية المركزية ومع المشكل الحيوي الذي يلقي الضوء على مجرى وجودها”. (انظر: ص 137- 138). إن بنية محتويات الرواية محكوم عليها بالتعقد الأقصى، وبتصحيح نفسها بواسطة أخلاق جديدة، وبتدخل الكاتب لخلق التوازن بين العناصر المتنافرة وللحفاظ على “التفاعل بين مركبين من الأخلاق وبين هذه الثنائية في الإبداع والوحدة في الشكل،… ويكمن المبدأ الموحد النهائي في أخلاق الذاتية المبدعة، تلك الأخلاق التي تصير واضحة في المضامين نفسها”. (ص 138)
ويعتبر ميخائيل باختين الأسلوب عنصرا مهما لتميز الرواية ذات الصوت الواحد من الرواية البولفونية ذت الصوات المتعددة، (ولإدراك معضلة صورة اللغة أو اللغة المشخصة أدبيا. إن “الرواية هي التنوع الاجتماعي للغات، وأحيانا للغات والأصوات الفردية، تنوعا منظما أدبيا”. (139)
وتتسع بنيتها لاستيعاب الوحدات الأسلوبية اللامتجانسة، وإدماجها داخل الوحدة العليا (الكل) للتكون نسقا منسجما. ومن بين الوحدات التأليفية المكونة للبنية العامة للرواية، نذكر السرد الأدبي في مغايرته المتعددة الأشكال، وأسلبة مختلف أشكال السرد الشفوي أو المكتوب والأجناس المتخللة والرطانات المهنية والحوارات المباشرة للشخوص المفردة أسلوبيا والملفوظات “الأجنبية” المتسربة إلى كلام المتلفظ، والمسكوكات اللغوية…الخ. إن الأسلوبية التقليدية لا تدرك أهمية تجميع اللغات والأساليب لتكون نسقا متجانسا. “إنها لا تعرف كيف تتناول الحوار الاجتماعي النوعي للغات الرواية، كما أن تحليلها الأسلوبي لا يتجه نحو مجموع الرواية، وإنما يقتصر على هذه الوحدة التابعة أو تلك. فالباحث، من هذا الاتجاه، لا يلمس الخصوصية الأولية للجنس الروائي، ويستبدل موضوع بحثه بالوقوف عند الجزئيات، وبالإجمال، فإنه يحلل شيئا جد مختلف عن الأسلوب الروائي”. (ص 139-140)
لكن أسلوبية باختين أدركت خصوصية الجنس الروائي وحددت أصالته التي تكمن في قدرته على الارتقاء بالتعدد اللغوي والأسلوبي إلى درجة عالية من التنسيق والتنظيم. فالأمر هنا لا يتعلق لا بلغة واحدوة ووحيدة بل بحوار اللغات أو بلغات مترابطة فيما بينها حواريا. ولا يعني التشخيص اللغوي لعبة لفظية مجردة أو لعب شكلاني محض أو تجريب اللغات والأساليب، بل هي عملية موزونة ومفكر فيها بإمعان لتوسيع الأفق اللساني وشحذ إدراكنا للفروق الاجتماعية- اللسانية”. (140)
ولجعل صورة المتكلمين ب “ملابسهم” الملموسة والتاريخية تتراءى وراء جميع اللغات، فالمهم صورة الإنسان في لغته. إلا أنه لكي تصير اللغة صورة للفن الأدبي، يتحتم أن تصبح كلاما على الشفاه التي تتحدث، وأن تتحد بصورة الإنسان الذي يتكلم.
من هذا المنظور، لا تعتبر المواد الصحفية، على سبيل المثال حشو، بل ذات بعد إيديولوجي لأنها مشبعة بالعينات الإيديولوجية، ومحددة لرؤية المتكلم إلى العالم، ومقاومة للغة الجاهزة والآمرة، وذات بعد جمالي للحفاظ على الوحدة في التنوع وعلى التفاعل الحي بين مختلف اللغات والمنظورات والسياقات.

التشاكل
عنى كريماص بمفهوم التشاكل “تكرار مصانف…طوال سلسلة مركبية…لضمان انسجام الخطاب – الملفوط. وفي ما يخص توزيع مكونات المسار التوليدي لخطاب، ويرى كريماص أن التشاكل الدللي (مقابل التشاكل النحوي أو التركيبي…) يجعل القراءة الموحدة لخطاب ممكنة. ولما نعود إلى مختلف تعريف كريماص وأتباعه يتبين أانها تتحدث مرارا عن تشاكلات دلالية وصوتية وعروضية وأسلوبية وافتراضية وتركيبية وسردية. وهذا يجعلنا نفترض أن كلمة /تشاكل/تشمل مختلف الظواهر السيميائية التي يمكن أن تُحدد نوعيا على أنها تماسك مسار القراءة في كافة المستويات النصية). (ص 146)
ونهض محمد مفتاح بتدارك ما نقص في تعاريف كريماص “مركزا على دور التناسل ووآلياته في انسجام ارسالة صوتيا ودلاليا ومعجميا وتركيبيا ومعنويا وتداوليا. وفي هذا السيق يقترح للتشاكل التعريف التالي: “تنمية لنوة معنوية سلبيا أو إيجابيا بإركام قسري أو أختياري للعناصر صوتية ومعجمية وتركيبية ومعنوية وتداولية ضمانا لإنسجام الرسالة”. (ص 147)
ورغم تعدد التعريف إلا أنها كلها تتفق إن التشاكل “مبدأ منظما وعنصرا أساسيا لضمان انسجام الخطاب وتناسله ونموه. وتم التعبير عن هذا الانسجام بمفاهيم مختلفة في مقاصدها ومتباينة في منطلقاتها المنهجية، ونذكر من بينها على سبيل المثال: القراءة الموحدة (كريماص)، والقراءة المتماسكة (كربرات أوركشيوني)، والتماسك التاوللي (أاومبرطو إيكو) والتجانس الدلالي (أرنولد) والتماسك النصي (بوتيي) والاتساق النصي (راستيي) وانسجام الرسالة (محمد مفتاح).

المدار
ويهتم بالتماسك التأويلي للمعجميات المستخدمة، فالتشاكل هو الحصيلة الدلالية لهذا التأويل المتماسك كما يقول إيكو. وهو عبارة عن تسلسلات متشاكلة من الصور المرتبطة بموضوع محدد، ففي الرواية هناك مسار تصويري للهدم (تكسير، تحطيم، استبدال…)، ومسار البناء (معالجة، وتثبيت، وخلق، والاصلاح…).
وتحدث عن تشاكل الملكية فجميع المسارات التصويرية وغيرها تندغم في تشاكل الملكية، وهي ألفاظ من قبيل (شقة، ومال، واستثمار، والشركة، والمشروع)
أما في الفصل الثاني فدرس تجليات الأهواء في رواية “الضوء الهارب” لمحمد برادة، وركز على المحاور التالية: تركيب الغيرة، ثم الكفاية الاستهوائية، ثم التمظهرات المعجمية، ثم الخطاطة الاستهوائية المقننة.

1- تركيب الغيرة
وتعني الحمية، فالمرء يغار على زوجته أي نبذ شركة الغير فيما له وتتركب من
الذات – الزوج
الذات المضادة- المنافس
الموضوع – الزوجة
والغيرة نابعة من الحمية والآباء والمروءة والترفع، وعدم استساغة المرء أن يمس الغير شرفه وكبرياءه..ومحاولة المس بخاصته تستلزم رد فعل انتقامي يعيد له الاعتبار في المجتمع وهنا تتولد الأهواء ذات الطبيعة العنيفة والمباشرة (الافتراق، التهديد بالقتل، الشتم، التعنيف، التحدي). وتولدت الغيرة عندما حدثت الأام ابنتها عن حبيبها السبق، فقررت إغواءه.

2- الكفاية الاستهوائية
تمتلك البطلة كفاية الفتنة والجمال والمال ويتضمن لفظ الفتنة على التمظهرات التالية:
الإعجاب، الاستمالة والوله. وتتشخص خطابيا بواسطة العناصر التالية:
– التطويع الانفعالي، بانتزاع البطلة الإعجاب من الشخص المستهدف من خلال سحر عيونها، ورشاقة جسدها، وملابسها التي تكشف عن مفاتنها.
– سلطة الجسد تشغل فاطمة سلطتها الجسدية لإفتتان الرجل، من خلال الملابس المكشوفة، ارضاء غرائزه، اشباع استيهاماته، الاستجابة لطلباته، تفجير القوى الشيطانية الحبيسة في أحشائه، وجعله غارق في متاهات التخيل ولتذكر
– التجربة
تستفيد من تجربتها الحياتية ولا تعطيه كامل جسدها بل على دفعات، وتحاول اضفاء الغموض على شخصيتها، وقبل أن تزوره أخذت صورة عنه وطباعه.
– الصمت
تنتقي العبارت الملائمة، وكذلك تلوذ بالصمت لتجدد إيقاعاتها وتبديل وتيرتها وتدبر ما يزيدها بهجة وإثارة ومتعة، وإتاحة الفرصة لجليسها هامشا ليستمتع بشلال من الذكريات والاستيهامات والتخيلات.

3- التمظهرات المعجمية
– الإعجاب وهو من الأهواء الحماسية، ويعني أن الآخر يمثل الأنا، وتتكون تركيبتها من العوامل التالية: المعجب ذات 1 والمعجب به ذات 2 وموضوع الإعجاب والعجب يحتمل الايجاب والسلب.
– الاستمالة وهي الميل نحو شيء يحبه الفرد، وبذل الجهد للوصول إليه والبقاء بقربه والحصول على مودته.
وتبذل فاطمة مجهودات لاستمالته من خلال الحركات الجسدية: هزة البطن، غمزة، ابتسامة، أو استخدام الانفعالات مثل الاثارة و الإغراء والتطويع الاستهوائي.
– الوله وهو التعلق الشديد الذي يفقد العقل.

4- الخطاطة الاستهوائية المقننة
وتختزل الأهواء البشرية وتتكون من المراحل التالية:
-التكون: وهي المرحلة الأولى التي تظهر فيها الذات الاستهوائية في الخطاب
تكونت بإخبار أمها لها عن حبها لمحمد فقررت أن تنتزعه منها.
– التأهب: الذات الاستهوائية متأهبة، فتقوم فاطمة قبل زيارة محمد بالتعرف على حياته، وما يحب ويكره، والاعتناء بمظهرها، وممارسة لعبة التخفي من أجل تشويقه وإثارته.
– الصوغ الاستهوائي”وتشخص هذه المرحلة باعتبارها تحقيقا للهوى الذي يجعل الذات تكتشف – من أشياء أخرى- سبب ضجرها الداخلي”. (ص 178) وتتحقق تداوليا ومعرفيا وانفعاليا.
– العاطفة وتحيل الى الانسان وجسمه، فالأمور السابقة تحقق الراحة للجسد، وتظهر في نشاطه الانفعالي (رعشة، تشنج، رجفة، ضجر) ويتخلص في رد فعل جسدي قابل للملاحظة والمعاينة والقبول والرفض من قبل الآخرين.
– التقويم الاخلاقي ويشخص في المرحلة الأخيرة، فعندما تصل الذات إلى النهاية تكون اظهرت نفسها للآخرين ولنفسها نتيجة التحول الاستهوائي، تحدث العاطفة حدثا استهوائيا ملاحظا، وقابل للتقويم والقياس، وهذا الملاحظ هو الذي يقوّم الهوى أخلاقيا سواء باسم الثقافة التي يمثلها أو باسمه الخاص في نطاق أنه مورط.
وظهر بعد كشف فاطمة له سبب إغوائه. وفوجئ بصفاتها الحسية المفرطة والتمزق والشيطانية والتحايل، وتأسف عن سيرها في طريق محفوف بالمخاطر والأوهام.
اسهمت الغيرة هذه الوحدة الاستهوائية في انطلاق البرامج الحكائية، وإضفاء الدينامية على العلاقة التي تجمع بين الفواعل الثلاثة الأم وفاطمة ومحمد، وحفز فاطمة على نبش الماضي.
يعتبر الكتاب غنيا في معارفه ومصطلحاته، ودراساته التطبيقية على المنهج السيميائي، ولا غنى عنه لكل باحث في المجال السيميائي، لأنه مكتوب بلغة سلسلة، حيث طوّع الداهي اللغة الجامدة للمصطلحات، وأصبحت في مؤلفه في متناول حتى القارئ العادي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى