المفرزة التي لاحقت المشاهير (2)

من حقيبة مذكرات الكاتبة وفاء كمال الخشن | لبنان 

في اليوم التالي ..فزت بلقائه في منزله العائلي . وحين دخل الصالة الصغيرة ،اضطربتُ كلوحٍ من الخشب تتقاذفه الأمواج ..لا أدري سبب ذلك ! هل هي هيبة إطلالته ؟ أم هو شغفي بالالتصاق بالقصائد المغضوب عليها ؟.

هممتُ للتلميح حول مهمتي الصحفية لولا دخول امرأة سمينة قروية الملامح , (رحَّبَتْ بي ,وأظهرت مودة بالغة ), قدَّمها لي الماغوط  :

ـ إنها شقيقتي

سألتها: هل أنت شاعرة أيضاً ؟

سبقها ” الماغوط ” بالإجابة:

ـ إنها راقصة . .

لم أتمكن من تمييز الجد من الهزل في رده ، فمظهرها العام لا يوحي بما نَعَتَها به مطلقاً، وخاصة محيط بطنها وخصرها الواسعَيْن .

قلت: هل كنتِ مدربة رقص؟

فضحِكَتْ ونظرَتْ لشقيقها الشاعر” محمد الماغوط ” الذي ضحك بدوره و قال : بالأمس أجْرَتْ عملية جراحية ..وشقوا بطنها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار . فما عساها أن تعمل سوى ( الرقص) ؟

هكذا كان ” الماغوط ” تسبقه كلمته الساخرة . فيحرك خيال المقابل إلى موضع لا يمكنه تصوره .

استطاع أن يبعدني عن مهمتي التي حضرتُ بصددها . وينقلني إلى عالم الوجع ومعاناة الناس المستمرة ..فالشعر عنده يغلو في الانتقال من ذاته النادرة ، ليمسي ملاصقاً للناس وأوجاعهم ومعاناتهم  .

إنَّ رغبتي بلقاء ذلك  ” البدوي الأحمر”  الذي قاتل على عدة جبهات, ( شعر ومسرح وصحافة),  وجمع كل تناقضات الوطن على صفحات كتابه ” سأخون وطني ”  ،  حيث كتب كإنسان جريح يحمل آلام الناس والمعذبين في الأرض والفقراء والمظلومين والمهمشين والمحزونين جعلتني أنسى الحوار . فما أسمعه اليوم هو جزء من الصورة التي كنت أخزنها في خيالي عنه . صورة المضحك المبكي في آن واحد .لقد أحببت نسيج حياته , لأنه كان مزيجاً من حياة أبي وجدي . كان الماغوط محروما من حنان الأب الذي كان قاسياً , يضربه كما تُضْرَبُ الجارية ، كذلك كان أبي محروماً من حنان الأب الذي هاجر هرباً من الاستعمار والفقر . قضى الماغوط حياته هارباً من السلطات التي كانت تلاحق منتسبي الحزب السوري القومي بعد اغتيال عدنان المالكي على يد أحد أعضاء ذلك الحزب . كذلك كان أبي متخفياً حين انصبت حوله الشكوك بمساعدة سجينَيْن من قادة الثورة السورية عندما كان مراهقاً يعمل في ثكنة للجيش الفرنسي . لم تكن عوائل السجينَيْن لتعثر على مكان وجودهما لولا زيارة أبي لهم ، وتبليغهم بالاتفاق مع السجينَيْن . فما كان من السوريين إلا التظاهر في ساحة المرجة صباح اليوم التالي ، مطالبين بالإفراج عن السجينين . لم يكن أبي يتجاوز الرابعة عشرة من عمره . خاف وهرب إلى لبنان .وظل متخفيا خشية الملاحقات. ليعود ويتعرض لها في شبابه بعد انتسابه لنفس الحزب الذي انتمى اليه الماغوط . ثم هرب من الملاحقات وسحب انتسابه . فكَتَبَتْ عنه الصحف بالخط الأحمر العريض ( كمال بيك الخشن يعتزل السياسة) . لم يكن والدي( بيك) . لكنَّ هذا اللقب أطلقه عليه الحرس الرئاسي في عهد الرئيس ” شكري القوتلي ” حين ذهب لاستقبال والده المهاجر لأول مرة .حين عاد للوطن بدعوة من الحكومة بعد أن نال وسام الاستحقاق السوري وهو ” وسام أمية ذوالرصيعة ” ،ووسام الاستحقاق اللبناني، لجهوده المضنية في مقارعة الاستعمار والصهيونية . ولأنه كان من الصحفيين الأوائل الذين لم يبيعوا ضمائرهم وأقلامهم للسفارات الأجنبية . فأوقفوا الإعلانات عن جريدته ” العلم العربي ” ( التي كانت تصدر باللغتين العربية والإسبانية ) . ظنا منهم أنهم يستطيعون الضغط عليه . لكن الجريدة كانت تُوَزَعُ سراً لأبناء الجالية العربية ملفوفة بجريدة أخرى للتمويه . .

” الماغوط ” كان يذكرني بجدي وأبي . لذا لم يكن بإمكاني إلا أن أحبه كما أحب أبي . لكن لماذا قفز قلبي بين ضلوعي حينما تهادى صوته لأذنيَّ من سمَّاعَة الهاتف ؟ هل كنت أعشقه دون أن أدرك تفاصيل ذلك العشق ؟ أم أنه الشعور بالزهو والانتصار لأنه هو الذي اتصل وليس أنا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى