“على بوابة مطحنة الأعمار” في ندوة اليوم السابع

تقديم وتغطية: ديمة جمعة السمان | القدس


ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية كتاب “على بوابة مطحنة الأعمار” – رواية أسير فلسطيني للأسير المحرر أحمد صلاح الشويكي بحضور عدد من الأدباء والمثقفين الذين شاركوا بمداخلاتكم القيمة. ابتدأت النقاش مديرة الندوة ديمة جمعة السمان التي رحبت بالحضور وقالت: اصطحبنا الأسير المحرر أحمد شويكي في رحلة صعبة داخل سجون الاحتلال مدتها عشرون عاما من الأسى والعذاب والتعذيب النفسي والجسدي والتنكيل والتأهب وأساليب فرّق تسد الشيطانية، والمتعاونين مع إدارة السجون الذين يطلق عليهم اسم (العصافير)، فهم يوقعون بالأسرى لأخذ اعترافاتهم وتسليمها للمحققين، الذين يعجزون عن الحصول على اعترافات اسرانا البواسل بسبب صمودهم الأسطوري أمام التحقيق، وما يتخلله من أساليب شيطانية في التعذيب، فيلجأون لأسلوب الحيلة من خلال أذرع لهم ضعفاء النفوس، لا يمتّون للإنسانية بِصلة.

عشرون عاما من الذكريات الأليمة سجّلها أحمد صلاح الشويكي في كتاب أطلق عليه اسم: ( على بوابة مطحنة الأعمار)، وقد أحسن اختيار العنوان، فقد شبّه أحمد سجون الاحتلال بمطحنة تطحن سني عمر الأسير، فتفقدها بركتها، ليصحو وقد مضت السنون دون أن يعيش مراحل عمره الطبيعية. فيتوه ضائعا يبحث عن بقايا عمر هربت منه، فكيف سيبني شخصيته، ومن سيمنحه خبرة الحياة ليصنع له كيانا يشعره بإنسانيته.
من خلال مذكرات أحمد تعرفنا على الأساليب المتجددة التي تتبعها إدارة السجون للإيقاع بالأسرى وأخذ اعترافاتهم، فلم تكتف بإدخال العميل (العصفور) إلى الزنزانة، بل اتبعت أسلوب نقل الأسير إلى زنزانة كل من فيها عملاء لينتزعوا اعترافا تحت وطأة الخجل، فكيف لا يروي قصة بطولته أمام أسرى وثق بهم، يعيشون معه في ذات الزنزانة، وفد خدعوه وأوهموه أنهم وطنيون حتى النّخاع!
وقد وصلت الأساليب الشيطانية التي يتبعها المحققون، إلى حد التخطيط لمسرحية تهريب الأسير من خلال ضابط يوهمه بأنه أسير مثله، ويخطط لهربهما من المعتقل. ويتم الأمر تحت عيون إدارة السجن، وبعد أن تتم عملية الهروب، يكسب ثقته العمياء، فيفرغ الأسير الضحية كل ما في جوفه من معلومات خارج جدران السجن، لتشكل اعترافات ثمنها الحكم بالمؤبدات.
تنقّلنا مع أحمد الطفل، وأحمد الشاب بين معظم السجون التي كنا قد سمعنا عنها، فتعرّفنا على خصوصية كل منها. عشنا مع أحمد طفولته وبراءته منذ أن دخل المعتقل في سن الرابعة عشر حتى غادره شابا في عمر الرابعة والثلاثين. كان دون أدنى خبرة في شؤون الأسر وطبيعة المعتقلات وأساليب المحققين، وكبرنا معه رويدا رويدا حتى علمنا خفايا المعتقلات، وهو أصبح من الأسرى المعروفين بين أروقة السجون المختلفة. خاصة وأن إدارة السجون حريصة على ألا تجعل الأسرى يشعرون بالاستقرار، فتعمل على نقلهم من سجن إلى آخر من وقت إلى آخر لإرباكهم، وإدخالهم في حالة من الشعور بالغربة الدائمة.
دخل أحمد سجن المسكوبية طفلا لا يتعدى عمره الرابعة عشر عاما. كان جريحا تستقر في ذراعه أربع رصاصات، بالإضافة الى كسر احتاج إلى تجبير. وواجه تحدّ كبير في تدبير أموره من خلال استعمال يد واحدة.
ما روى أحمد من تسلسل الأحداث وتفاصيل حكاية الاعتقال وما يجري في المعتقلات يدمي القلوب، إلا أن أسلوبه الذي كنت أقرأ فيه الإرادة والتصميم ورفض شيئا اسمه المستحيل، بالإضافة إلى طرحه تفاصيل صغيرة تخللتها بعض الفكاهة، أشبه ما تكون بِ “شر البلية ما يضحك”، خفف من الضغط على القارىء وجعل منه كتابا شيّقا، يزخر بالمعلومات التي لا يعرفها سوى من خاض تجربة الاعتقال، ولكن كل هذا لم ينجح في كبت دمعة حزن هربت تبكي على طفولة ضائعة، بللت صفحات الكتاب.
روح الطفولة تسكن أحمد ولا زالت. مبادراته ونهفاته مع اخوانه الأسرى من مقالب وسلوكيات مرحة وطيبة وأصالة، أضفت على أجواء المعتقل شيئا من الدعابة والفرح، خففت من وطأة العذابات وكبت الحريات على الأسرى. يقول أحمد: ضاعت أجمل سنوات العمر، أنا على علم تام بأنني أصبحت اليوم رجلا، فاتتني خطوات من مراحل الطفولة والشباب، ولكن ذلك لن يمنعني أن أحيا جسدا بمرحلتين: طفولة وشباب. سأركب الدراجة، سألعب الكرة بالشارع، سأقرع أبواب الناس وأهرب، سأضرب صغيرا وأشبكه مع متهم بريء في مثل سنّه، سأزور الدكان مرات ومرات مشتريا المسليات والعصير يسعر لا يزيد أحدهما عن الشيقل.. سأعود لأكمل ما تركت.
ولكن الأم العاقلة الحكيمة التي وصفتها إدارة السجون بالمجنونة بسبب كرمها وحنانها تنصحه بألا يفعل ذلك، لأن ذلك سيكسبه لقب الأسير الأهبل. بل تصر على تزويجه لينجب الأطفال، فيكونوا في كنف أب عطوف يقدر معنى الطفولة ويحترمها، فيكونوا محظوظين بوالدهم.
وكنت قد قرأت في إحدى الدراسات التي تتعلق بعلم النفس بأن المرحلة العمرية التي لا يعيشها الانسان بشكل طبيعي، فلا تأخذ حقها وتسهم في نموه النفسي والجسدي، لا بد أن تعود اليه ليعيشها في مراحل قادمة من عمره كي يضمن حصوله على التوازن النفسي في سني عمره المتبقية.
من يقرأ كتاب أحمد لا يفوته النفس التفاؤلي الذي يطل برأسه من بين حروف كلماته، يدعمه الأمل بمستقبل جميل آت، راجيا من كل من يقرأ كتابه أن يدعو له بأيام وردية تزين مستقبله، ليعوّض ما فاته من زمن قاسٍ ذاق فيه مرارة العيش على أيدي أناس تتبرأ منهم الإنسانية.


وقال المحامي حسن عبادي: من حيفا صاحب مشروع لكل أسير كتاب، والذي عمل على إصدار كتاب الشويكي: ضمن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون التقيت بالكثير من الأسرى؛ نحن بلد المليون أسير، والأسر داهم غالبيّة بيوت بلادنا، من جميع الأطياف، وحلّقت في فضاء غالبيّة اللقاءات طفولة سليبة؛ أطفال وأشبال وفتيان وفتيات أسرى وبالمقابل أباء وأمهّات أُبعدوا قسرًا عن أطفالهم وأحفادهم.
التقيت بمرح التي اعتقلت يوم 12.10.2015، طفلة (مواليد 29.01.1999)، وملك (مواليد 2000 ومعتقلة منذ 09.02.2016) ونورهان (مواليد 1999 ومعتقلة منذ 23.11.2015 ) وما زلن خلف القضبان، عشنَ طفولة مختلفة… طفولة لا تملك دميةً، لكنّها تملكُ قضيّة! اعتقلن في عزّ طفولتهن لتبدأ رحلة العذاب، عبثيّة محاكم الاحتلال وأحكامه الجائرة في غربة مستديمة بانتظار حضن الأم، فالغربة لا تُقاس بعدد الخطوات بين اثنين؛ بل الغربة أن لا تتنفّسَ عبق من تحبّ، فتعيش القلق والشوق ليل نهار. إنّها حكاية الطفل الفلسطينيّ الذي يخرج من رحم أمّه إلى النور مستعدّا لخوض الحياة المحتلّة، والأيام المحتلّة، والأحلام المحتلّة أيضًا ليغمس التراب بالحليب ليصير مولود الأمّ والأرض معًا!
إنّها الطفولة الفلسطينيّة السليبة، والطفولة أمنيات لا تتحقّق، والوطن تمرّ فيه كلّ الأجيال إلّا جيل الطفولة، بلا فرح وأحلام؟ يرضع ويكبر ليصير وجبة شهيّة للأسر. آلاف الأطفال دفعوا ضريبة حبّ الوطن ومرّوا بمدرسة الأسر في سجون الاحتلال، والتقيت ذات صباح في سجن “مجيدو” بالطفل عثمان وقابلني بابتسامة طفوليّة تعانق السماء، شبل يقبع في زنازين الاحتلال، سُلبت طفولته ليتعلم فنّ الطبيخ خلف القضبان فصار خبيرًا بطَهي المجدّرة والمقلوبة والمنسف، يهتم بالدراسة والتثقيف الذاتي لإكمال التوجيهي وتحقيق أحلامه والالتحاق بالجامعة ومسارها الأدبيّ، إذ كان أخوه عبد القادر يقبع في نفس السجن ولكنّه محروم من لقائه.
التقيت عبد القادر بعد تحرّره، وحين سألته عن عثمان أجابني أنّه لازمه الفترة الأخيرة ذات الغرفة لأنّه “بوغَر!” (يعني أصبح بالغًا. بالعبريّة: بوغِر: بلغ سن الرشد القانونيّة، أي الثامنة عشرة).
وها هو الطفل أحمد شويكي الذي أعتقل في الرابعة عشر من عمره قد “بوغَر” وكتب لنا رحلة الآلام التي مرّ بها على مدار عشرين عاما في غياهب السجون ليسطّر لنا بحروف من دم مسيرة طفل ترعرع وكبُر، ليكتب لنا تجربته وزملاء الأسر، بطولها وعرضها، دون رتوش، حاولت طحنه في مقبرة الأعمار ولكن نجا من براثنها ليحكي لنا الحكاية.
من المعروف أنه قد كتب أدب السجون أيضا من رصدوا تجارب سجناء عرفوهم أو كتبوها معًا. “تلك العتمة الباهرة” كتبها طاهر بن جلون، وهي رواية تتحدث عن معتقل “تزممارت”، تروى مأساة السجين عزيز بنين، الذي قضى عامين في السجون المغربية، ثم نُقل إلى جحيم تزممارت ليقضي فيه 18 عامًا آخر ويوثّقها هذه المرة طاهر بن جلون، فبعد خروج عزيز من سجنه ذهب إلى ابن جلون وأدلى له بوجعه ومأساته، طالبًا منه توثيق هذه الأحداث بقلمه، وبالفعل جسدها ابن جلون بشكل لا يُصَدق ومن شدة تأثر ابن جلون بما حدث لعزيز، ذكر أنه كان يرتجف ويتصبب عرقاً وهو يكتب الرواية، وكانت تعتريه لحظات من البكاء الهيستيري جراء الآلام النفسية التي تعرض لها عزيز ومن معه.
وها هو أحمد يكتب لنا تجربته، ترافقه أخته رائدة، وتنجح مخطوطته باختراق القضبان، ليتحقّق حلمه وتصدر تزامنًا مع يوم تحرّره بعد عشرين عامًا في زنازين الاحتلال. باتت الكتابة عند أسرانا متنفّس يخترق جدران الزنازين، دواءه وسلاح يمتشقه دفاعًا عن كينونته، لواء يرفعه في ميادين الثقافة العربية الشامخة وكلمات حرة ينثرها في الحقول الوعرة. تُعتبر الكتابة متنفّسًا للأسير تجعله يحلم ويتنفّس حريّة، تعبر قضبان السجن وزنازينه، تشقّ طريقها عبر نفق من الحريّة لتحلّق في سماء الحريّة المنشودة. نحن بلد المليون أسير، ورغم ذلك نسمع عن أسرانا هنا وهناك، فزعات عرب موسميّة حين يُضرب أسير عن الطعام أو حين يستشهد أو حين نحتفل بتحرّره. من الضرورة أنسنة قضيّة أسرانا، وتحييد محاولات الأسطرة والشيطنة في آن واحد، فلكلّ أسير وأسيرة اسم وحكاية علينا حفظها عن ظهر قلب. مبارك لك، باسمي وباسم الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب،وشكرًا لك أحمد على هذا المولود، آملين أن يتبعه أسرى آخرون ليكتبوا باقي الحكاية.

كلمة لا بدّ منها؛ حين تواصلت معي الصديقة ديمة السمان بشأن تناول إصدارات لأسرى وأخبرتهم بذلك طاروا فرحًا لأنّ هناك من يتذكّرهم رغم التعتيم، وكلّ ندوة تقام حول كتاب لأسير تعتبر عرسًا ثقافيًا يحتفلون به، وحين يُنشر خبرًا أو مقالةً حول إصدار من أدب الحريّة يمدّهم بالعزيمة والأمل ويشجّعهم على التفريغ والكتابة والتحليق في سماء الوطن. تُعتبر الكتابة متنفّسًا للأسير تجعله يحلم ويتنفّس حريّة. نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين.


وقالت رفيقة عثمان: تخلّلت النصوص أحداث ومواقف متعدّدة وأليمة واجهها الأسير خلال اعتقالهه، منذ 2002 عندما اعتُقل طفلًا في الرّابعة عشر من عمره؛ وإصابته برصاص قوّات الاحتلال في يده، واستشهاد صديقه سامر. كُتب على غلاف الكتاب، كتصنيف للجّنس الأدبي رواية، وبرأيي من المُمكن تصنيف الكتاب سيرة ذاتيّة من أدب السّجون. سجّل الأسير الكاتب الفلسطيني المقدسي، الصّور المختلفة لجميع أنواع المعاناة واستخدام كافّة أنواع التّعذيب في السّجون الإسرائيليّة المختلفة الّتي تنقّل بينها خلال فترة سجنه. تناول الكاتب سرد الأحداث بمصداقيّة وسلاسة، ونجح في وصف المعاناة القاسية، وتفاعلاته أثناء وجوده بين القضبان؛ على الرّغم من صغر سنّه، إلّا أنّ السّجن كان له مدرسة من الخبرات والتّجارب القاسية، والتي جعلت منه رجلا يافعًا، وجعلته يتعامل مع الأحداث بحنكة وقوّة صبر.
لغة الكاتب أدبيّة وانسيابيّة، لا تعقيد فيها، واشتملت على الوصف الدّقيق للأحداث المؤلمة. من الجدير بالذّكر أنّ الّصوص بحاجة غلى تنقيح لغوي. استخدم الكاتب أسلوب الأدب السّاخر “الكوميديا السّاخرة” في سرد بعض الأحداث المؤلمة؛ بحيث كتب مواقف مؤثّرة بأسلوب ساخر، يُضحك القارئ ويُبكيه في آن واحد؛ كما يقول المثل العربي: “شر البليّة ما يُضحك” واستطاع بذلك فضح السّلوكيّات الناقصة داخل السّجن، ويتفاعل معها القارئ بكل حواسه، وهذا ما حصل معي فعلًا، ضحكت في سرّي ونزلت دموعي متأثّرة بهذا السّرد المؤلم.
أعرض بعض المواقف، كما ورد صفحة 52 عندما القتررح على صديقه المسيحي، بأن يصلي الجاعة معه يوم العيد، قال له الصديق: “لا اعرف كيفيّة أداء الصّلاة” اقترح عليه الأسير بأن يُقلّده بحركاته، وفعلًا هذا ماحصل، لدرجة بأنّه قلّده أثناء حكّه لجلده أثناء الصّلاة، كلّما حك أحمد جلده، كذلك قلّده.
موقف آخر كما ورد صفحة 30 عندما صنعت أم أحمد مقلوبة لثلاثين سجينًا، وقام الضّابط بإرجاعها وعدم قبولها؛ ونعت أم الأسير بالمجنونة. موقف ساخر آخر عندما حضرت جدّة الأسير للسّجن واستعطفته، بقولها بأنه ستموت قريبًا وترغب بمعانقة حفيدها، وسمح لها بذلك؛ وعادت الجدّة بعد فترة محاولتها، إلّا أنّ الضّابط قال لها: “ألم تموتي بعد؟” وبالطبع رفض طلبها وطردها.
حدث آخر أثّر بي جدّا، عندما أعلن عن اسم أحد الأسرى بالإفراج، بصفقة تبادل الأسرى، فقام الأسير بالصّلاة ركعتي شكر لله، وبعدها تبيّن بأنه غير المقصود، وهنالك تشابه بالأسماء؛ وكان الغضب كرد فعل للأسير الخائب قائلًا: “أنا لم أكن أصلّي، أنا لست مؤمنًا لتختبر صبري، كل ما كنت أفعله هو حركات رياضيّة وليس لها علاقة بالصّلاة”. موقف إضافي عندما طبخ الأسير (منسفًا)، وتبيّن بأن أحد الصّحون كان طعمه حلوًا، عندما تدارك الأمر، وضع الصّحن جانبًا؛ ليأكل هو وفريقه منه، وليتجنّب الانتقاد، وعندما جلس مسؤول القسم الجلوس علىى نفس الطّاولة، نصحه بالانتقال لغيرها أفضل، إلا أن المسؤول تذوّق من صحن الاسير، وقال له: “آه منكم تحتفظون بالأكل اشّهي لكم؟”. ومن المواقف المُضحكة، عنندما تمّ نقل الأسير لسجنٍ آخر بعد سجنه اربعة عشر عامًا، شاهد حمارًا، وصرخ عاليًا بانفعال، هذا حمار! إلأّا أنّ صديقه قال له: ” ارحمنا.. أشعرتني بأنّك أجنبي جاء من مجتمع أوروبي”! كذلك ورد صفحة 111 موقف ساخر آخر “تهريب النّطف توضع في بسكوت اسمه (عرجليوت) حتّى بات اسم كل طفل يُنجب بهذه الطّريقة اسم (عرجليوت).
موقف أخير، عندما استاء رفيق له من طول حكمه، دون تهمة تستحق ثلاثة عشر عامًا، قرّر الطعن والاستئناف؛ ورأى منامًا بأنّه اشترى صت سيّارات من نوع فيات، فتفاءل؛ وفسّر حلمه بأنّ حكمه سيصبح ست سنوات؛ لكن بالمحكمة أضافواست سنوات لحكمه فوق أحكامهم. قال له صديقه:” احمد الله بأنّك رأيت سيّارة فيات ولم ترَ مرسيدس او بي إم”.
لفت انتباهي عنوان الكتاب “مطحنة عالى أبواب الأعمار” يبدو بأنّ اختيار العنوان مناسب جدّا لهذ السّيرة المفعمة والمؤلمة، وكان السّجن هو المطحنة الذتي أطاحت بالطفولة، وسرقت أعمار الأطفال الأسرى القابعين لفترات طويلة بين القضبان. كما ورد صفحة 159 سجّل الأسير قائلًا: ” طاحنة الزّمان، بوّابة سّجن المسكوبيّة في القدس حيث وُلدت”. فقد الأسير سيرورة التنشئة في طفولته بين أحضان والديه وأسرته، وفقد معها خبراته وألعاب الطّفولة، وبيئته القريبة والبعيدة، هذا الأسر سلب منه أحلامه وألعابه وأصدقاءه؛ حيث عارك الحياة منذ جيل صغير.
إنّ تحرير الأسير بعد عشرين عاًمًا من الأسر، خلقت فجوة اجتماعيّة وعاطفيّة، تستوجب الصّبر ومساعدة الأهل والأصدقاء؛ للتأقلم والتفاعل الاجتماعي من جديد. من الطّفولة إلى الرّجولة دون سيرورة تربويّة سليمة.
تجربة الأسر خلقت التّحدّي والصلابة والصّمود عند الأسير أحمد كما ذكر صفحة 115 ” غير أنّي بكثير من الطّاقة الإيجابيّة مشحون، فعلى مدار سنوات تعلّمت ألّا شئ مستحيل ، فبالعقل والتّفكير أصل ما أريد مهما كان الأمر صعبًا أو مستحيلًا”.
أنهى الكاتب سيرته الذّاتيّة، بمشاعر التفاؤل والأمل بمستقبل جميل قائلًا: ” سأترك رأيك يا أمي لشهور آمل خلالها أن أجد فتاة تشاركني تحقيق أحلام خلالها نملأ بها الصّندوق الأبيض الّذي وعدت أن يملأ بكل ما هو جميل، جما سأصنعه برفقة كل من شاركني هذا الدّرب القاسي الطّويل”. هذه السّيرة الذاتيّة للأسير المُحرّر الشويكي، توثيقها مهم جدّا؛ لتعريف وكشف المؤامرات، والمعاناة التي يلاقيها الأسرى بين القضبان.
كل الشّكر للّذين دعموا الكاتب على كتابة السّيرة الذاتيّة، ورافقوا مراحل الكتابة أثناء الأسر وبعده. والشكر موصول للمحامي والكاتب حسن العبّادي من حيفا، وأسرة الأسير. أمنياتي للأسير بالتوفيق، وحياة مفروشة بالأمل والفرح والحريّة؛ ليكون نموذجًا صالحًا للأجيال المستقبليّة.


وقال حسن المصلوحي: من المغرب: ليوم كامل و ليلة أسرتني هاته الرواية، رواية أسير فلسطيني، لساعات طويلة وجدتني أتنقل بين صفحة و أخرى أتلمس مكامن الألم و الغبن و مواطن الوجيعة، في هاته السيرة التي كانت مع كل حدث جديد تصدمني و تهز أركاني. في البداية شدني العنوان “على بوابة مطحنة الأعمار”، فحاولت تخيل أي معنى يكون للعمر حين يطحن، حين تذبل زهرة الشباب بين الحيطان الباردة و العتمة القاتمة و الدمعة التي تتجمد على الخدود، أن يطحن العمر معناه أن يطحن الانسان الذي لأجل الحياة خلق.
فانتقلت للإهداء الذي جاء في نصه: “إلى من ضاعت طفولتهم في عروة سرقة أرض و تاريخ و مجد !” و سرني أن يهدي الكاتب هذا العمل الذي تجرع تفاصيله جرعة جرعة إلى كل طفل أسرته أيادي الحقد و آلمني ذلك الإقرار المرير بسرقة الأرض و التاريخ و الأمجاد.
في التقديم نرى الكاتب الذي صمت طويلا، أسكته الكبت و الاحساس بالغبن و ضيق الأفق، ليضع الطفولة على بوابات الأسر في أم الحكايات القدس، و مثلما أعلن نفسه بطلا أعلن القدس سيدة الأبطال. و ما أروع ما كان قراره بأن يدون كل الأحداث كي لا تمحى من الذاكرة لتتحول الكلمات إلى غاية أسمى هي شهادة دامغة على العصر من داخل القهر !
هي بشكل أو بآخر بوح بهم الوطن أو هم الانسان الأبي الذي يقيم على شكل صمود، هموم المستضعفين و ليس همه هو فقط، و هاته الشهادة أيضا تعرية لكيان صهيوني يريد أن يجمل نفسه، و وضع للساسة و المطبعين أمام زيفهم و خداعهم و بيعهم للقضية و الانسان، هي صرخة تنتصر للإنسانية و إن كانت بطعم الألم. هي رواية حياة تحولت إلى حيوات تدور في فلك المشترك الانسان، و الأنا تحولت إلى أنوات، تتناسل من كل سجن و شبر و ذرة تراب يتكبد فيها الأحرار نير الظلم و القهر !
يصرح الكاتب الطفل بصدق كل تفاصيل الرواية و هو في الحقيقة لا يحتاج لأن يختلق أحداثا تزيد من جاذبية منجزه لأن ما عاشه حقيقة تفوق الخيال و المجاز و الوصف ! أمّا العمر فلم يضع أبدا لأن كل ثانية مرت منه جاءت في هاته السيرة صفعة على خد كل من يريد تشويه الواقع و قلب الحقائق و أدلجة العقول !
وتبدأ الرواية بمشهد الخلوة القسرية التي تتحول إلى وحدة قاتلة، و معتمدا على الخيال ينقلنا من الواقع المر إلى المتخيل الأكثر مرارة، ليأخذنا إلى رحلة طويلة أحزنتني وأفرحتني، أبكتني و سرتني في الآن نفسه، في مزيج من الأحاسيس و العواطف المتضاربة و عبر تلك الصناديق المتراصة التي شكلت محطات العشرين سنة، يستعيد من الذاكرة تفاصيل كل محطة على حدة… و تكون الانطلاقة مع الطفولة. طفلان يلعبان و علم الكرامة يرفرف على دراجتهما و بينهما جيش مدجج ترعبه الألوان التي تشهد للتاريخ ويشهد لها أن الأرض لنا و أن أبناء الوقيعة لهم الحجر. فتحضر رمزية القماشة بألوانها الزاهية مقابل قماشة أخرى تريد تزوير التاريخ و طمس الهوية، و إن كان هذا الطمس قد نال من البعض إلا أن القضية سيدة نفسها و التاريخ لا ينسى !
يضعنا الشويكي أمام مفارقة حقيقية، الوطن الذي يسكن القلب، الوطن المغتصب و السلطة القائمة الظالمة و موازين القوة التي مالت لتناصر الظلم لكنها لا تهزم الحقيقة! ولأن العدو لا يمتلك من الشرف شيئا، فقد يكرمك بالعطايا ليذبحك و يطعم أطفاله من لحمك، أما الخيانة فعلى مر التاريخ بوجهين، وجه مألوف متعلق بمن هو عدوك، و وجه أشد حقارة متعلق بمن يدعي حمله للقضية.
تنتقل بنا الرواية إلى مشهد السرير الذي يجعل الشويكي يستعيد الحدث المفصلي الذي قلب حياته رأسا على عقب. و يأبى إلا أن يدون التاريخ الذي هز كيانه و حوله من طفل إلى رجل يحمل قضية و يعيش من أجلها، فأهل الأقصى يتعرضون للقتل، فتتحول نزهة الأطفال من الهدوء إلى الصخب، من السلام المزعوم إلى القتل و من السبات العميق إلى الحقيقة الدامغة، حقيقة الوحشية و الهمجية ومنطق الغاب الذي يستأثر بنفوس الصهاينة، حقيقة أن البقاء للأقوى، فتصورت الأحداث، تأملت الجرحى والشهداء كما صورهم بصورة بليغة فيها الجماجم تتعرى من جلدها و الدماء تنزف من سويداء القلوب و من الأقصى يأخذني إلى الأمة ! إلى أمة رضيت بالعار وصمة على الجبين، و بالخنوع ديدنا و وسيلة، و تأملت أيضا أشباه مثقفينا، هؤلاء الحداثيون الذين يبيعون أقلامهم لتمجيد الغرب و احتقار العروبة، يتسولون شرفا داخل أوكار الدعارة، يكتبون على الحجاب و على الختان و على شيخ اقتنصوه من السراب ليحولوه إلى مدفع يعلو دبابة، يكتبون على الطلاق و على تعدد الزوجات و على الشرق الذي يأبى التقدم، و لا ترى أعينهم و لا ترصد أقلامهم هذا الغرب المستبد الذي يزرع الموت في الشواطئ و المدن و الحارات !
لقد كان حدث الانتفاضة طفرة في حياة هذا الطفل، لتصرح الهوية عن نفسها في مقام النضال و الصمود، فيتحول من طفل لا يميز علم فلسطين إلى رجل فلسطيني حتى النخاع… رجل يضرب ضربته و يتلذذ برؤية العدو يتألم، رجل يؤمن بأن العين بالعين و السن بالسن و أن البادئ أظلم. لا ينسى الكاتب أن يذكرنا ببريطانيا، الكيان البراغماتي الذي لعب أدوارا حقيرة في التاريخ، الكيان الذي أعطى عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، و أعتقد أن وصمة عار كهاته كفيلة بإخراس تلك الأصوات التي تنبح على كل المنابر بأمجاد الغرب!
و عبر مشاهد الزنزانة الصغيرة و التحقيق المرير و التعذيب الممنهج و الاهانة الوضيعة يرصد لنا ذلك التشبث الأصيل بالحياة رغم اللاإنسانية و العنصرية و العصبية الصهيونية، و لأن الانسانية لا دين لها، يرينا عبر موزع الطعام أن جذوة الانسانية لا تموت و أن الانسان لا يحتاج إلا لعقل يفكر حتى يميز بين الظالم و المظلوم.
أما الأم فكانت داخل الرواية شخصية مركزية، معها تشكل الوعي بالهوية و معها استمر العيش والصمود ومعها أيضا يفتح المستقبل ذراعيه للأسير الخالد الذي لا و لن يموت ! الأم التي وصفها تجار الموت بالمجنونة لأنها حنونة فالحنان في عرف الأوغاد جنون و الانسانية في تاريخهم جريمة !
ولأن المخادع يخشى الحقيقة فلا ضير في قليل من التزيين والتجميل أمام عدسات المصورين… و لكم تعجبت من احتفاظ الطفل بالابتسامة والدعابة في عز المصيبة، سخرية على السخرية، وتهكم على المحتل الذي اعتقد أنه بالسجن قد ينال من العزيمة، قوة لا تخور في عز السياط التي تنهال على الظهور مخلفة ندوبا لا تزول بفعل الزمن. مرارة لم تنسه أن يزف قطعة حلوى لأخته الصغيرة عند زيارتها له ليتدفق الحب و إن كان من غيابات الجب. تنبثق الحياة من صدور صغار كالزنابق تأبى أن يغطيها التراب و يقتلها الغياب، رغم الأمراض ورغم الأبواب المؤصدة و العيون الزائغة عن الفجيعة المصنوعة، و رغم خذلان العرب الذين باعوا القضية، عرب يضربون عربا، و يا للمفارقة !
وتمضي بنا الرواية في تفاصيل يلتقطها الكاتب الطفل بكل مرارة، آلام جسمانية ونفسية ورغبات أشد بساطة، رغبات لا تشبع فتتحول إلى فطنة و قوة وحكمة و أحيانا قد تتحول إلى قسوة و ظلم. لقد كان الكاتب في عمله هذا شفافا و صادقا، لم يصور نفسه على أنه الملاك الوديع كما جرت عادة كتاب السير القدامى، فعبر بكل صراحة عن المكائد و الظلم الذي أسقطه على الآخرين، أفليس الميثاق بينه و بين القارئ يقوم على الصدق، و أعتقد أن هذا كان واضحا في العمل و مقوما أساسيا من مقوماته.
استدعى الكاتب من ذاكرته رمزية المعلم و المدرسة و النور الذي يضيء العتمات و الأقبية و تعلن الانسان متحديا للذات رغم الصعاب عبر التعلم، فالتعليم نور، هو نجاة و ربما كان هو المنقذ من ذاك الجحيم. و نملة أخبرته بأن لا ييأس و أن يتواضع و يعمل بجد و يتعاون مع الاخرين و لا ينسى التضحية، و لعل هذا شهد تجربته الطويلة، تعلمه على وجع و قهر و أهدانا إياه متدفقا من قريحته الانسانية.
تبدو جلية في الرواية قيمة التواصل باعتباره الفعل الذي يميز الانسان كلية كما ذكر كلود ليفي ستراوس، إنه الفعل الذي حولنا من حيوانات متناحرة إلى كائنات ثقافية، فتواصل الأسرى من الطوابق و صمموا على توفير وسائل الاتصال حتى و إن تطلب ذلك تجرع السم وكسر العظام عنوة، و لست أدري هل تحدث الكاتب عن تهريب النطف جنبا إلى جنب مع تهريب الهواتف صدفة أم كان مقصودا، أفليست النطف تواصلا بين أجيال من الأبطال يخشاه المحتل الذي يقتات على قطع الأوصال.
و في الرواية كانت هناك وقفات شاعرية مثل مشهد التوتة و الأوراق المتساقطة و الخلف الجديد الذي ينتظر البزوغ، مشهدية الانبعاث التي ذكرتني بكلمات الشاعر العراقي مهذل مهدي الصقور: “أنا كالقيامة ذات يوم آتي” ليذكر من جرّف الأرض أن بذور الثورة ما تزال كامنة تنتظر لحظة الانعتاق من ظلمة الأقبية، مثل الفينيق الذي ينبعث دائما من رماده.
لقد كان للشويكي الطفل الوعي الكافي ليضع سجانا بلا هوية أمام إحراج و حيرة حقيقية، ليضع العالم الغربي المتواطئ أمام مفارقة صارخة مؤداها أن من يخدم قضية ليس كمن يخدم الريح فمهما تطاول زرع الغاصبين لا بد أن تذروه رياح الزاحفين، المنحدرين من أرحام الكرامة، إنها وسيلة الكاتب الاحتجاجية على الأوضاع و على الظلم، فلا ينفك يتساءل و يتهكم ويسخر و يمتعض ويسمع بأعلى الصوت بأنه ههنا أطفال صغار تطحن أعمارهم وتغتصب طفولتهم، ههنا يا غربا أعمى، ههنا إنسان يحتاج لإنسانكم الملعون الذي يقتات على العنصرية، ههنا إنسان خذله الأقربون و قصم ظهره الأعداء، ومشفى تحول إلى مسلخ، ههنا عالم من الجرائم لا ترونه أو لا تريدون رؤيته، ههنا وجهكم الحالك و تاريخكم المشوه. ههنا أنا الطفل الذي سلبتموني ألعابي البسيطة ورائحة التراب حين تسقط عليه أمطار العشية وحمار الجدة و هواء المدينة الذي يهب من السماء ليبلغها وصايا الأجداد الذين عاشوا على وطن و ماتوا على الجمر، ههنا طفل أعمى، نسي الألوان و الأشكال والأحجام. ها هنا رجل يربي الطيور فتهاجر حجره في كل مرة لتذكره بأن الحياة توجد هنالك في الخارج حيث الأفق الفسيح، حيث لا حيطان و لا أشواك و لا أسلاك، ولا بنادق الحراس القادمين من شتات الأرض، هنالك حيث وجه أمي، وأرصفة الحارة، و حلويات محل البقالة…
و من الاحتجاج ما يكون بطعم الموت، الاضراب عن الطعام، و أبى الكتاب إلا أن يدون إسما بماء الذهب، مروان البرغوثي، لتعود صور الخذلان تذكر الكاتب بأن العيب فينا قبل أن يكون فيهم. وفي سجن النقب تتحقق بعض الرغبات البسيطة التي لربما لا نلتفت إليها، السمر الليلي و ارتشاف مشروب تحت سقف السماء، تحت أنظار الله الذي علم بكل ما وقع، لتكون لحظات المكاشفة، مكاشفة الذات بما جد وفات، وبذكريات أليمة تنتفض من قبورها كالرفات، و إرادة قوية لا يفلها الحديد، رغم الخديعة والدسائس و الخبث، وتكلل هذا الصمود بأن صار الأسير المتعلم معلما، صار نبراسا يضيئ الظلام الدامس، و يذكرنا جميعا عبر رمزية جورج أورويل في روايته “المزرعة” بأن المصيبة تكمن في تفريق الصف و أن في الاتحاد قوة، و أعتقد أن هاته الرسالة كانت من أقوى رسائل الرواية.
و بما أن سنة الله في الكون أن الظلم إلى زوال، حان وقت الافراج مع رقم مرعب، عشرين سنة، و رغم هذا الحدث المتفرد لا ينسى رفيقه، الرفيق هو الأسير، المتعدد المتجسد في المفرد، الأسير هو هو، فأشعرني وكأنه خرج من السجن و ترك روحه داخلا، و هاته نقطة لا بد أن نتوقف عندها مطولا، أن تولد الانسانية والغيرية و حب الآخر داخل السجن فتلك مسألة تتطلب دراسة عميقة، أن تولد الحياة من رحم الموت، و هكذا كان، سنوات عذاب أنجبت لنا أستاذا و كاتبا و انسانا عظيما، فيلتفت وراءه ليعيد استحضار بوابة مطحنة الأعمار، طاحونة الزمان و مفرمة الرجال، طفولة مغتصبة و قفز إجباري على أشهى لحظات الحياة. و تدمع العين إذ تقرأ أنه ذاك الطفل الذي يبلغ من العمر أربعة و ثلاثين عاما يريد أن يعود ليكمل كل ما ترك خلفه ! كل ما ضاع و تبدد في سنوات الأسر. رغم أن العمر هو ما راكمناه من تجارب حتى و إن كانت قاسية، فانت أمة تأبى الركوع.
و لأن الأمومة هي البداية و الموئل، فإن الرواية بكل ما فيها تؤوب لحضن الأم التي تعبر عن حكمة فلسطين التي لا تشيخ، فتصرح عن رغبتها في تزويج ابنها الذي ما زالت الطفولة تعصف بكيانه كطفل يلاحق طائرته الورقية، لقد كان قرار الأم حتمية، و هو ضرورة ولادة الأطفال، إنها حتمية الصمود و الخلود في وجه النسيان. لأن فلسطين ذاكرة أمة عصية عن النسيان !
قرأت الرواية فكتبت نصا على النص، قراءة عاشقة و التقاء مع الكاتب في مقام التلاقي، فالرواية كانت وجودية بامتياز، فيها الانسان الذي لا ييأس و يأبى إلا أن يصنع تاريخه ، فيها تناول قيمي إنساني نبيل، فيها كثير من الحب و كثير من التكافل و كثير من التماهي مع الفضيلة…
راوية قاربت مفهوم الهوية وذات تمتلك جذورا أصيلة مقابل آخر يتسول هوية مشوهة رقيعة. فيها رجل نذر نفسه، يسابق الذاكرة ليروي في هودج التداعي الذي لا تكلف فيه تفاصيلا لا يتسنى لأحد آخر أن يحكيها كما حدث في الرواية، فيها واقع حي كان و ما زال قائما، لقد كان بوح الكاتب تحررا من سنوات ثقيلة مضنية.
هاته الرواية متعددة، سير هي، سيرة ذات و سيرة قدس و سيرة وطن و سيرة أمة و سيرة إنسانية أصبحت تطبع مع الجريمة، و تتملص من كل خير أو فضيلة. سيرة تحول لهذا الكون عن سنن العدل و الاستقامة، و زيغ إلى معترك من الضباع و الحيوانات التي تقتات على البراءة.
في خاتمة هاته القراءة البسيطة أهديك أخي أحمد، أخي الانسان الذي نسيه الزمان بين رصاصتين، ها أنت تخلد في التاريخ و في ضمير الأمة التي ستعود، حتما و نذرا أنها ستعود. أهديك قصيدة درويش الخالدة وكأنها كتبت لأجلك لتغنى باسمك، أخي أحمد.


وقالت هدى عثمان:
الكتاب سيرة طفل مقدسي غير عادي تحت ظلّ الاحتلال، والمشاهد السياسية الساخنة جدا،هو سيرة الوجع والقهر في حضن الزنازين،هو سيرة مليئة بالقصص المؤلمة،يرويها لنا الأسير المحرّر أحمد شويكي ابن الرابعة عشرة الذي توقف عن ممارسة طفولته في أحياء القدس ليمارس لمدة عشرين عاما دور الأسير في عدّة سجون،سيرة تجعلنا نصرخ أوااه يا أطفالنا أين ذهبتم؟،ما أقسى الغياب!، بحثنا عنكم بين الأوراق والكتب، وكم اشتاقت لكم الحقائب والأقلام،وعيون الأحبة. في هذا الكتاب،يسجل الأسير المحرّر شويكي مشاهداته منذ دخوله السجن،من عدّة أبواب لصناديق مختلفة،كان صندوق التحرير هو الجميل الوحيد،لقد نجح الأسير من خلال سرد مفعم بالمشاعر والوصف الدقيق، والإسهاب والتفاصيل أن ينقل الصور المختلفة لحياته في الأسر في سجون الاحتلال،كما نقل لنا معاناة الأسرى عامة والعلاقات بين الأسرى،من خلال صور الحوار الجاري بين السّجان والأسير،أو بين الأسرى أنفسهم،صور تمنحك فكرة عن عالم لا يعرف الحرية ولا همس الحنان،رسم لنا بقلمه الذكي شكل الزنزانة المزري الذي لا يليق بالإنسان ،وعدد الأسٖرَّة،وحالة المرض سواء عنده أم عند باقي الأسرى، وصور الفقد والموت. من خلال كتابه يبرز شويكي مدى مساهمة الاحتلال داخل السجون في محاولته لزعزعة الروابط الأخوية بين السجناء وخلق الفتن والطبقية بينهم،ومدى خلق الأكاذيب للتأثير على الأسرى في الاعتراف، وتجنيد السجناء كعملاء تحت ضغط العذاب،ينتقد بحرقة بعض الخائنين العرب الذين يعملون في سجون الاحتلال كالضباط العرب، برزت صور سوء التغذية عند السجناء، وشح الوجبات التي تقدم لهم، وقد برزت بعض المصطلحات الخاصة التي تتعلّق بحياةالأسرى،مثل: الفورة،العصافير، مسلخ الرملة كناية عن المشفى وغيرها، وقد برزت شخصية شويكي خلال في مكوثه الطويل والمتنقل بين الزنازين والسجون ومخالطته للضباط والأسرى من الأشبال والكبار، فرأينا الأسير شويكي الذي يتميز بشخصية قيادية،وبعزة النفس،الإصرار والعزيمة وخاصة في تعلمه لمعرفة اللغة العبرية، وفي جعله مسؤولا عن قسم الأشبال وفي إعداد الطعام مع العلم في البداية لم يحسن طبخ المقلوبة،برزت حنكته واحتياله على السّجان،كانت هناك بعض التصرفات لم تكن حكيمة في تصرفاته،بسبب عفويته وصغر سنه وجهله لما يحدث، كما وبرزت براعة السّجناء في الحصول على الهواتف النقالة رغم اكتشافهم فيما بعد،رأينا شويكي كممثل مبدع في حَبك القصص ولبس ثوب البلاهة أحيانا لإغاظة السّجان ،برزت روح الفكاهة أيضا عنده من خلال بعض المقالب التي افتعلها هو وبعض السجناء داخل الزنزانة، وقد نجح الأسير في رسم الصورة ليجعلنا نتأثر،بالفعل كانت بعض المقالب تضحكنا ولكن بعضها لم تكن كذلك بل خاصة في الكذبة التي اختلقوها لموت والد أحد الأسرى والذي تأثر من الخبر كقارئة أردت أن أصرخ ماذا فعلت يا أحمد!،وللأسف تتحقق الكذبة لتصبح حقيقة فيما بعد بوفاة والده. برزت العاطفة والاعترافات الصادقة عند شويكي، فالقارىء للسرد يتنفس المشاعر الحزينة، والمؤلمة ويشعر بمدى صدق القلم الذي أثار مشاعرنا،وخاصة في اعترافه بظلم أحد السجناء حين ظنّ أنه خائنا وعميلا. لقد رأيت في كتاب الأسير صرخة الطفولة التي سلبت وقد عبّر عن اشتياقه لسنين عمره التي ضاعت في نهاية الكتاب حين قال بما معناه سأخرج إلى الحياة لأعيش شغف الطفولة والشباب، وأختم مقالي بصورة تصويرية نقلها الأسير بصورة مؤثرة خلال وجوده بإحدى مركبات السجون التي نقلته لإحدى السجون حين صرخ مندهشا “حمااار” واستغراب السائق من ردة فعله،لأنه لم ير حمارا منذ سنين طويلة.هذه الصورة شاهدة على عمق فقد الحرية وسلب الطفولة. نتمنى للأسير المحرّر أحمد شويكي كلّ التوفيق، والعيش الرغيد،بعيدا عن الجراح والألم، والحرية لجميع الأسرى إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى