الأم، الذاكرة، وحياة في مجرات بعيدة

د. إيهاب بسيسو | فلسطين

أفكر طويلاً في تعدد الصور التي تظهر فيها أمي في المنام، في تلك الحالات العُمرية المختلفة التي لا تتوقف عن طمأنتي لحضورها المتواصل، الذكي، الرمزي، غير المنفعل، البشوش، الدافئ كنهار مشرق.
ذات منام صاحت: أنا جدتك يا بني، لا تنس منزل جدك القديم في غزة وأزقة حي الشجاعية الموغلة في التاريخ والحكايات، تلك التي كنت تركض فيها طفلاً يحاول اكتشاف بلاغة المعنى في العمارة القديمة.
وذات منام قالت أنا شقيقتك الكبري التي لم أنجبها، غير أنني وددت دوماً أن يكون لي ابنة، لِمَ لا تكتب شيئاً عن يومياتك في المدن البعيدة، رسائل تبدأ بعبارة محببة: أختي الغالية.
وذات وقت قالت كن ودوداً مع من يحاول أن يظهر أمامك بحدة مفتعلة أو ملامح أو مع من يحاول التطفل على وقتك اليومي بهراوة معدنية أو وجه من صخب، دعهم يمرون في النهر وانتبه بصفاء لورد الضفاف الهش، ذلك الذي يمنح الحياة معنى وصورة …
فهتفت بتعب: يا أمي …
وذات مرة كانت المعلمة التي تراجع دروس الحساب في دفتر التحضير المدرسي، قبل أن تهمس في المنام بثقة: الصفر في الرياضيات ليس عدماً بل على العكس تماماً الصفر نمو السكون يختصر قوى متعددة، يحركها في الصمت بمهارة قبل أن تصبح عالماً من نقاط مُلهمِة تصنع قوة الأشياء الظاهرة والحركة.
هي لا تكف على أن تكون المدينة الموازية لكل القلق الذي يحاصر أبنية الاسمنت في المدن المضطربة بين دوي طارئ وأخبار فاسدة.
نحن الذين كبرنا في طرقات الشوك والمسافات المبتورة وأصبحنا بلا أمهات، نعذر الكثيرين ممن تجتاحهم انفعالات الوقت أحياناً أو هؤلاء الذين يظنون أن الحياة حلبة مصارعة ضيقة وعليهم أن يثبتوا براعة ساذجة في فوز متخيل وانتصارات.
فقدان الأمهات في الحياة يصنع فراغاً شاسعاً بين الأشياء حيث لا تعود الأمور كما كانت من قبل، تسقط الأوهام كأنها أصابتها شيخوخة مفاجئة، تختصر اتساع المسافات والأزمنة، ليصبح الوقت مجدداً كوناً موازياً ، كون أكثر هدوءاً ونقاء، أقل انفعالاً حيث الأشياء تفقد العديد من بريقها الباهت.
في فقدان الأمهات تعود الذاكرة لفحص التفاصيل البعيدة بقدرة تفوق قدرة تيليسكوب جيمس ويب الفضائي العملاق في اكتشاف المجرات البعيدة وربما يكون هذا الكون المكتشف هو التعبير الأكثر ملاءمة لوصف الأبدية المتصلة بالذاكرة.
لهذا يروقني أن أرى طيفها في الليل وسط كل النجمات، وهي تسترد أنفاسي بطريقتها الخاصة، تنظفها تماماً من كل الشوائب التي علقت بها كعوادم سيارات وغاز مسيل للدموع وصراخ عدمي ودخان ورماد وأشياء عدة محترقة.. ترمم ما تصدع من لغة وحياة، تصقلها مجدداً مع ابتسامة بشوشة في المنام.. وتتركني كي أستيقظ في اليوم التالي كي أستقبل ضآلة الكرة الأرضية “بسلام”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى