التّهريب بين الأردنّ وفلسطين.. أشواك البراري (طفولتي)

جميل السلحوت | القدس

        فرض المحتلّون البريطانيّون ضرائب مرتفعة في فلسطين لتشريد شعبها، وفي الوقت نفسه قاموا بتسهيل الهجرات اليهوديّة إليها، والعمل على تنفيذ وعد بلفور بإقامة دولة لليهود عليها. بينما لم يفرضوا ضرائب على شرق الأردنّ، وهذا شجّع عمليّات تهريب البضائع كالأقمشة والسّجائر من الأردنّ إلى فلسطين. وعمل أبناء السّواحرة في التّهريب لاتّساع أراضيهم الممتدّة من جبل المكبّر إلى البحر الميّت جنوبا، وإلى نهر الأردنّ شرقا، ولمعرفتهم بطرق البراري التي لم تكن سيطرة للانجليز عليها.

وعمَلُ السّواحرة في التّهريب لم يتجاوز عمليّة نقل البضائع لصالح تجّار القدس، الذين كانوا يدفعون أجرة خمسة جنيهات لحمولة الحمار وصاحبه، وسبعة جنيهات لحمولة البغل وصاحبه، وهذا دخل مرتفع قياسا بأجور ذلك الزّمن، حيث كانت أجرة العامل تتراوح بين 3-5 قروش يوميّا. وكان التّهريب بقوافل من الحمير والبغال، تعبر نهر الأردنّ ليلا، يحرسها رجال مسلّحون، ولكلّ قافلة مسؤول، يعطي أجرة معقولة للرّجال الذين يعملون معه هم ودوابّهم، ومن مسؤولي “القوافل” في حامولتنا الشقيرات أبي حسين ابراهيم السلحوت، محمد عبدالله سلامة-استشهد في حرب العام 1948-، حسين ابراهيم شقير وعزّ حميدان شقير، وقد أثروا ثراء بائنا من هذا العمل، ولم يعمل منهم في التّجارة لاحقا سوى المرحوم عزّ حميدان شقير الذي افتتح محلا للصّرافة بالشّراكة مع تلحميّ في بيت لحم، وممّن عملوا في تهريب البضائع بين فلسطين وشرق الأردنّ من الحمايل الأخرى فهد الأعرج، والأخوان حسين وحسن صوّان.

بدايات التّعليم:

      معروف أنّ عرب السّواحرة عشائر بدويّة كانت تسكن البراري طلبا للعشب والماء، وتأثّروا بتجّار القدس الذين عملوا لصالحهم في تهريب البضائع من الأردنّ إلى فلسطين، كما تأثّروا بالقائد عبد القادر الحسيني الذي كان يعسكر بين مضاربهم، ويجد الرّعاية والحماية منهم، شاركوه الثّورة، وكان يحضّهم على تعليم أبنائهم، ومن هنا بدأت عمليّة استقرارهم، وتعليم أبنائهم في المدارس قبل افتتاح أوّل مدرسة في جبل المكبّر أشهر جبال أراضي السّواحرة، لارتباط اسمه بالخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب فاتح القدس، كانوا يرسلون أبناءهم إلى كليّة النّهضة في حيّ البقعة في القدس الجديدة، وإلى كليّة صهيون بجوار سور القدس قرب باب الخليل، وكان ذلك في أواخر عشرينات القرن العشرين، ونظرا لرغبتهم في تعليم أبنائهم فقد بدأوا ببناء البيوت الحجريّة على أراضيهم في جبل المكبّر؛ لتكون قريبة من المدارس، وأوّل بيت بني في المكبر كان عام 1928 للمرحوم أحمد الحصيني زحايكة، تبعه حسين أبو ننّه من العويسات، أحمد سرور ومشهور مشاهرة من المشاهرة، عليّان شقير وحسين مسلم جوهر من الشقيرات، الشّيخ محمد داود العلي عويسات مختار حامولة العويسات، عطيّة حسن عبده، كما بنى علي أحمد عبده عويسات بيتا في حيّ الشّيخ سعد. وكي يحافظوا على مصدر رزقهم الذي يعتمد على تربية الماشية وزراعة الأرض بالحبوب، انتشر عندهم الزّواج من اثنتين، واحدة تعيش مع أبناء المدارس في البيت الحجريّ في جبل المكبّر، والثّانية مرافقة لزوجها في البراري.

وهنا يجدر الذّكر بأنّ المرحوم الشيخ حسين السّرخي، الذي عاش في القرن التّاسع عشر إبّان العهد العثمانيّ، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصّة، تعلّم وأصبح فقيها مجتهدا له مؤلّفات، وقد بنى قصرا في منطقة “الحرذان” لا يزال قائما حتى يومنا هذا، وهو بحاجة إلى ترميم.

    تزوّج أبي من المرحومة حمدة حسن نوّارة المصري قريبة والدته عام 1934،  وأنجب منها ابنه البكر محمد عام 1936، محمود عام 1939، محمّد 1942، أحمد 1945، طه 1947، مريم 1950، نعيمة 1953 وجمال 1957. “وتسمية الابن الثّالث محمّدا رغم أنّ الابن البكر اسمه محمّد له حكاية ظريفة، فالابن الثّالث أطلقوا عليه عند ولادته اسم “حسن”، وعندما بلغ الثّانية من عمره مرض، فنصحتهم فتّاحة بتغيير اسمه إلى محمّد كي يشفى، فاستجابوا لنصيحتها.”

    عندما توقّف التّهريب بين فلسطين وشرق الأردنّ اشترى والدي آلاف الدّونمات في منطقة الشّيخ سعد وبراري السّواحرة؛ ليفلحها بالحبوب، وكان وإخوته قد اشتروا بيتا عام 1944 من ثلاث غرف في جبل المكبّر، ليكون قريبا من المدارس، وبنوا أمامها ثلاثة مخازن، لكلّ واحد منهم غرفة واحدة ومخزن واحد، ولم يلبث أن اشترى أبي غرفة ومخزن وحصّة أخيه محمد من الأرض، والذي اشترى بدوره أرضا قريبة وبنى فيها غرفة يتيمة. كما اشترى أبي قطيعا من الأغنام البلديّة الحلوب. وقد حقّق حلمه بامتلاك الأرض والأغنام التي تشكّل مصدر رزق لم يعرفوا غيره في ذلك الوقت.

          في العام 1945 تزوّج أبي من أمّي أمينة علان علي شقير، تزوّج للمرّة الثّانية؛ لينجب أبناء كثيرين؛ لتكون له “عزوة” لها دورها في المجتمعات العشائريّة!

أنجبت والدتي – رحمها الله ثلاثة عشر-، ستّة ذكور وسبع بنات، وهم :” ابراهيم 1948، جميل 1949، جميلة 1951، جملة 1953، سارة 1955، فاطمة 1957، يسرى 1960، داود 1963، خديجة 1964، عمر 1966، عرفات 1968، راتب 1970 وعفاف 1972. كما أجهضت باثنين.

حدّثنا أبي وأمّي –رحمهما الله- أنّ أمّي أنجبت بكرها ابراهيم “في اليوم الذي استشهد فيه البيك” والبيك هو الشّهيد عبدالقادر الحسيني، وهذا لقب أطلقه عليه أبناء جيله القرويّون، ومعروف أنّ القرويّين كانوا يمثّلون العمود الفقريّ لحركة الجهاد المقدّس التي كان يقودها الشّهيد الحسيني. حيث التفّوا حوله ووثقوا به، ويبدو أنّ هذه الحركة كانت حركة شعبيّة يقودها الحسيني مع بعض معاونيه أمثال بهجت أبو غربيّة، احمد علي العيساوي، عبدالفتّاح الزّبن من المزرعة الشّرقيّة، فؤاد نصّار وغيرهم، ولم تكن هذه الحركة منظّمة بمقدار ما كانت تعتمد على المتطوّعين. كان الشّهيد الحسيني ورفاقة من الثّوار يحلّون ضيوفا في بيتي الشّيخ حسين ابراهيم شقير –مختار حامولة الشقيرات-، وفي بيت المرحوم حمدان حسن سرور الملقب بالبلهيدي وهو من وجهاء حامولة المشاهرة. 

       عندما أصيب فؤاد نصّار،-الذي أصبح لاحقا الأمين العامّ للحزب الشّيوعيّ الأردنيّ- بجراح في إحدى المعارك مع قوّات الانتداب البريطاني عام 1937 في جبال الخليل، جاء به رجال الجهاد المقدّس إلى مضارب حامولة “الشقيرات” في بيت الشّيخ حسين ابراهيم شقير، وأمضى عندهم يوما لم يعلموا خلاله أنّه كان جريحا، وفي الليلة التّالية نقله أبي إلى الأردن-بناء على طلبه- وبتكليف من الحسيني، ولم يعرفوا له اسما سوى “أبو خالد” وممّا كان يقوله والدي وآخرون عنه: “مسيحي طويل، وسيم، قليل الكلام”، وعند نقله قال لوالدي بأنّه لا يجيد السّباحة، وطلب أن يوضع في “مشمّع” مضادّ للمياه؛ كي لا يبتلّ جسده وهو يعبر نهر الأردنّ، ولم يعلم والدي أنّه كان جريحا إلا في الضّفة الشّرقيّة، عندما وجد ثلاثة أشخاص منهم طبيب في انتظاره، حيث قام الطّبيب بالكشف الفوريّ على جراحه. وقد أمضى والدي العام 1939 كاملا معتقلا إداريّا في سجن عكّا.

نصف كيس رصاص:

كما أنّ المرحوم والدي هو من أرسله عبد القادر الحسيني قبل استشهاده بأيّام لجلب سلاح من الشّام، وعاد إليه بنصف” شوال رصاص”، عندها شعر الحسيني بخذلان العرب له، فكتب في 6 نيسان- ابريل- مذكرة لأمين الجامعة العربيّة جاء فيها: 

” السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية -القاهرة

 إني أحمّلكم المسؤولية بعد أن تركتم رجالي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح.

عبدالقادر الحسيني”.

وبعد يومين أي في 8 نيسان -ابريل-1948 قاد الحسيني معركة القسطل، إلى الغرب من مدينة القدس، وارتقى سلّم المجد شهيدا فيها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى